غزة… برميل بارود سينفجر
راسم عبيدات
يبدو أنّ الأوضاع في قطاع غزة قد وصلت إلى مرحلة كارثية، فالقطاع برميل بارود متفجر، شرارة صغيرة كافية لإشعاله، واشتعال القطاع لن تقتصر تأثيرات حريقه ونيرانه وتداعياته المدمّرة على القطاع، بل ستطال مجمل الوضع الفلسطيني.
تسير الأوضاع في قطاع غزة بوتائر عالية نحو الانهيار والتدهور، وهناك مؤشرات جدية على عودة حالة الانفلات وفقدان السيطرة، وخصوصاً في ما يتعلق بعدم قدرة حركة حماس على الوفاء بالتزاماتها المالية تجاه السكان، وبالذات ما يتعلق برواتب عشرات الآلآف من موظفيها، الذين جرى توظيفهم بعد تموز 2007، ما يعني تعمّق حالة الفقر والجوع لدى سكان القطاع الذين يعيش معظمهم أصلاً تحت خط الفقر والجوع، ويعتاشون على المساعدات والإعانات الخارجية، وبالتالي هناك خشية من أن يخرجهم الجوع والفقر عن طورهم ويدفعهم إلى ممارسات وسلوكيات، قد تحوّل هذه المشكلة أو الظاهرة إلى شكل من أشكال الجريمة، التي قد تأخذ صفة فردية أو منظمة، فالفقر والجوع من شأنهما أن يجعلا الناس تردّ بطريقة غير واعية.
لم تأت زيارة مندوب الرباعية طوني بلير إلى القطاع، من أجل عيون أهل غزة ومصلحتهم والتضامن معهم، فهو واحد من أصحاب الرؤية «الإسرائيلية» في قضية إعادة الإعمار، وفي ما يتعلق بحلّ الصراع، وهو يرى في نضال الشعب الفلسطيني شكلاً من أشكال الإرهاب، ويعتبر أغلب الفصائل الفلسطينية، إن لم نقلْ جميعها، حركات إرهابية، وبالذات حماس.
ألمح بلير إلى أنّ الحالة الفلسطينية السائدة وغير المتوافقة، هي المسؤولة عن تأخر عمليات الإعمار ورفع الحصار، وأنّ ما يشهده القطاع من حالة غليان قريبة جداً من انفجار مدمّر، هي التي دفعته إلى هذه الزيارة للبحث عن مخارج للحلّ والتسريع في عملية الإعمار، وبما لا يجعل الأوضاع تنفجر.
لأول مرة يتحدث أمين عام ما يُسمّى الجامعة العربية نبيل العربي «بالعربي»، ويقول إنّ من يتحمّل المسؤولية عن عدم إعادة الإعمار، هما طرفا الانقسام حماس وفتح ، حيث أنّ المجتمع الدولي يرفض أن يتمّ صرف أموال الإعمار والإشراف عليها من قبل حركة حماس، كما أنّ فتح لا تريد لحماس أن تكون طرفاً أو شريكاً في الإشراف على إعادة الإعمار، لا توافق على بقاء عدد من موظفي الحركة على المعابر.
كلاهما يتصارعان على السلطة والنفوذ، والشعب يواصل دفع الثمن حصاراً وجوعاً وفقراً وتشرّداً، في وقت يواصل الطرفان حوارات ولقاءات «الطرشان»، حيث لكلّ منهما أجندته الخاصة التي يريد أن تكون هي السائدة، ناهيك عن التدخلات العربية والإقليمية والدولية لصالح هذا الطرف أو ذاك، وبذلك تكون «إسرائيل» المستفيد الأول من كلّ ما يحصل.
ويبدو أنّ الدوران في الحلقة المفرغة و»حوار الطرشان» هذا سيجرّ على القطاع مزيداً من الفوضى والعنف، وقد عادت مظاهر الانفلات الأمني والفوضى، من خلال التفجيرات ومحاولات الاغتيال التي طالت العديد من قادة وأعضاء فتح، وعدد محدود من «حماس».
دفع الجوع والفقر والبطالة بالبعض إلى التسوّل أو الانحراف والسرقة وحتى ممارسة البلطجة، بسبب تشديد الحصار وإغلاق المعابر وتدمير الأنفاق، والبطء الشديد في عمليات الإعمار، مع ما يشكله ذلك من ضغط جماهيري كبير على حركة حماس.
هذه القضايا والظروف الضاغطة قد تدفع بـ»حماس» إلى تحويل «أزمة الجوع» إلى أزمة سياسية منظمة، بما يحوّل تلك الظاهرة الاجتماعية إلى جريمة منظمة، من خلال الدفع بموظفي وأهالي القطاع إلى القيام بأعمال تخريبية وبلطجة، وهذا يعني انتشار الفوضى والعنف وسلطة المافيات وتعمّق العشائرية والقبلية.
أما من تهدّمت منازلهم بفعل العدوان «الإسرائيلي الأخير»، فمعاناتهم مضاعفة، بحيث لا تقيهم الخيام والكرفانات البرد والأمطار والثلوج.
لا حلول في الأفق القريب، فدور حكومة الوفاق الوطني في غزة شكلي ومظهري أكثر مما هو عملي، فهي لا تقف على هموم ومشاكل أهل القطاع المتراكمة والمتزايدة يوماً بعد يوم، ولا تقدّم الحلول التي تمكّن الناس من العيش بكرامة، وفي المقابل لا توافق بين الحكومة و»حماس» على إيجاد آليات تمكّن الحكومة من ممارسة دورها وصلاحياتها في القطاع.
إنّ تضخم أعداد موظفي حكومتي غزة ورام الله وعدم قدرة حكومة الوفاق على الوفاء بالتزاماتها المالية تجاه موظفي «حماس»، تصعّب إيجاد حلول للمشكلة، فحكومة الوفاق بعد وقف «إسرائيل» تحويلها أموال الضرائب الفلسطينية إلى السلطة، غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها تجاه موظفيها.
علينا أن نتحدّث بوضوح، فمشكلة المشاكل التي تعيق الإعمار ورفع الحصار في شكل أساسي، هي مشكلة رواتب حكومة حماس، وهي مشكلة في حاجة إلى حلّ جدّي وحقيقي، ويجب أن لا يتمّ إخضاع المسألة هنا إلى الابتزاز السياسي، فلا أحد يقبل بتجويع عشرات الألآف من أبناء شعبنا في القطاع، لكونهم من حركة حماس أو عائلاتهم مرتبطة بها في شكل أو آخر، ومن غير المعقول أيضاً، الاستمرار في اختطاف القطاع تحت هذا البند والخلاف، فلقمة عيش الناس تمسّ جوهر حياتهم، قد تكون مبرّراً لسلوكيات لا تحمد عقباها، فالكثير من الثورات الاجتماعية في التاريخ قامت بفعل الجوع.
لم يفِ المجتمع الدولي بالتزاماته ووعوده بتقديم أموال الدعم لقطاع غزة، وكذلك المحادثات مع دولة الاحتلال بالرعاية المصرية، والتي لم تستأنف سواء بسبب الظروف التي تمرّ بها مصر، أو بسبب الانقسام الفلسطيني، وفي حين تحاول «إسرائيل» حصد النتائج والمنافع من العدوان والإعمار، من حيث التحكم بالمواد المسموح بدخولها عبر المعابر المتحكمة بها، وشراء المواد اللازمة للإعمار من مصانعها.
لكي يتمّ سحب ونسف الذرائع الأميركية و»الإسرائيلية» وغيرها، في عدم وفاء المجتمع الدولي بالتزاماته بإعادة الإعمار ورفع الحصار، يجب أن يتحلّى الجميع بالمسؤولية الوطنية، وأن تكون هناك شراكة وطنية حقيقية، فالعودة إلى سياسة المحاصصة والتفرّد بالقرار، لن تقود بالقطاع إلى الخروج من أزماته المركبة والمتداخلة، وكذلك سياسة الردح والردح المضادّ، والاستقواء بالخارج لنصرة هذا الطرف أو ذاك ليست عنوان الحلّ، بل هي تكريس وتفاقم للأزمات.
إنّ منع برميل البارود من التفجّر والتدمير الذاتي في القطاع، هي مسؤولية فلسطينية في الدرجة الأولى، وهذا غير ممكن من دون شراكة سياسية حقيقية، بعيدة من منهج وثقافة الإقصاء، شراكة تحفظ للناس كراماتها، وتضمن لهم العيش الكريم لا قطع الأرزاق، ورغم ضخامة العبء والحمل والمسؤولية، يمكن أن نجد الحلول بالتعاون والعمل الجماعي، فهل يعي الجميع مسؤولياتهم، أم نستمرّ في مسلسل التخريب والدمار الذاتي؟
Quds.45 gmail.com