مطارق يهوذا… على رأس نبوخذ نصر
نسيب أبو ضرغام
لم يسجل التاريخ مرّةً أن الحضارة تعايشت مع التوحّش والانحطاط. ذلك أن الصراع القائم على مدى التاريخ، يثبت أن الصراع البشري يقوم على تصادم قطبي: الحضارة في مواجهة البربرية. هذا ما عرفه تاريخنا منذ ثلاثة آلاف عام، يوم ظهر موسى على مسرح التاريخ.
بقليل من التعمق في تجربة موسى، يظهر بوضوح اللاتوافق واللامنطق في تعايش التجربتين، الأولى عمرها ما يقارب العشرة آلاف سنة، تجربة حضارية سبقت ظهور موسى بخمسة آلاف عام، تجربة أقامت الممالك والدول والجيوش والبرلمانات والحصون، وصكّت العملة وحفرت الترع وبنت الأساطيل ووضعت الأسس الأولى لعلم الفلك، غزت أصقاع عديدة من العالم المعروف آنذاك، لا لتذل الشعوب، بل لتبني المستوطنات ــ الحضارات، هذا ما حصل في قرطاجة وبرشلونة ومرسيليا.
تجربة أرست ذلك كلّه على الأسس والقواعد القانونية، كإشارة كافية على المستوى الراقي لفكرها ورؤيتها.
من غير المعقول أن تتقبل مثل هذه الحضارة نظرة سطحية متخلفة منعدمة الرؤيا والأفق، مادية التفكير في أدنى حدوده.
من غير المعقول أن تتقبل هذه الحضارة رجلاً يأتيها «بأفكار» هي بالنسبة إليها أفكارها التي تجاوزتها منذ آلاف السنين.
موسى اليدوي، راعي الغنم، التائه مثل أجداده، في أرض لا علاقة لفلسطين بها، موسى هذا، يريدنا في ذلك الزمن أن نتعلم منه وصاياه العشر وهي وصايا لا تصلح أن تكون حتى لبداية «التأتأة» في عالم الفكر.
يعلمنا ألا نسرق، وألاّ نزني، وألاّ نشهد بالزور… وهو لجهله، لا يعرف أننا، لم نُعَلّم مثل هذه الأمور للعالم المعروف، ومنذ ما قبل مجيئه بخمسة آلاف عام، فحسب، بل وضعنا شرائع وقوانين، لا تزال تشكل أسساً في ميادين عديدة من القانون.
هو لم يدركْ، وهو تلميذ المرحلة الابتدائية، أنه يخاطب بـ«وصاياه» مَنْ هم أساتذة في معاهد الحضارة.
هزمته حضارتنا على يد نبوخذ نصر قده ، وكان ذلك نتيجة منطقية لتفوّق المعارف على البداوة والإنغلاق، فحُفِرت الهزيمة في ذاكرته، ليس لأنه هزم فحسب، بل لأنه هُزِمَ بسبب التفوق المعرفي والحضاري والإنساني للإنسان السوري، وبسبب ضحالته وانعدام تاريخه.
حمل المهزوم هذه العقدة على مدى أجيال وقرون، وراح يؤسّس للحظة الانتقام، وقد أدرك بخبثه المعهود، أن أقصر الطرق وأكثرها نجاحاً في عملية انتقامه، هو أن يحصل هذا الانتقام على أيدي أفراد من الغوييم، ويفضل أن يكون هؤلاء غوييم منا نحن، وهذا ما يثلج صدره ويجعل انتقامه أكثر فاعلية.
إن راصد حروب اليهود على العالم يقف عند محصلة هي أن هؤلاء اليهود لم يشنّوا حروبهم إلا عبر الأغيار أو ما يسمّونهم بالغوييم، ما خلا المرحلة التي تلت قيام الكيان المغتصب ولمرات محدودة، فيما حروبهم الدائمة التي لم تتوقف على أمتنا السورية والعالم العربي والعالم، كانت حروب الغوييم ضد الغوييم في شكلها، وحروب اليهود على العالم في أساسها.
ها هو «الربيع العربي» المزعوم، «ربيع» اليهود القاتل، مثال قائم، أمام أعيننا، ووسط قلوبنا، وفي دمائنا، منذ أربعة أعوام، هذا «الربيع» إلى أين أوصلت تداعياته؟! أليس إلى مصلحة وحيدة هي مصلحة «إسرائيل».
بالأمس احتلّ اليهود قدس أقداس الأمة السورية، وهو متاحف الموصل، مثلما كانوا احتلوا عام 2005 متحف بغداد، وهم يتسللون اليوم بشكل مباشر أو عبر عملائهم من التكفيريين لسرقة آثار سورية. بالأمس، وقع الاحتلال الأشدّ قسوة، الذي يجعل تراثنا ينزف. إنّه نزيف حضارة هي شاهد على عظمة النفس السورية.
يريدون مسح الذاكرة، لنصبح شعباً هجيناً، بدواً، نَوَراً، ملاعين بصقتهم الحضارة الإنسانية على أرض يقوم اليهودي ويدعي أنها له، وأنه الضارب حضارة في تاريخها.
حقد اليهود علينا دهريّ، يأخذ شكله الأكثر بربرية حينما يتعلق الأمر بالآشوريين ونبوخذ نصر والعراق عامة. لم ينسوا، فقد اشتركوا مع الجيش الأميركي عام 2003 وقصفوا بأيديهم آثار بابل، بابل الشاهدة على هزيمتهم، علّهم بتدمير بابل يمسحون الوشم الدهري عن ذاكرتهم الجمعية. سرقوا الآثار وشوّهوا ما عجزوا عن نقله، وها هم اليوم يمسحون شواهد النفس السورية، أدلّة النفس السورية، بمطارق يحملها الغوييم ليكسروا بها شواهد الحضارات، وهم في أماكنهم يشربون كأس الانتقام من واحد من أيقونات وجودنا القومي.
إنها مطارق يهودية، بقبضات متهوّرة، تتهاوى على ذاكرتنا ووعينا وحضورنا في التاريخ.
لكن بكلمة، ورغم عظم الخسارة، نقول: لقد دمروا بعضاً من إبداعات النفس السورية، ولكن النفس السورية لا تموت ولا تتهاوى تحت المطارق، وهي قادرة وفاعلة في كل حين، وستكمل دورها الحضاري القومي والمسكوني، وتبدع وتبدع إلى أن تنطفئ الشمس.