فيلم «حب مجنون» جيسيكا هاوسنر… عذاب الروح والصراع الداخليّ
عالم من الألوان الحية والمريحة وديكورات متسمة بالهدوء، تنقلنا إليه المخرجة النمساوية جيسيكا هاوسنر عبر فيلمها «حب مجنون«، الذي شارك في مهرجان كانّ 2014، ومهرجانات عالمية أخرى، ويعرض في صالات السينما في شباط الجاري.
مع الممثلة بيرته شخنوينك في دور هانرييت الزوجة الرقيقة المسالمة، وكريستيان فريدل في شخصية الكاتب والشاعر الألماني هاينريش فون كلايست، الذي استلهم العمل من قصة حياته، يعود مشاهد فيلم «حب مجنون» إلى برلين 1810-1811 وإلى أجواء أرستقراطية ألمانية تشكو بين حين وآخر من امتداد الأثر الفرنسي وتهديده استقراراً طبقياً ألفته فئة تنعم بامتيازات خاصة.
هانرييت فوخل، الزوجة والأم المتزنة، تتعرف إلى هاينريش فون كلايست الشاعر الذي فشل في إقناع ماري التي يحبها بأن تنتحر معه بدءاً من خلال قصيدة له، ثم من خلال حوارات في مجالس ولقاءات، فتغوص أكثر في ما تشعر به، وإن لم تبد تحوّلات كبيرة في سلوكها.
يواجه الشاعر المرأة التي تعبّر في أول حواراتها معه عن رضاها، لكونها ملكاً لزوجها، بحقيقة نظرته لنفسه وللحياة ورغبته في الموت، ويحاول إقناعها كذلك بغياب الحب في حياتها. يرى هايرينش نفسه حسّاساً بروح جريحة، وبعد أن تمرض هانرييت وتتوجس خيفة من مرضها، لا يزعجه أن يقول لها أنه أيضاً مريض داخلياً، وأن علته لا ترى. لا يتخلى الشاعر عن فكرته وصديقته ماري التي رفضت اقتراح الانتحار معه أكثر من مرة. تقبل على الزواج من فرنسي، متشبثة بالحياة، بينما تراجع هانرييت نظرتها إلى الأمر وتبدي استعداداً لمشاركته رحلة الذهاب إلى الموت. أعلمها الطبيب بعد استشارة زملائه أن حالتها ميؤوس منها، ونفى شكوكه في أنّ آلامها الجسدية قد تكون ناجمة عن معاناة نفسية، وشاركها زوجها وابنتها ووالدتها تلقي الخبر.
في مشاهد كثيرة من الفيلم يظهر التحكم في العاطفة ولجمها لمصلحة البروتوكول الاجتماعي والحدود المرسومة بين الأفراد، حتى وإن اشتدّت القرابة بينهم. المسافة بين هانرييت وزوجها، أو بينها ووالدتها، أو بينها وابنتها تتساوى في كونها تحافظ على بعد يجعلها لا تذوب وتعرّي الضعف والرهف. ثمة احترام مستميت لحفظ صور نمطية لا تسقط أمام المستجدات مهما تكن مخيفة أو مقلقة. الزوج فوخل الذي يقترح على زوجته المريضة أن تقصد معه باريس لاحقاً لأجل العلاج لا يزعجه أن تخرج للنزهة مع الشاعر.
في الغابة الباردة تتحقق الأمنية، لا تكاد هانرييت تستدير حتى تخرسها رصاصة ويفي الشاعر بوعده لنفسه، فيكون الميت بعدها. تتردد في الفيلم أغنيتان على إيقاع البيانو: الأولى عن بنفسجة تشاهد راعية جميلة فتتمنى لو كانت أجمل الأزهار، فتقطفها الفتاة وتضمها فتكون قريبة إلى صدرها، لكن الفتاة ماشية لا تنتبه إليها فتدوسها، ومع ذلك تفنى سعيدة إذ لامستها قدم الجميلة. والثانية عن الرغبة في الذهاب إلى مكان مريح خارج الاضطراب والقلق، وضعهما في الفيلم، مثل باقات الأزهار وأشياء أخرى ذات دلالات شاركت في إثراء المشاهد، جاءت معزّزة لرهانات المخرجة التي تجاوزت إثارة الدهشة عن طريق فتنة الزي والرومانسيات التاريخية، إلى عمق الصراع الداخلي وأثر المسافة والقدرة على الاحتواء بين الأشخاص.
عندما يجيب هاينريش فون كلايست زوج هانرييت الذي يسأل عن محتوى الحقيبة، بأنّه يحمل أدوات لصيد الفراشات، يستغرب هذا الأخير قائلاً »فراشات في تشرين الثاني!». ألا يعرف هذا الأخير أن روح زوجته ستكون فراشة تشرين الثاني التي أرادها الشاعر أن تتعرف إلى عذابه الروحي وتشاركه الرحلة.
ينتهي «حب مجنون» بالمعلومة الجديدة التي سيكشفها الطبيب في المشاهد الأخيرة، وتؤكد حقيقة الرهف الإنساني الذي وإن سترته الأناقة واللباقة والسلوك المهذب لا تستطيع إلغاءه.
صوّر الفيلم في لوكسمبورغ وألمانيا والنمسا، لكن العنوان فرنسيّ «أمور فو» أي «حب مجنون».