إرثنا الحضاريّ هدف للتدمير منذ الحملة الصليبيّة إلى الاحتلال الأميركيّ للعراق

يطمح كتاب «التراث في أتون الحروب… المخطوط العربي من القرن الخامس حتى اليوم» الصادر حديثاً لدى «معهد المخطوطات العربية» تأليف الباحثة السورية الدكتورة بغداد عبدالمنعم، إلى أن يكون مقدمة مرجعية في رصد الآثار التي خلفتها الحروب والصراعات في التراث العربي المخطوط، مذ غدا هدفاً بذاته مع الحملة الصليبية الأولى في نهايات القرن الخامس الهجري حتى الاحتلال الأميركي للعراق، وما حصل للتراث المخطوط ليس في العراق وحده، بل في كل من سورية وفلسطين.

الكتاب هو الأول في سلسلة «كراسات تراثية» قدم له مدير المعهد د. فيصل الحفيان موضحاً أسباب اختيار الموضوع وأهمية طرحه الآن، ومما قال: «هذه أول كراسة من كراساتنا، موضوعها أشد إلحاحاً من أي موضوع آخر، فالحروب والصراعات المتلاحقة والمتعددة التي تشهدها المنطقة العربية وتأثيراتها أكبر مما يتخيله المرء، وفي صلب هذه التأثيرات التراث العربي المخطوط الذي عانى ويعاني الكثير في العصر الحديث، ومن العلامات الفارقة في معاناته ما نتج من الاحتلال «الإسرائيلي» 1948 لفلسطين، مروراً بحربي الخليج الأولى والثانية في تسعينيات القرن الماضي، وهي معاناة مستمرة حتى اليوم، نشهدها اليوم في ما يحدث في سورية والعراق، إضافة إلى اليمن وليبيا، ولا ندري إلى أي مدى تتسع وفي أي صوب تتجه».

الكتاب في ثلاثة فصول، الأول خصص لعاصمتي التراث والمخطوط في سورية، حلب ودمشق، والثاني لفلسطين، والثالث للعراق، وحرصت الباحثة على أن تسجل عبر ثلاثية الجغرافيا والتاريخ والحاضر أماكن المخطوطات وما تعرضت له من أخطار عبر ألف عام وما آل إليه حالها اليوم. وتؤكد أن الكتاب ليس مسحاً أو فهرسة أو إحصاءات للمخطوطات العربية، ما بقي منها، وما ضاع، وما هو مجهول المصير، بل يطمح إلى أن يشكل مقدمة ترصد الآثار التي خلفتها الحروب على هذا التراث المخطوط، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، منذ التي غدا فيها التراث العربي المخطوط مستهدفا لذاته، أي منذ الحملة الصليبية الأولى في نهايات القرن الخامس الهجري إلى عصرنا الذي تعيش فيه المنطقة تغيرات واكبتها حروب وصراعات لم يسبق لها مثيل.

تقول الباحثة إن المنطقة العربية من أشد المناطق سخونة عبر التاريخ إلى الآن، ما جعلها عرضة لإشكالات حضارية عميقة تتعلق أحياناً بوجودها وهويتها. في أزمنة متقاربة احترقت هذه المنطقة، وكانت للحروب الدائبة في مدنها وفوق أراضيها آثار سلبية على خزائن مكتباتها وما فيها من مخطوطات. كانت الآثار مباشرة ومادية، إذ كان يجري إعدام المخطوطات إغراقاً أو إحراقاً، في حين كان من نتائج الحروب والمراحل التالية لها من أوقات باردة أو حروب غير مباشرة، أن يتعرض هذا التراث للسرقة والتهجير إلى خارج خزائنه الأصلية ومدنه، إلى خزائن ومدن بعيدة، ما أدخله في عمليات ثقافية مشكلة. وتضيف: «في نهايات القرن الخامس الهجري هاجمت الحملة الصليبية الأولى 503 هـ ـ 1109 مخطوطات مكتبة بني عمار في طرابلس الشام، فأحرقتها، ثم أغرقتها في النهر نهر أبي علي وكان ذلك أول وأضخم إعدام علمي للتراث المخطوط في المشرق العربي، فقد قضي على مئة ألف مخطوط من المجاميع الكبيرة الواسعة في مجالات العلوم والأدب والفلسفة والفلك، وهي نفيسة وصفها المؤرخون بفخامة التجليد وجودة الزخرفة والتذهيب. وخلال مئتي عام استغرقتها هذه الحملات جرى تدمير كثير من خزائن التراث المخطوط في المدائن الشامية ومنها خزائن الأقصى في القدس وسائر المدن الفلسطينية، وكانت الصدمة الأولى حين دخل الصليبيون مدينة القدس في سنة 492 هـ ـ 1098 فأجهزوا على بنيتها البشرية والثقافية».

تشير الدكتورة عبد المنعم إلى أن من بين أهم الخزائن التي دمرتها الحروب الصليبية خزانة، أسامة بن المنقذ، باني قلعة شيزر قرب حماة في سورية وكان فيها أربعة آلاف مجلد من الكتب الفاخرة، وقبل أن تنحسر الحملات الصليبية نهائيا عن الشرق العربي، وفي منتصف القرن السابع الهجري، اجتاح المغول بغداد وأغرقوا مخطوطاتها في دجلة، ومع نهاية القرن التاسع شهدت أوروبا في جزئها الجنوبي إعداماً هائلاً أحرق فيه مليون مخطوطة عربية وغير عربية من خزائن قرطبة وغرناطة أمام الملكين المنتصرين فرديناند وإيزابيلا.

كذلك ترى أن الحروب التي نالت من التراث المخطوط نيلاً أكيداً من الحملة الصليبية الأولى في نهاية القرن الخامس الهجري إلى الحادي عشر الميلادي، ويبدو أنها لن تنتهي مع الاحتلال الأميركي للعراق. إن ألف عام نالت نيلاً شديداً من التراث المخطوط، مثلما كانت الآثار التاريخية جسيمة على هذا التراث، فإن الآثار الحالية كانت أشد وقعاً ومفاجأة، غير أن الأثر المشترك والمستمر بين الحملتين الصليبية والأميركية كان السرقة وتشريد المخطوطات إلى المدن التي قدمت منها الحملتان، وتجمدت هناك في المتاحف الفاخرة، وسرعان ما تحول جزء منها إلى موضوع ما فوق مكاتب الاستشراق، وأضحت عواصم المخطوطات العربية معطلة عن دوريها الرئيسين تخزين المخطوطات التخزين الأمين، ودراستها في مركز بحثية متقدمة. وتعتبر الإرهاب الفكري حرباً من نوع آخر قائلة: «لم تكن الحروب التقليدية هي السبب الوحيد في ضياع المخطوطات وإعدامها حرقاً أو غرقاً، فهناك ما هو أدهى في بعض الأحيان من الحروب ومن صدمتها المباشرة الواضحة، ذلك هو الاستبداد الذي ينتج عنه ما يمكن أن نسميه الإرهاب الفكري موضوعاً شديد الأهمية والتفاصيل، ليس تاريخياً فحسب بل في واقعنا الحالي». وتوضح: كان من نتائج الإرهاب الفكري قديماً وحديثاً أن اضطر مالكو المخطوطات إلى دفنها في التراب أو حرقها سراً، لأنها تخالف فكرياً السلطة, حدث ذلك على المستوى الاجتماعي التاريخي العريض، ويستمر في الحدوث حتى هذا العصر نتيجة وقوع صراعات من أنواع مختلفة. فعلى المستوى الفردي أحرقت مخطوطات العلماء والمفكرين والفلاسفة، وكان أشهرها تاريخياً إحراق ابن حزم وابن رشد وكانا من أعلام الفكر الإبداعي، فقد أثارا في مؤلفاتهما قضايا إشكالية، فلابن حزم بحثه غير المسبوق في مقارنة الأديان «الفصل في الملل والأهواء والنحل» وله الكتاب الجمالي الفريد في الحب المشهور بـ «طوق الحمامة». قام المعتضد بن عبادة بإحراق كتبه فقال ابن حزم في ذلك: «فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري»، ولابن رشد محاولاته الجريئة للتوفيق بين الشريعة والفلسفة ورده على الغزالي في «تهافت التهافت … ». وتؤكد تحت عنوان «الحروب الأخيرة… سرقة التراث لسرقة التاريخ والحاضر» أن السرقة تعد بوصفها أثراً من آثار الحروب أسلوباً أثيراً جداً في السنوات القليلة الماضية سواء قبل الحروب أو بعدها. وكانت لها تأثيراتها العميقة على المخطوطات العربية في العراق وفلسطين وسورية إثر الحروب التي تعرضت لها، وكان أقدمها الحرب التي انتهت بنكبة فلسطين عام 1948 ثم نكستها ونكسة جيرانها عام 1967، فالاحتلال الأميركي للعراق عام 2002، فالحرب القائمة في سورية منذ آذار 2011 حتى الآن. إنها السرقة محصلة جهود كثيفة من تجار المخطوطات المحليين والدوليين وعصاباتهم وخبراء القوات الغازية ونفوذها العسكري، مع غطاء من الفساد الأممي القانوني المتغاضي عن ذلك! ولا شك في أنها بوصفها أثرا من آثار الحروب المستشرية والمزمنة قديماً وحديثاً قد تسببت بتهريب المخطوطات العربية وتهجيرها غرباً تحديداً.

مئات ألوف المخطوطات هجرت إلى مكتبات حملت أسماء باتت مشهورة بأنها مراكز للمخطوطات العربية في بريطانيا وفرنسا وروسيا وألمانيا والولايات المتحدة، وهي التي صدرت لاحقاً أفواج المستشرقين. السرقة والنهب وشراء الذمم خلال الحروب أو قبلها أو بعدها تسببت برسم خريطة جديدة للتراث العربي المخطوط في خزائن العالم، ذلك أن المتصفح لتاريخ الأدب العربي للمستشرق الألماني كارل بروكلمان الذي يرصد المخطوطات العربية وأماكن وجودها في العالم، يجد أن الأمكنة الجديدة للمخطوطات العربية هي الاسكوريال، أوبسالا، باريس، برلين، بطرسبرغ، بودليانا، برنستون، استوكهولم، الفاتيكان، المتحف البريطاني، لايبزغ، مانشستر، فرانكفورت…!

في الفصل الخاص بالعراق تحت عنوان «التراث المخطوط في العراق… بين كارثتي المغول والاحتلال الأميركي» تتوقف الباحثة مع فقدان خزائن بأكملها مع بدء الاحتلال وخلاله تقول: «تابع الإعلام وقنواته ما حدث داخل بغداد، فشاهد العالم على فضائياته ومواقعه الإلكترونية اجتياح الدبابات للمتحف العراقي بعيد الاحتلال الأميركي للعراق حين أخذت بقصف خزائن المخطوطات وتدميرها. كان هذا الحدث المعلن أو المرئي، أما الآثار التي نالت من التراث المخطوط فكانت قد سبقت الاحتلال بسنوات قليلة، حين بدأت الولايات المتحدة بتهديد العراق، فلم تلبث أن بدأت تظهر حوادث فقدان للمخطوطات نتيجة لسرقتها وتهريبها خارج العراق، ويبدو أن عصابات منظمة شرعت في تهريب المخطوطات في عمل شبه مبرمج، أسفر عن فقدان عدد هائل من المخطوطات، وكان بين المخطوطات التي فقدت حينذاك مخطوطات كلية الآداب في جامعة بغداد ومخطوطات مكتبة الأوقاف، هرّبت جميعاً خارج العراق». وتضيف: «اتسعت حركة سرقة المخطوطات وتهريبها وانتظمت إلى حد كبير مع تراخي عين الرقابة على هذه الثروة الوطنية التاريخية العظمى والتركيز على الشأن العسكري المباشر، فما كان من الدولة العراقية حينذاك إلا أن قامت بتمويل حملة لشراء المخطوطات، وأعادت بذلك جمع المخطوطات العراقية فبلغ عدد المخطوطات المستعادة 47 ألف مخطوط، تمثل 150 ألف عنوان، حفظت في 82 خزانة تضم هذه الخزائن مخطوطات المجمع العراقي العلمي، ومخطوطات الجامعات العراقية والمكتبات المركزية، نقلت جميعها إلى دار المخطوطات وصورت بالميكروفيلم في 10 ملايين صفحة في حين حفظت مجموعات أخرى على أقراص مدمجة، وأنجز كل ذلك قبل الاجتياح الأميركي وتم حفظ المخطوطات في 700 صندوق نقلت إلى ملجأ محصن ضد القصف الذري».

لكن مع الاجتياح الأميركي للعراق تم اجتياح جبهة المخطوطات بدأت المتاحف والمكتبات تتعرض لسرقات متواصلة بعد دخول الجيش الأميركي بغداد، أشد الخسائر فداحة تلك التي أصابت مكتبة الأوقاف المركزية وذخيرتها المخطوطية التي تقدر بخمسة آلاف مجلد مخطوط، واشتعلت الحرائق في مبنى مكتبة الأوقاف في نيسان 2003 وفقدت أكثر من نصف المخطوطات، إما التهمتها النيران أو أن النيران شكلت غطاء لسرقتها. أما مجموعة المخطوطات المهمة والمودعة في الدار فنقلت إلى الملجأ الذري. إن مخطوطات الدار تعد أكثر أهمية إذ جلبت من نوادر مخطوطات خزانة المتحف ونفائسها.

تكشف الدكتورة عبد المنعم عن محاولات جنود الاحتلال الأميركي اختراق الملجأ بعد دخولهم بغداد من دون أن يستطيعوا ذلك بسبب تصدي المواطنين العراقيين لهم ومنعهم من دخول الملجأ، لكن الأميركيين عاودوا المحاولة وتمكنوا من دخول الملجأ مع مراسلي وكالات الأنباء العالمية ومندوبي الصحف والفضائيات وفتح الملجأ والصناديق وتأكدوا أنها مخطوطات، وفي اليوم التالي أرادوا نقل هذه المخطوطات إلى قواعدهم، لكن المواطنين تصدوا لهم من جديد، وحاصروا الكولونيل قائد المفرزة الأميركية فاضطر إلى الانسحاب من مكان. ومع ذلك، استطاع الأميركان فرض الوصاية على التراث المخطوط فزار فريق من الخبراء من مكتبة الكونغرس موقع المخبأ وعاين المخطوطات وطريقة التخزين والظروف المواكبة لذلك. ثم أقر الخبراء أن المخبأ مجهز ومعتنى به، وأن درجات الحرارة والرطوبة صالحة لحفظ المخطوطات، وأن المخطوطات محفوظة في صناديق من الألمنيوم السميك.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى