عن هجمة «الذئاب المنفردة» وخبرة الدبلوماسية المجرّبةّ وموسم هجرة الدبلوماسيّين الغربيين إلى الجنوب
خضر سعاده خرّوبي
لا غرابة في القول إنّ زيارة برلمانيّين فرنسيّين إلى دمشق احتلت مكانة مهمة في القراءات والتحليلات السياسية. قد لا يمثل ما سنتولى عرضه في هذا المقال محاولة وافية للوقوف عند خلفيات الزيارة وتحليل أبعادها وخفاياها وتداعياتها المحتملة، بقدر ما سنحاول فيه أن نأخذ القارئ في سياحة تاريخية، تعطي مثالاً واضحاً بما فيه الكفاية على أنّ «زيارات» الموظفين الرسميين والدبلوماسيّين وحتى البرلمانيين، وإنْ كانت تحت عناوين غير رسمية، لا بدّ أنها تحمل في حدّ ذاتها شكلاً من أشكال الدبلوماسية الرسمية «المقنّعة».
ذات يوم في عام 1974 كان السياسي الأميركي المخضرم بول فندلي يتحضّر للقيام بزيارة إلى الشرق الأوسط ستقوده إلى دمشق ثمّ بيروت وصولاً إلى عدن. يتحدّث النائب عن ولاية إلينوي في الكونغرس لإثني عشر عاماً والعضو السابق في لجنة الشؤون الخارجية، في كتابه الذي يحمل عنوان: «من يجرؤ على الكلام؟» عن رسالة تلقاها من إحدى مواطناته تناشده المساعدة في إطلاق سراح ابنها المعتقل في اليمن لأسباب سياسية.
وفي كتابه الشهير الذي ترجم إلى ست لغات، ويقال إنّ الملك الأردني حسين أهداه إلى ابنه الملك الحالي عبد الله، ونصحه بالتمعّن في كل كلمة فيه، يوضح الكاتب شكوكه في ما قد تعنيه رحلته المرتقبة إلى اليمن بالنسبة إلى دبلوماسية بلاده في سياق تأهّب ترأسها في ذلك العام لإطلاق ملف التفاوض بين مصر و«إسرائيل» ويتابع قائلاّ: «ولكم كانت دهشتي عندما تسلّمت كتاباً شخصياً من كيسنجر قبل سفري بثلاثة أيام يعرب فيه عن ترحيبه «بمهمتي الإنسانية» إلى عدن»، وأضاف: «إذا سنحت لك الفرصة فقد يكون بودّك إطلاع المسؤولين الذين تلتقي بهم على التزامنا المستمرّ بالعمل في سبيل سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط، وعلى رغبتنا في تدعيم علاقاتنا مع العالم العربي».
يعبّر فندلي عن كونه مدركاً لحقيقة أنّ الكتاب الموجّه من وزير خارجية الولايات المتحدة حينذاك، والذي يُعدّ حتى اليوم أحد أهمّ منظري ومهندسي السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، هنري كيسنجر هو بمثابة وسيلة دبلوماسية لجسّ نبض، وكيف أنّ هذا الكتاب بعث فيه الأمل بأن يقنع من يلتقيه من المسؤولين العرب بأنّ بلاده راغبة في إنشاء علاقات طبيعية، ولدى تطرقه إلى المحطة الأولى في رحلته الشرق أوسطية، دمشق، يتحدّث السياسي الأميركي باهتمام عن سورية وأهمية دورها المتزايد حينها، مبدياً إعجابه بحفاوة الاستقبال التي حظي به من قبل الرئيس حافظ الأسد الذي استقبله من دون موعد مسبق، وبقوة عرضه لوجهات نظره من غير أن تبدو عليه أية بادرة عدائية.
وبخصوص العلاقات السورية ـ الأميركية التي كانت مقطوعة في ذلك الحين منذ عام 1967 ينقل فندلي عن الرئيس السوري الراحل قوله: «إننا نشعر بالمرارة إزاء المدافع والذخائر التي تمدّون بها «إسرائيل». كيف لا؟ ولكن المرارة هي غير العداوة. والواقع أننا نكن مشاعر ودّية للشعب الأميركي. وعلى رغم الحرب فإنّ الشعب السوري يحب الأميركيّين منذ سنين». يذكر الكاتب أنه اقترح على الأسد السفر إلى الولايات المتحدة وعرض قضيته مباشرة على شعبها عبر التلفزيون لتهيئة الظروف من أجل «إعادة العلاقات الكاملة وانتزاع ورقة من دفتر «الإسرائيليين» للعلاقات العامة»، فما كان من الرئيس السوري إلا أن ردّ قائلاً: «ربما ارتكبنا بعض الأخطاء، وينبغي أن تكون لنا علاقات عامة أفضل. وأنا موافق على ما تقوله وتشير به، إلا أنني لا أدري متى سيكون في وسعي زيارة الولايات المتحدة».
وقبل أن ينصرف متوجهاً إلى مطار دمشق، يأتي العضو السابق للجنة الشؤون الخارجية الأميركية على ذكر العرض الأخير للأسد الذي قال له: «أفوضك بأن تدعو باسمي أعضاء الكونغرس لزيارة سورية بأسرع ما يمكن، فعلى الرحب والسعة، ونريد أن نستقبل المنتقدين والأصدقاء منهم على السواء». وبالفعل قام فندلي، وعلى رغم اعترافه بالأجواء غير المشجعة تجاه الأسد في واشنطن، بدعوة زملائه لزيارة العاصمة السورية، وهو ما تمّ خلال أعوام قليلة وذلك عندما قام فريق من الكونغرس بالتوجه إلى هناك لأول مرة منذ انقطاع العلاقات الدبلوماسية عام 1967.
قد لا تصحّ المقارنة بين ما جرى في دمشق خلال عام 1974 وما يجرى فيها حالياً في بعض الجوانب، وقد تصحّ هذه المقارنة في جوانب أخرى. المهمّ أن ما نحن بصدد تأكيده في هذا السياق هو أنّ كلّ شيء يغدو «قابلاً للصرف سياسياً» في عالم الدبلوماسية والدبلوماسيين، ومن بين تلك الأشياء الزيارات «غير الرسمية»، بل وحتى المكالمات الهاتفية لها من يثمّنها في هذا العالم.
انطلاقاً من هذه الاعتبارات، تأتي الزيارة «غير الرسمية» للوفد الذي ضمّ أعضاء من الجمعية العمومية الفرنسية إلى دمشق، وبحكم مسؤولية بعض هؤلاء التنفيذية كستيفان رافيون إضافة إلى أنه يضمّ جيرار بابت الذي يتولى أدواراً معروفة في التواصل الفرنسي مع أطراف لبنانية فاعلة من المعسكر المناهض للسياسات الغربية، فهي، وفقاً لمصادر دبلوماسية متابعة، لا محالة تحمل طابعاً «انفتاحياً» تحاول باريس من ورائه أسوة بغيرها من العواصم الأوروبية المهدّدة بإرهاب «الذئاب المنفردة» الوصول إلى حالة من «التطبيع الأمني» ترى دمشق أنه لا بدّ وأن يكون مسبوقاً بـ»تطبيع سياسي» يفضي إلى عودة التبادل الدبلوماسي بين سورية وفرنسا.
يشير هؤلاء إلى ما نقل عن دبلوماسيين أوروبيين قبل أيام بخصوص الأزمة السورية لدحض ما يقوله البعض في أنّ المسألة لا تعدو أن تكون «حملاً كاذباً» بخصوص علاقة الطرفين بعضهما ببعض.