أنطون سعاده… والرؤية الاستباقية
د. سلوى الخليل الأمين
في ذكرى مولد الزعيم أنطون سعاده، أقرّ وأعترف، وأنا لست من المنتمين إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، أنني لا أنكر إعجابي بفلسفة الزعيم سعاده ورؤاه الاستباقية، التي وضعها نبراساً لأمة لا تزال تعيش الواقع المأزوم، فمَن باستطاعته ان يتجاهل مسيرة الزعيم أنطون سعاده الرائدة وطنياً وقومياً، والتي نشرها فكراً نهضوياً عبر تأسيس حزب بدأ سرياً كما غيره من الأحزاب الوطنية، وبقي منتعشاً حتى يومنا هذا ، بفضل مضامينه التنويرية التي دفعت الزعيم المؤسّس إلى تنكّب هموم أمته السورية نضالاً متحرّكاً ومستمراً. لهذا أشهد أنني كلما قرأت كتبه ونتاج فكره، من باب الاستزادة من فكر تلك الشخصية الفذة، التي غيّرت واقعاً ملوّثاً بالدماء والغدر والاستسلام والخنوع، في أشدّ العصور ضراوة وقساوة واحتكاراً لسيادة الأوطان، عبر التمدّد الاستعماري الخارجي الشرير، الذي صادر عقلية البشر بعد سيطرته على الوطن، ناشراً سمّه الزعاف، دون أيّ اعتبار للشعوب حين منهم من هادن المستعمر، ومنهم من كان الصمت طريقه الآمن، ومنهم من أراد تغيير وجه التاريخ حتى لو كان مصيره الإعدام.
الزعيم أنطون سعاده لم يكن رجلاً عادياً، لهذا كان من الفئة الثالثة، ومن الذين أرادوا تغيير وجه التاريخ، فهو المفكر الثوري الإصلاحي في عصره وزمانه، لهذا عمل على تغيير الحالة الشعبية المحبطة في ذاك الزمان الرديء، عبر استنهاض أبناء الأمة من أجل التشدّد في المطالبة بالحرية والسيادة والاستقلال الذي يؤدّي إلى بناء دولة معافاة على امتداد بلاد الشام، أي سورية الطبيعية، التي جعلها هدفه الجغرافي المرتقب بل الأساس في عملية إرساء الجهد من أجل نشوء أمة متراصة، تجابه كلّ الأعداء وحالات الاستعباد والاستعمار.
لقد ساءه وجود المستعمر، كما ساءه تفكيك الدول العربية، خصوصاً في سورية الطبيعية، أيّ منطقة بلاد الشام، فسعى إلى تشكيل حزبه، الذي كان يعمل بطريقة سرية قبل ان ينكشف أمره في العام 1935.
ومن أهمّ مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي دحض العنصرية والطائفية والمذهبية، لهذا التفّ حول هذه العقيدة التي جاءت بحركة تنويرية استباقية، مئات الشباب، والعديد من المفكرين اللبنانيين والعرب، مؤمنين بأهدافها التي تدعو «إلى اعتبار سورية أمة تامة، وأنّ القضية السورية هي قضية قومية قائمة بنفسها، مستقلة كلّ الاستقلال عن أية قضية أخرى»، خصوصاً أنه لا يمكن لأيّ مستعمر أو مستبدّ أن ينكر أنّ شعب هذه المنطقة هو شعب واحد، في مجتمع واحد، غير مختلف، لا في العادات ولا في التقاليد ولا في المواقف من الاستعمار، ولغته واحدة هي لغة الضاد، التي لا تعلو عليها لغة أخرى، كما حدث في بلاد المغرب العربي من جراء وجود الاستعمار الفرنسي.
فما قاله أنطون سعاده في ذاك الزمن البعيد، ما هو سوى رؤية مفكر سبق زمانه وأقرانه بالتطلع نحو مستقبل الوطن والأمة من أجل بناء دولة حضارية لا مكان فيها لفاسد أو شرير، كما نراه اليوم في بلادنا الغارقة في طوفان الحالة الداعشية ومسمّيات الربيع العربي المزوّر، واسمحوا لي هنا أن أدرج بعضاً من افكاره، التي وُجدت كي تبقى متفاعلة في كلّ زمان وكلّ عصر، لأنّ من كتبها هو ابن تلك الفترة الحرجة من تاريخ أمتنا الغارقة دوماً بدماء أبنائها، فهو القائل: «إن فيكم قوة لو فعلت لغيّرت وجه التاريخ»… ألا ينطبق هذا القول على مفهوم المقاومة التي هزمت الجيش «الإسرائيلي» الذي لا يُقهر، في العامين 2000 و2006؟ وألا ينطبق هذا القول على الصمود الحاصل على الأراضي السورية حالياً من الجيش العربي السوري والقيادة السياسية والشعب وكلّ المناصرين من شرفاء الأمة؟
أضف أنّ أنطون سعاده قد قال أيضاً، تدليلاً على ما يجري حالياً في المنطقة العربية: «إذا رجعنا إلى تاريخنا وجدنا أن عوامل التفوّق عندنا كانت عظيمة جداً. كنا أسرع من غيرنا في أوقات عصيبة وحرجة ولكن داخلياً لم تكن لغيرنا»، ثم أليس هو من أشار إلى: «أن المنازعات الداخلية هي التي تسبّب الفوضى والارتباك وتضعف النظام»، وهذا ما يحدث اليوم، ثم أليس هو من قال: «قد يذهب وطننا من أيدينا قطعة بعد قطعة ونحن لا نفعل غير كتابات وخطب وفوضى عظيمة في الداخل، وخيانات وبيع للوطن». أليس هذا ما هو حاصل بين ظهرانينا حين التجزّؤ والتفسّخ السياسي والاجتماعي وسيطرة المال وأصحاب النفوذ على السلطة موجود دون رادع أو وازع؟
أليس هو من ذكر بأنّ: «كل شعب يتكل على غيره يصبح مطية لغيره، لذلك لا يمكننا أن نتغنّى بإنجازات غير إنجازاتنا، ولا يمكن لأي شعب أن يعطي مجاناً لشعب آخر»، أليس هذا ما نشهده حالياً، فلبنان دون رئيس، والكلّ في انتظار الفرج الخارجي، إضافة إلى أنّ كلّ فريق يغني على ليلاه، ومصلحة الوطن في أدنى درجات السلّم، حين أنّ من يستحق رئاسة الجمهورية وهو القويّ القادر على تسلّم مهمة الرئاسة موجود ومدعوم من كلّ شرفاء الوطن، عنيت الجنرال ميشال عون رئيس أكبر تكتل نيابي مسيحي، «باللغة اللبنانية» وليس بالخطاب الوطني، حيث هو بعيد كلّ البعد عن الطائفية والمذهبية ووطنيته لا يشوبها التباس…
أليس هو من نادى: «بفصل الدين عن الدولة ومنع رجال الدين من التدخل في السياسة، وإزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب تمهيداً لإلغاء الإقطاع، وتنظيم الاقتصاد، وإنصاف العمال والعمل، وصيانة مصلحة الأمة والدولة وإعداد جيش قوي»، فأين نحن من تسليح الجيش اللبناني ودعمه بالسلاح المتطوّر وأين نحن الآن من الدولة المدنية القوية والقادرة على احتضان أبنائها، وهجرة الشباب والشابات على قدم وساق، والزواج المدني موضع خلاف بين رجالات السياسة والمقامات الدينية، علماً أنّ العديد من رجالات السياسة تزوّجوا مدنياً أو زوّجوا أولادهم مدنياً، يعني أنّ الصيف والشتاء على سطح واحد، كيف يكون هذا؟ هنا السؤال الذي لا نجد له حلاً جريئاً كما قال من قبل الزعيم أنطون سعاده… لهذا خافوه فأعدموه.
إنّ الكلام على أنطون سعاده في ذكرى ميلاده مشوّق، لما لهذا الرجل القائد من بلادي فكر وطنيّ استباقي عالج في الزمان الصعب مسألة الهوية الوطنية، والصراع الفكري، وطغيان الحكم الاستبدادي، إضافة إلى كلّ أشكال التزوير والفساد والمفسدين، لهذا كان اعتقاله عدة مرات طريقاً لكمّ صوته وإفشال حزبه النهضوي التنويري، الذي لم يفلحوا في لجمه وإسقاطه وزعزعة عقيدته المبنية على أسس ثابتة ومتينة، تماهى عنها صدور كتبه: «نشوء الأمم» و«الصراع الفكري في الأدب السوري» و«الإسلام في رسالتيه»، ومن بعدها «المحاضرات العشر» وغيرها من المؤلفات القيمة.
وللتذكير أيضاً فإنّ سعاده هو أول من نادى بالعلمانية نظاماً، وصولاً إلى تشكيل كيان سياسي مدني واحد، ينصف جميع المواطنين من دون استثناء، كلّ حسب قدراته وكفاءاته، لهذا حاربه الإقطاع السياسي اللبناني من جميع طوائفه وتكتلاته على مساحة الوطن، لأنه شكل بطروحاته المتطوّرة والمتقدّمة، تهديداً للزعامات الوراثية القائمة على استعباد الناس، إضافة إلى أنه أول من استشرف خطر المشروع الصهيوني، لأنّ الصهيونية تتناقض مع روح اليهودية، لهذا كان رفضه لها ثابتاً وقوياً، وما زال ساري المفعول لتاريخنا هذا عبر عقيدة ثابتة لم تهزل برحيل زعيمها.
في ذكرى ميلاده، أتمنى لو كنت ممّن كانوا في زمانه الصعب، لأنه بالفعل، كان القائد العقلاني المفكر بأحوال هذه الأمة، التي تناتشت أحوالها الزُّمر الاستعمارية وما تزال عبر ثقافة داعشية مستجدة، تهدم التاريخ والتراث، وتذبح على الهوية، وتتدثر بالإسلام الذي قال فيه الله: «إن أرسلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا». ألا بئس ذاك الزمن الذي خان فيه قادته، زعيماً مفكراً حضارياً، وأديباً لغوياً متنوّراً، وسياسياً متطوّراً هو أنطون سعاده، الذي ما زال نتاج فكره التنويري قائماً في الحاضر كما في الماضي وسيظلّ أقوى، ما دام الزمن على اتساع لتلقف رؤاه الثورية الوطنية الاستباقية والثابتة على مدى العصور.