مختصر مفيد

المشهد السوري منذ حرب الجنوب التي افتحتها «إسرائيل» بغارة القنيطرة قبل حوالي شهرين، وصولاً إلى حرب الشمال التي توّجتها تركيا بدخول قواتها إلى الأراضي السورية، تحت راية إخلاء رفات سليمان شاه، يبدو متجهاً إلى المزيد من السخونة، وبالمقارنة مع هذا المشهد خلال شهرين سابقين لعملية القنيطرة كان الاسترخاء هو عنوان الحدث السوري، حيث التحضيرات كانت على قدم وساق لحوارات موسكو بين الحكومة السورية والمعارضة، ومساع مصرية روسية مشتركة لفك وتركيب تشكيلات المعارضة بصورة تتيح إنتاج بنية معارضة تلتزم أولوية الحرب على الإرهاب وما يستدعيه ذلك من تعاون بين الحكومة والمعارضة وتدعيم موقع الجيش السوري كعمود فقري لهذه الحرب من جهة، وتسليم بالآليات الديمقراطية لتطبيق بيان جنيف الخاص بالحلّ السياسي، وإعادة تكوين السلطة ومؤسساتها الدستورية، ومدخلها الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، والانطلاق من النصوص الحالية للدستور، وإخضاع تعديلها وتغييرها، سواء بالنسبة إلى صلاحيات السلطات أو مدّة ولاياتها أو آليات تبديلها، لما تحدّده الانتخابات النيابية من نتائج تبلور نصاباً لازماً لكلّ تعديل في الدستور، وهذا يعني أنّ المعارضة الجديدة، هي شريك في عملية سياسية مع الحكومة الحالية، لبلورة تفاهم ينصّ على تشكيل ائتلاف حكومي موقت، يحشد القوى الشعبية والسياسية في الحرب على الإرهاب وراء الجيش السوري، ويخاطب الخارج الإقليمي والدولي لإعادة صياغة علاقاته بالدولة السورية على قاعدة احترام إرادة السوريين، في تشكيل حكوماتهم وسلطاتهم، والحكومة الجديدة ستكون مسؤولة عن التحضير لانتخابات برلمانية في الموعد الدستوري المقرر بعد عام، لتتشكل عبر هذه الانتخابات، التي يفترض توفير كلّ الضمانات اللازمة لجعل نتائجها موضع اعتراف داخلي وخارجي جامعين، مؤسسات السلطة ومن يقودها، فمن معه ثلثي البرلمان لديه تفويض تعديل الدستور وتشكيل الحكومة، بما في ذلك تعديل مدة ولاية رئيس الجمهورية وصلاحياته، وإذا لم تنجح المعارضة بنيل هذا النصاب يصير بقاء الرئيس الأسد حتى نهاية ولايته أمراً محسوماً وبذات الصلاحيات، حتى لو نالت المعارضة أغلبية البرلمان وتمكنت من تشكيل الحكومة وترؤسها، فترتضي التساكن مع الرئيس بانتظار الانتخابات الرئاسية المقبلة وتنافس على الرئاسة، وبالتالي كان واضحاً أنّ المسار السياسي يتقدّم، وكان الدعم الأميركي لمسار موسكو، ومعه الدعم العلني للمبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، لحوار موسكو، يقولان إنّ المسار السياسي يحظى بالمساندة اللازمة من القوى الكبرى بصورة تجعله الخيار الأوسع احتمالاً في مقاربة الأزمة السورية، بينما على ضفة موازية كانت المواقف السياسية الدولية تسجل خصوصاً من واشنطن تغيّراً في النبرة واللهجة تجاه دور الرئيس الأسد، وهو المحور الذي يختصر الأزمة في سورية، حيث بدت الدول الغربية وعلى رأسها أميركا تنتقل تدريجاً من شعار لا حلّ سياسي بوجود الأسد إلى لا بدّ من الأسد في أيّ حلّ.

اليمن هو الآخر انتقل بالتزامن مع سورية، من مناخات بدا فيها أنّ الحلّ السياسي يقترب، والتسويات قيد الإنجاز، في مرحلة ما بعد سيطرة الثوار على القصور الرئاسية، وأنّ الأمور تدور حول تشكيلة المجلس الرئاسي وقوامه، وقد تعلن بين لحظة وأخرى، وفجاة بدا أنّ اليمن يذهب نحو التصعيد مع نجاح الرئيس المستقيل منصور هادي بالفرار إلى عدن، وبدء تجميع شبكة سياسية عسكرية داخلية داعمة للمواجهة مع التيار الحوثي، تساندها جبهة خارجية تحصر تعاملها مع الرئيس منصور هادي وتتخذ من الدعوة إلى انسحاب الحوثيين ولجان الثورة من المدن وفي مقدّمتها صنعاء وإعلان اعترافهم بمنصور هادي كرئيس شرعي كشرط للعودة إلى الحوار حول الحلّ السياسي الموعود، وصار الاستقطاب بين عدن وصنعاء، مصدراً لتوقع نشوب حرب اهلية، ينقسم معها اليمينون ومن ورائهم المنطقة والعالم، إلى معسكرين متقابلين، بصورة تستعيد أشدّ لحظات الأزمة السورية اشتعالاً.

مع التصعيد في الجبهتين السورية واليمنية، تبخّرت الآمال بالحلول السياسية، رغم أنّ لا شيء يوحي بأنّ الحركة العسكرية للحكومة التركية، قد أرادت إيصال رسالة حرب، وهي التي حرصت على إبلاغ القنصلية السورية في اسطنبول بتفاصيل العملية، واختيارها في منطقة تحت سيطرة داعش ، وجعل عنوانها بعيداً عن الملفات السورية المتصلة بالحرب، وبالمقابل لا شيء يوحي بالقدرة على استدراج تدخل خارجي في اليمن يعدّل موازين القوى، في ظلّ عجز مسلّم به لدول الخليج عن فعل ما يتخطى تقديم الدعم المالي والديبلوماسي، ما جعل الانطباع السائد بتصنيف التصعيد ضمن دائرة التفاوض، وليس المواجهات المفتوحة.

الواضح أنّ المعادلة الدولية ومثلها المعادلة الإقليمية، تصاغان معاً، والواضح أيضاً انّ الملفات التي ترتبط برسم المعادلات الكبرى، قد فعلت فعلها، وخصوصاً ترسيم حدود الأدوار التركية و الإسرائيلية والسعودية، بعد أربع سنوات من المواجهة المفتوحة التي شهدتها سورية، والتي سلكت مساراً تنازلياً منذ التسوية على الملف الكيميائي السوري، وما تبعه من تفاوض يتقدم كلّ يوم على المسار النووي الإيراني مع الغرب، لكن كلّ ذلك كان ينتظر نتائج حرب أوكرانيا، والمكانة التي سترسو عليها القدرة الروسية على التأثير في الموازين الأوروبية واستطراداً الصمود أمام الضغوط الأميركية، ليتحدّد دخول ساعة ترسيم الأحجام في التسويات في الملفات الساخنة، فمع روسيا الضعيفة، ستعود المواجهات في ساحتي سورية واليمن إلى ما هو أدهى، وسيُعاد فتح ما كان قد أقفل في المفاوضات حول الملف النووي الإيراني وحجمها الإقليمي، ومع ثبات روسيا وخروجها الطرف الأقوى من المواجهة، سيحفظ في الملف الإيراني ما تحقق ويتسارع الإنجاز للمعلق من العناوين، لكن سيتمّ فتح مسارح التجاذب اليمنية والسورية لتحديد حجم الأدوار التركية والسعودية، بعدما أخذت إسرائيل مسارها المنفرد، سواء بالخروج من ساحة الحرب خفيضة الجناح بعد إذلال المقاومة لها في رسم قواعد اشتباك جديدة حدّدت معالمها عملية مزارع شبعا، وبعدما اختار بنيامين نتنياهو نقل الحرب على التفاهم الأميركي الإيراني إلى عقر الدار الأميركية.

انتهت الحرب في أوكرانيا، جملة نطقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لتنطلق مرحلة جديدة يتكرّس فيها لروسيا مكانة الدولة القوى في أوروبا وتتبخر معها، مشاريع الدرع الصاروخية، والرهانات على الابتزاز الأمني لروسيا في حدائقها الخلفية بضمّ أوكرانيا وجورجيا إلى حلف الأطلسي، ويصير خيار التسوية واقعياً بوقوف الهرم على قاعدته، ليتمّ البناء عليها، بعدما كان مستحيلاً القول إنّ التهدئة والاسترخاء في ساحتي سورية واليمن يمكن أن تنضج كتسويات منجزة بينما روسيا وأميركا في ذروة المواجهة، وحرب أوكرانيا في حال من الالتهاب.

عاد كل شيء إلى نصابه، فترسّمت معالم المعادلة الدولية الجديدة، بتوزان روسي أميركي جديد، وتكرّست المعادلة الإقليمية، بمكانة مميّزة وحاسمة فيها لإيران، واستردّت سورية واليمن القدر اللازم من الحيوية والسخونة، لترسيم الأحجام والأوزان في التسويات، وخصوصاً مكانة وحجم كلّ من تركيا والسعودية في الملفين السوري واليمني.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى