عندما تتحدث الاستخبارات
روزانا رمّال
تكتسب أجهزة الاستخبارات في العالم أهمية كبيرة لجهة رسم السياسات الأمنية التي تعنى بحماية أمن البلاد من الداخل وصولاً إلى دراسة وتجنيد وتشغيل كل ما يخدم هدف حماية الدولة ويمثل حماية لأمنها القومي.
تعتبر وكالة الاستخبارات الأميركية «سي آي أي» من أقوى أجهزة استخبارات العالم أو أكثرها نفوذاً، فموظفوها يعملون في سفارات الولايات المتحدة ومناطق أخرى متعددة حول العالم.
أنشطة وكالة الاستخبارات الأميركية المركزية الأبرز بالتعريف العام لدورها هي ثلاثة:
أولاً: جمع المعلومات عن الحكومات الأجنبية والشركات والأفراد.
ثانياً: تحليل تلك المعلومات جنباً إلى جنب مع معلومات جمعتها وكالات استخبارات أميركية أخرى، وذلك لتقييم المعلومات المتعلقة بالأمن القومي.
ثالثاً: تقديم المعلومات لكبار صانعي السياسة الأميركية وبناء على طلب من رئيس الولايات المتحدة، تنفذ الوكالة أو تشرف على النشاطات السرية وبعض العمليات التكتيكية من قبل موظفيها، أو الجيش الأميركي، أو شركاء آخرين يمكنها على سبيل المثال ممارسة نفوذ سياسي أجنبي من خلال أقسامها التكتيكية، مثل شعبة الأنشطة الخاصة.
نادراً ما تتحدث أجهزة الاستخبارات أو يخرج عناصرها ورؤسائها إلى العلن، فهي تحفظ لنفسها مهابة يرسمها دورها الدقيق وهالة العمل الذي يعتمد على السرية في جزئه الأساسي منه فلا يخرج رؤساء الاستخبارات لتقديم إفادة أو شرح أمام الرأي العام إلا في الحالات البالغة الأهمية والمسؤوليات أو الرسائل التي تود حكوماتها توجيهها إلى المعنيين من دول وأفراد.
الدور الكبير الذي تلعبه هذه الأجهزة تجعل من أي تصريح أو خطوة أو قرار منها موضع تدقيق ومتابعة حيث يؤخذ به عموماً لتحليل واستشراف بعض مواقف الدول من خلال استخباراتها.
خروج رئيس الاستخبارات الأميركية جيمس كلابر في 26 شباط للحديث أمام، لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي في جلسة استماع إلى ما يملك جهازه من رؤية ومعطيات ونتائج تتناول الإرهاب في العالم وتحديداً بالشرق الأوسط وما يشكله «داعش» وغيره من المجموعات الإرهابية من خطر ووضع التحالف الدولي إضافة إلى تعاطي دول المنطقة مع خطرها لا يمر مروراً عادياً أمام الرأي العام الأميركي أولاً والعالمي ثانياً.
عملاً بالبند الثالث أعلاه في تعريف عمل وكالة الاستخبارات الأميركية الذي تشير إلى تقديم جهاز الاستخبارات الأميركي بتقديم المعطيات إلى رجال السياسة يمكن استنتاج الوظيفة السياسية المنوطة بحديث جايمس كلابر الأخير.
أكدّ كلابر أن الحرب ضد تنظيم «داعش» ليست أولوية لدى تركيا ما يؤدي إلى تدفق المقاتلين الأجانب عبر أراضيها نحو سورية، وأن تركيا «لديها أولويات ومصالح أخرى» غير تكثيف المشاركة في الحرب على التنظيم المتطرف وأن «نتيجة كل ذلك هو وجود أجواء «متساهلة» خصوصاً على الصعيد القانوني إزاء عبور مقاتلين أجانب إلى سورية»، بالتالي هناك نحو 60 في المئة من المقاتلين الأجانب الذين يصلون إلى سورية عبر تركيا.
لا يمكن اعتبار أن معلومات كلابر هي معطيات جديدة بالنسبة إلى جهازه أو اعتبار أنه وبعد مرور 4 سنوات من الأزمة في سورية والباع الطويل في خطط الحرب على الإرهاب التي سبقه في وضعها ليون بانيتا الذي ترأس الاستخبارات قبل كلابر وتابع أزمات الشرق الأوسط مؤخراً في مهماته قد حمل جديداً بالنسبة لمجلس الشيوخ أو صناع السياسة الأميركية التي وضعت بين أيديهم هذه التقارير والمعلومات وإذا كان هذا المعطى جديداً فإنه يشكل نقطة سوداء في نشاط الجهاز تشكل سلباً على صدقيته، بالتالي فإن لا شك أن التصويب حول تركيا هذه المرة له رسالة حقيقية ترغب الولايات المتحدة تسويقها ووضعها أمام الرأي العام.
إنها ليست المرة الأولى التي تتهم فيها واشنطن أو تصوب نحو دول في الشرق الأوسط كداعمة للإرهاب أو مسهلة لمروره، فقد سبق كلام كلابر كلام لنائب الرئيس الأميركي جو بايدن أكد من خلاله أن كل من السعودية وقطر وتركيا دول تمول الإرهاب وتدعمه ما لبث أن طالبت بعض هذه الدول خصوصاً تركيا باعتذار من بايدن معتبرة أن هذا الكلام غير واقعي.
هذه المرة الكلام ليس من مسؤول سياسي أميركي بل من مسؤول أمني أميركي يحمل ما يحمل من هالة أمام الرأي العام الأميركي والدولي، بالتالي فعندما يتحدث جهاز استخبارات أقوى دولة في العالم عسكرياً فان لحديثه لا شك وظيفة سياسية، خصوصاً أن واشنطن تملك مثل هذه المعلومات منذ زمن بعيد، ما يؤكد أن التوقيت اليوم في إدراج تركيا والسعودية التي تناولها أيضاً كلابر في تقريره على لوائح الدول الداعمة للإرهاب مقصود ومدروس.
اعتبار أن لتركيا هم آخر غير «داعش» يظهر تركيا دولة تغرد في غير سرب المزاج الدولي في مكافحة الإرهاب ويقدمها من دون لبس داعماً ومسهلاً للإرهاب وفي هذا إعلان غير مباشر أن الفوضى في سورية اليوم ليست من معارضين طالبوا بالحرية من النظام الحالي إنما فوضى أتت نتيجة تسهيل مرور دولة جارة لسورية الإرهابيين إلى أراضيها، بالتالي فإن تركيا أحد أسباب عرقلة نجاح أو تسريع نتائج العمليات العسكرية للتحالف الدولي الذي يتقدم يوماً بعد يوم بحسب كلابر الذي أشار أيضاً بطريقة غير مباشرة إلى أن هناك ما يجمع واشنطن بدمشق اليوم أو برأس النظام السوري الحالي هو نفس العدو «داعش»، وكان هذا واضحاً في الفقرة التي تحدث عنها حول العلويين في سورية وجاء فيها «العدو الأكبر الذي يهدد الأقلية العلوية والمقربين والمستفيدين من بقاء الأسد هو نفس العدو بالنسبة للمجتمع الدولي والمتمثل في تنظيم داعش».
وعليه فانه عندما تتحدث الاستخبارات فإن لهالة المكانة والمسؤولية الوطنية دور أكبر بكثير وأدق من أي حديث لمسؤول سياسي من هنا أو هناك قادر على تعديل تصريحه الأمر الذي لا يمكن لرئيس جهاز أمن أي كان حول العالم القيام به أو التراجع عنه، خصوصاً في حالة تقارير أمنية مبنية على معلومات وجهود على أرض الواقع. وعليه يبدو أن سياسة باراك أوباما المتبقية من عمر ولايته تجاه الشرق الأوسط وكل من سورية وتركيا والسعودية تحديداً قد ظهرت سلفاً على لسان كلابر والذي يبدو تمهيداً إلى المفاوضات على الملفات في المنطقة التي افتتحتها الولايات المتحدة مع إيران.
كل هذا… عندما تتحدث الاستخبارات.