نجوة قصاب حسن تحلّل في دراستها «هكذا تكلمت الأغاني» مضمون 2800 أغنية
كتبت رشا محفوض من دمشق- سانا : لم يسبق أن تناول أحد من الباحثين العرب تحليل مضمون الأغاني العربية ومعانيها وتياراتها مثلما فعلت الدكتورة والباحثة السورية نجوة قصاب حسن في كتابها الجديد «هكذا تكلمت الأغاني» إذ بحثت في تحليل مضامين الأغاني الشائعة والدارجة عبر نحو قرن من الزمن، مركزة على الكلمات والمعاني لإبراز الخلفية الثقافية والقيمية والاجتماعية الكامنة فيها.
تقدم رؤية وصفية تحليلية لمضامين كلمات الأغاني وتشكل بمجموعها إطاراً فكرياً ثقافياً حول مسار التأليف لأشعار الأغاني في تلك الحقبة والتي يتجدد حضورها وتتكرر ملامحها إلى وقتنا الراهن.
جمعت الباحثة السورية وقرأت 2800 أغنية هي المادة المعتمدة في دراستها العلمية والمنتقاة من ست دول عربية هي سورية ولبنان ومصر والعراق والأردن وفلسطين، والأغاني هي من الدارجة والشائعة في تلك الدول منذ بداية القرن العشرين إلى عام 2012.
تعتمد الدراسة منهج تحليل المضمون الذي شاع استخدامه في ميادين العلوم الاجتماعية والسياسية والأنتروبولوجيا والإعلام والأدب وغيرها، كما يندرج هذا البحث في إطار كشف الخلفيات الثقافية والقيمية والاجتماعية وبيان عمق أثرها في ذهنية مؤلفي الأغاني والمتلقين الذين يستمعون ويعيشون مجدداً المعاني المتضمنة ويتقبلونها أو يرددونها. وتقدم الباحثة رؤية جديدة لم تكن ملحوظة سابقاً، مشيرةً إليها بلغة الأرقام والحقائق ونسب تكرار الظواهر المتضمنة بكلمات الأغاني التي تم كشفها تحت مجهر العدادات والحسابات لا عبر السمع والإحساس. أما الهدف فتؤكد الدكتورة نجوة على ضرورة أن تكون هذه الدراسة حافزاً للبحث في هذا المجال المعرفي ونواة لدراسات جديدة تشمل تحليلاً وتوثيقاً أوسع لجميع الأغاني العربية وقراءةً جديدةً لكلماتها، لما لذلك من أهمية في فهم الخلفيات المكونة لمخزوننا الثقافي وتأثيره في وعينا والمناخ الفكري المستقبلي الذي سيعيشه شبّاننا .
الإشكالية الأولى التي ركزت عليها الدكتورة نجوة في دراستها هي ما يتعلق بصيغ المخاطبة للطرف الآخر في معظم الأغاني العربية، والتي تتسم بالإصرار على تمويه هوية المخاطب وتغييبه.
وزعت أغاني الدراسة بحسب جنس المخاطب الى 753 مغنياً من أصل 2800 أغنية تتوجه إلى المحبوبة بصيغة المذكّر، والعدد هذا يشكل نسبة 55 في المئة من أصل مجموع أغاني الذكور، إذ تؤكّد المؤلفة على أهمية طرح إشكالية المخاطبة في الأغاني كقضية لها أساسها السوسيولوجي وامتداداتها في الجذور الثقافية والقيمية في المجتمع العربي، ودرس ارتباطاتها بسوسيولوجية اللغة وبالمواقف المتعلقة بقضايا النوع الاجتماعي الجندر وما يعكسه من نظرة المجتمع إلى الأنثى والحب وأساليب التعبير عنه.
تشير الدراسة الى ظاهرة أغان يخاطب فيها المحبون أحباءهم ويبثون مشاعرهم بصيغة الجمع. عن ذلك تقول الدكتورة نجوة: «رغم تغير الظروف في هذا الجانب وعدم تشدد المجتمع في صيغ التعبير عن المشاعر والعواطف، لا يزال ثمة تفضيل لاعتماد صيغٍ غير مباشرة في بث مكنونات النفس والتعبير عن العواطف، وبينها اللجوء إلى المخاطبة بصيغة الجمع لإبهام المستمع وتحويل نظره عن المقصود بالحب تحديداً».
تبين الدراسة كذلك اتجاه المغنين في مناجاتهم وبث مشاعرهم إلى جهاتٍ أو مخلوقات أضفوا عليها الحياة والوعي وتصوّروا أنها تقاسمهم العواطف والشوق والحنين، مثل الطيور وبخاصة الحمام، فهي تحمل المراسيل وتحتل المكانة المتقدمة في اللاوعي الجمعي إذ يسّلم المحبون رمزياً إلى الطير رسائلهم وتمنياتهم فوردت 295 أغنية ذكرت فيها الطيور بأنواعها وسماتها وهي تشكل نسبة 10.5 في المئة من مجموع الأغاني.
حول طبيعة المشاعر في الأغاني، تصنّف الباحثة أنواعها وبيان تكراراتها لمؤشرات دالة على صور الحب وحالاته المعاشة، متوسعة في توصيف صيغ التعبير عن الحب وما كتب عنه في التراث والشعر والإنتاج الأدبي والفكري، كمدخل أو خلفية ثقافية تمهّد لقراءة محتوى الأغاني من منظار تاريخي وسوسيولوجي.
الأغاني التي تغلّفها مشاعر الفرح والسعادة والرضا والأمل والشوق والمسامحة ومجموعها 781 أغنية تشكل نسبة 27.8 في المئة من أصل عينة الأغاني، وعدد الأغاني التي تضمنت الصبر والعتاب والخوف والعذاب والبكاء والنار والاحتراق والنسيان والكره 1022 أغنية بنسبة 36.5 في المئة من أصل العينة بزيادة بنسبتها 8.7 في المئة عن أغاني الفرح والسعادة، أما مشاعر الطرف الآخر بحسب ما وصفتها الأغاني فتتسم بالهجر والبعد والرحيل. ويبدو أن مؤلفي الأغاني أحبّوا، بحسب الدكتورة نجوة، تلك الحالة المأسوية لتصوير عمق الحب ولهيب الشوق ومعاناة الحنين والصبر، مثلما استساغها المستمعون فاستمر تكرار ذكر البعد والفراق في الأغاني عبر العقود لتبلغ 251 أغنية. كذلك العقبات الاجتماعية عبر صور كتمان الحب واللجوء الى سرية العواطف تفادياً للضغوط، ويبرز حضور العاذل في الأغاني إذ أدرك مؤلفو الأغاني والشعراء دور العذال في رسم حدود المشاعر والحواجز التي ينبغي عدم تجاوزها. تقول المؤلفة: «إن اختراع العاذل كان كعائقٍ بشري افتراضي متحول ونافذ إلى عمق صميم العلاقات والمشاعر الحميمية ليقوم بدور كبح لجام الاندفاعات العاطفية كي لا تأخذ أقصى مداها في التعبير، فمع حضوره الوهمي أو الواقعي يتم الالتفاف والتشفير والتلميح والتعميم أو الانكفاء في البوح والمناجاة وقد تمثل ذلك الزخم في حضور العاذل الذي يثير المخاوف والحذر في 580 أغنية من أصل العينة».
تتطرق الدراسة عبر تحليل مضامين الأغاني إلى وصف الحبيبة ومزاياها من زاوية السمات التي تسببت بنشوء العاطفة، والصفات التي وصف بها المغنون من يحبون من خلال التكرارات التي وردت في العينة المدروسة، فكان وصف العيون وجمالها وسحرها ولغتها ودورها من أبرز الصفات إذ تفنن المؤلفون في وصفها ووصف حالة الحبيب حيالها. وتلفت إلى حضور الليل والقمر والطبيعة بكثافةٍ، فثمة 1474 أغنية بنسبة 52.6 في المئة من أغاني العينة المدروسة تحمل إشارة إلى مكونات الطبيعة ومظاهرها فيرد مثلاً ذكر الليل في 506 من الأغاني، ويُذكر القمر في 101 أغنية، كما تتضمّن الأغاني إشارات الى النجوم والشمس والبحر ومكونات الطبيعة التي توحي الجمال وتحرك المشاعر العاطفية.
أهمية هذه الدراسة تعود الى طبيعة موضوعها والعيّنة الضخمة من الأغاني المعتمدة التي تمنح الباحثة القدرة على تعميم النتائج واعتمادها كمؤشرات ذات دلالات واضحة، وما تعكسه تلك المضامين من مواقف واتجاهات فكرية وثقافية وفنية تم تبنيها عبر عقود، كذلك المنهج المعتمد وهو منهج تحليل المضمون الذي ندر استخدامه في مجال البحوث الاجتماعية في العالم العربي.
أُغني البحث بشواهد الأغاني وفق رؤى جديدة ومن معايير متعددة أبرزتها الأرقام والنسب المئوية في إحصاءات دقيقة ذات صدقية تعكس الواقع وتبرز الحقائق التي غيبتها البداهة والاستمرارية فنراها مجدداً بعين متفحصة ناقدة. كتاب «هكذا تكلمت الأغاني» للدكتورة نجوة قصاب حسن، أستاذة علم الاجتماع في جامعة دمشق ووزيرة الثقافة سابقاً صدر في 383 صفحة قطعاً وسطاً.
«موشّحات أندلسية» كتابا تعريفيّاً بالفنّ الخالد
يقدم الدكتور محمد رضون الداية في مؤلفه الجديد «موشحات أندلسية» تعريفاً بالموشح الأندلسي واختيارات من الموشح الأندلسي منذ بداياته المعروفة التي وصلت إلينا إلى خواتيم حياة الفكر والفن في الفردوس القديم، «الأندلس».
يوضح الدكتور الداية أن كلمة الموشح ارتبطت بالأندلس، رغم انتشار هذا الفن وذيوعه في أقطار العرب، إذ بقي الاسم على حاله، الموشح الأندلسي، أو التوشيح الأندلسي، نسبة الى بلاد الأندلس التي تطور في ربوعها وبرز أشهر ناظميه من تلك البقاع. وثمة اعتماد على كتب اللغة في تعريف الوشاح على أنه قطعة من الجلد ينسج عليه ويرصع بالجواهر، تشدّه المرأة بين عاتقها وكشحها خصرها، وهو يشبه حالياً الذي يقدّم إلى السفراء والدبلوماسيين في نهاية الخدمة أو لدى التكريم.
يتألف الموشح الأندلسي من توالي جزءين من الموشح يتكرّر مثلهما وزناً وايقاعاً وقوافي داخلية، وظهر في الأندلس مع القرن الثالث الهجري بعد نشاط موسيقي عال إثر دخول زرياب إلى الأندلس قادماً من المشرق، محركاً نهضة غنائية موسيقية ظهر أثرها في فن الموشح.
ينسب، بحسب الداية، أول موشح إلى شاعر أندلسي اسمه مقدم بن معافى القبري من بلدة قبرة قرب قرطبة ولم يبقى من موشحاته شيء، لبعد الزمان من جهة، ولأن مؤرخي الأدب ما كانوا يدونون الموشحات. ويوضح الداية أن سبب نشأة الموشح هي الحاجة الى نصوص جديدة تصلح للغناء الذي انتشر وذاع نتيجة تطور الموسيقى في الأندلس، فظهر التفنن العروضي في البحور المستعملة والمهملة، ونظم تلك النصوص الجديدة بناء على بعض الأغاني الشعبية الدارجة وقد تكون من المشترك بين التراث الأندلسي العربي والتراث الشعبي للبيئة القديمة في الأندلس قبل الفتح العربي. ويكشف الكتاب أن الذين نظموا الموشحات وكتبوها بالعربية هم شعراء الأندلس وأضافوا إليها أحياناً العامية والأعجمية، لافتاً إلى أن بعض شعراء العصر الحديث حاولوا رد الموشح إلى التطور الطبيعي للنظم العربي كون هذا الفن أندلسي المنشأ يرتكز على أصول مشرقية.
يرفض الداية نسبة أي موشح إلى الأجانب، إذ نقل شعراء التروبادور الإسبان وأمثالهم عن التراث الأندلسي وكان ظهورهم جميعاً بعد ظهور الموشح واكتماله بزمن بعيد. ويرى الداية ان الزجل الأندلسي هو في أصل أنواع الزجل التي ظهرت في عدد من الأقطار العربية تباعاً، ومن ذلك «الجزل» الذي يتقنه أهل القلمون وغيرهم في بلاد الشام، إذ مر في مراحل منذ الوشاح مقدم بن معافى القبري، ثم جاء يوسف بن هارون الذي طور وحسّن، وبعده عبادة بن ماء السماء. ويقسم الداية الموشح قسمين، موشح شعري وموشح غير شعري، أما الشعري فهو ما بني على وزن من أوزان العرب المعروفة كذاك الذي نجده في موشحة لسان الدين الخطيب وجاء فيها:
جادك الغيث إذا الغيث هما
يا زمان الوصل بالأندلس
أما الموشح غير الشعري فيتكون القفل فيه من سطرين وأربع فقرات، وليس للموشحات أوزان تقف عندها ولا عروض خاصة بها، فالموشح هو صنعة الوشاح على ما جاء في ديوان ابن خاتمة الأنصاري الأندلسي القائل:
ثوبك أحرز من الحبر
فقد أملاني
قال خليني نفتصل
في بلد راني
يعتبر الموشح الأندلسي من الفنون التراثية العريقة التي ساهمت في بناء الطرب الغنائي، إلا أنه سجل أول حالة تدهور في بناء الشكل التنظيمي للشعر العربي وتسرب اللهجة العامية الضحلة إليه، ما يدل على أنه كان مشجعاً لكثير من الحالات السلبية التي انتابت الشعر وبناءه الأصيل.
صدر هذا الكتاب في منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، في 143 صفحة قطعاً كبيراً.