التهاون في محاولة إعادة الاعتبار للقرار إقرارٌ بأنّ الصهيونية ليست عنصرية
الدكتور جورج جبور
مقدمة عامة
موضوع بحثنا القرار 3379 الذي صدر في 10 تشرين الثاني 1975 وأُلغِيَ في 16 كانون الأول 1991. وهو مؤلف من ديباجات مطولة ومن فقرة عملية واحدة مؤدّاها أن الجمعية العامة للأمم المتحدة تقرّر أنّ «الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري». والمبرّر الأهم للبحث يكمن في أنّ إلغاء القرار يعود بنا إلى وضع أسوأ من الوضع الذي كنا عليه قبل صدوره. إلغاء القرار إشعار بأن الصهيونية ليست عنصرية. والتهاون في محاولة إعادة الاعتبار للقرار إقرار بأن الإلغاء أتى في محله. معنى تهاوننا في محاولة إعادة الاعتبار تبرئتنا الصهيونية من صفة العنصرية.
ولكن قبل الخوض في تفاصيل البحث لا بأس من كلمة موجزة عن تعبير «العنصرية».
من الممكن الحديث مطوّلاً في العنصرية وتعريفاتها المتعدّدة. ومن الممكن أيضاً البحث في الفروقات الدقيقة بينها وبين تعابير تلازمها في أحايين كثيرة كتعبير التمييز، أو في أحايين أقلّ كتعبيري القومية والوطنية وما يرافقهما أحيانا من تعصب. وفي كل ذلك فائدة لا ريب. إلا أنني أميل إلى التبسيط المتعامل مع الواقع العياني.
العنصرية كما أراها اختلال في ميزان القوة بين طرفين. هي علاقة استغلال بأنواعه، ناجمة عن ضعف طرف بمواجهة طرف. قد يرتكز هذا الاختلال على اللون أو على الدين أو على القومية أو على الوضع الاقتصادي أو على غير ذلك. والمواثيق المختصة بالعنصرية بارعة في إدراج المعايير المتعددة والمتداخلة لما يعتبر عنصرية. إلا أن ما هو ثابت أن العنصرية علاقة، وأن هذه العلاقة إنما هي بين قوي وضعيف، بين ظالم ومظلوم، وإن شئنا، بين غني وفقير. وليس عبثاً ما يقوله البعض من أن الأفرو- أميركيين، وهم بالمجمل فقراء، ينظرون إلى المليونير الافرو- أميركي على أنه « أبيض».
بالمعنى السابق يمكن لنا أن نموضع العنصرية في مواضع كثيرة من التصرفات اليومية، ناهيك عن وجودها الصارخ في العلاقة بين رصاصة الشرطي الأبيض وبين الفتى الأفرو- أميركي القتيل. واحد من هؤلاء الفتيان، واظن ان اسمه تريفون، قتل اذ عبر محمية سكنية للاغنياء، مما أثار شبهة سرقة لدى حارس المحمية، قال عنه الرئيس أوباما: «لو كان لي صبي لكان الآن في عمر هذا الفتى القتيل». أثار عندي قول الرئيس اوباما شفقتين: واحدة على الفتى وأخرى على الرئيس. أختم هذا الحديث الموجز عن العنصرية بالإشارة إلى بحث اوسع قدمته إلى لجنة متابعة مؤتمر دربان في نطاق مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة جنيف عام 2008 . في ذلك البحث وقفت متحفظاً عند ما أورده قداسة البابا بندكتوس في خطابه الشهير بألمانيا عام 2006 عن العلاقة بين المسيحية واليونان. يحلو لي أن أؤكد هنا وجهة نظري ومؤداها أنه جرى تفسير آية في أعمال الرسل على نحو عنصري جعل من المؤمنين بالمسيح من آسيا مسيحيين من الدرجة الثانية. وقد أطلعتُ قداسة البابا على وجهة النظر هذه، وتلقيت من الفاتيكان رسالة مناسبة مرضية.
ورغم أن العنصرية ظاهرة يومية، إلا أن للحكم بعنصرية فكرة أو تصرف أو كيان معنى واضح مؤداه واجب الجميع في إزالة الحامل العنصري.
عنصرية الصهيونية و«إسرائيل»: الاستيطان والقوانين والديموغرافيا
موضوعنا اليوم فلسطين والصهيونية، ولا سيما منها، أي من الصهيونية، ما هو في أرضنا، أي في فلسطين التي أصبح اسمها «إسرائيل». لن أتحدث عن الصهيونية في الغرب، وهي في أساسها مناهضة للعنصريات الغربية. ولي رأي مستقرّ مخالف لما هو شائع عندنا، لجهة أنها من حيث هي، أي الصهيونية، تهدف إلى مساواة اليهود بغيرهم من مواطني الدول الغربية، فهي تندرج في إطار العمل من أجل حقوق الإنسان. الا أن الصهيونية عندنا عنصرية بامتياز. لماذا هي كذلك؟ كيف تتجلى العنصرية في قوانين اسرائيل؟ كيف سيتعامل العالم مع حكم الاقلية الصهيونية في فلسطين حين نصل الى المؤكد وهو ان الفلسطينيين سيشكلون الغالبية في الكيان الاسرائيلي الواحد المستمر؟ تلك مواضيع ثلاثة أتوقف عندها بإيجاز شديد في هذا الجزء من البحث.
أ ـ الصهيونية عنصرية لأنها استعمار استيطاني تنبثق عنه العنصرية بداهة. محكوم على من يستولي على أرضك ويستوطن عليها ويطردك منها كلياً أو جزئياً، محكوم عليه أنه عنصري. تعالج هذه الفكرة دراسات الاستعمار الاستيطاتي المقارن، وقد تطورت إلى حد لا بأس به في العقود الأخيرة. وقعت مسؤولية التطويرعلى عاتق باحثين أنشأ قائمة بأسمائهم الدكتور سميح فرسون، من الجامعة الأميركية في واشنطن العاصمة، مجلة شؤون فلسطينية تموز 1975 كما يلي::فان دون بيرغ 1967 وايمانويل، وجورج جبور 1970 وابراهيم ابو لغد وبهاء أو لبن 1974 . أما الدكتور مجدي حماد، وهو من مصر ويشغل منصب رئيس جامعة في لبنان، فيتبنى القائمة السابقة في كتاب له صدر في القاهرة عام 1981، مضيفاً إليها اسمَي ريتشارد ستيفينز وعبد الوهاب المسيري 1977 . أحب هنا « تطويل» القائمة بإضافة بعض الأسماء البارزة مثل: سيد ياسين وعلي الدين هلال من مصر، عبد الحسين شعبان من العراق، غازي حسين وابراهيم عبد الكريم وحمد الموعد ورشيد الموعد من فلسطين، وتوفيق صالحة من سورية. يقول المستوطن العنصري الصهيوني: فلسطين أرضي بالتاريخ والدين، وما أقوم به إذ أُنشئ إسرائيل إنما هو استرجاع لكياني القديم. إلا أنه يعلم أنّ فلسطين ليست له وحده في التاريخ والدين. ثم أنّ التطبيق التاريخي للصهيونية في فلسطين يفصح عن نشأة استيطانية تتماثل مع النشأة التاريخية لتجارب استيطانية أخرى انتهت إلى الإخفاق بسبب مقاومة السكان الأصليين لها وعدم تقبّل العالم لعنصريتها. تجارب الاستيطان في القرنين الخامس عشر والسادس عشر مستمرّة ولا تتعرّض لتحديات جادة، أما تجارب الاستيطان في القرن السابع عشر وما بعد فقد زالت. كان أسرعها زوالاً ذلك الكيان العنصري الذي أعلنه إيان سميث في جنوب روديسيا عام 1965. روديسيا اسم لأراضٍ احتلها رودس وكان آنئذ الشخص القوي في ما أصبح لاحقاً اتحاد جنوب افريقيا. بعمله العسكري الوحشي نال رودس إعجاب هرتزل الذي اعتبره مثلاً أعلى له، وخاطبه بتلك الصفة في رسالة خطها عام 1902. كان رودس مثلاً أعلى لهرتزل ولغيره من أصحاب المطامع الاستعمارية. كان «بطل» العصر أواخر القرن التاسع عشر. إلا أنه، بمقتضى ما وصلت إليه الإنسانية من تقدم، أصبح مرذولاً في عالم اليوم حتى أن جامعة اوكسفورد، جامعته، رفضت الاهتمام بالذكرى المئوية لوفاته. لكن فلأقف قليلاً عند رسالة إلى رودس خطها هرتزل، ويقول ناشر مذكرات هرتزل أنها لم ترسل. تاريخ الرسالة 11 كانون الثاني 1902 أي قبل شهرين من وفاة رودس. فيها يُعَرِّف هرتزل « بطله» رودس بمشروعه الذي يعتبره مماثلا لما فعله «البطل» في أفريقيا. فيها يعرب عن ثقته في أن رودس نفسه كان قد نفذ المشروع – أي المشروع الصهيوني – لو أن آسيا الصغرى، كانت في صميم اهتماماته على نحو ما كانت افريقيا في صميم اهتماماته. فلنتصور: لو كانت آسيا الصغرى في اهتمامات رودس، ولو نفذ رودس المشروع الذي أطلعه عليه هرتزل، لكان من الممكن أن تكون قد ولدت في فلسطين دولة اسمها روديسيا، لا اسرائيل. كلام هرتزل الواضح جداً في أن طبيعة المشروع الصهيوني مماثلة لطبيعة المشروع الروديسي، كانت موضع بحث مستفيض في جلسة مع الرئيس حافظ الأسد استعداداً لقمة عدم الانحياز في الجزائر أوائل أيلول 1973. بعد نقاش مطوّل، قَبِلَ الرئيس الأسد فكرتي تضمين خطابه أمام القمة إشارة إلى الرسالة الهرتزلية. أكثرية الرؤساء المجتمعين في الجزائر من أفريقيا، وكان هَمّ روديسيا الجنوبية هَمُهُم الملح المقيم. جاءت كلمة الأسد عن إعجاب هرتزل برودس من خلال الرسالة، وكلهم جاهل بها، لتلامسَ وجداناتهم، وتضيء لهم جوانب كانت خافية عليهم من قضية فلسطين. سطعت ومضة تاريخية كاشفة. تبلورت كتلة تاريخية من الانشعال الأفريقي بالهم الروديسي ومن الومضة الكاشفة. وصفَ مؤتمر الجزائر الصهيونية بأنها عنصرية متابعاً منطق كلمة الأسد في اعتبار العنصرية ناتجاً طبيعياً للاستيطان. استمرت الكتلة التاريخية في عملها حتى كان القرار 3379 على نحو ما سآتي إليه بعد قليل.
ب ـ أنتَقِل إلى الحديث عن قوانين اسرائيل، بعد أن بينت النشأة الاستعمارية الاستيطانية لها. الجانب العنصري في قوانينها الرئيسية واضح: من قانون أملاك الغائبين إلى قانون الجنسية إلى ما لا يُحصى من قوانين وأنظمة وممارسات. ولعل أحد أبرز تجليات موضوع الجنسية مؤخراً ما يتعرّض له المقدسي لدى حصوله على بطاقة هوية جديدة. ففي تموز 2013 بدأت السلطات الإسرائيلية تصغ على بطاقة هوية المقدسي صفة أنه مقيم وليس مواطناً ـ وتلك بالطبع خطوة جديدة لتفريغ القدس من فلسطينييها. ومن أطرف ما سُطَّرَ، قبل أسابيع قليلة، عن ممارسات إسرائيل العنصرية ما تداولته وسائل الإعلام العالمية في موضوع ليست له أهمية عملية مباشرة ولكن مغزاه واضح. أذاعت هيئة اسرائيلية رسمية تراتبية إحصائية تبيّن انتشار أسماء المواليد، ولكنها اقتصرت على الأسماء اليهودية. بهذا اعتبرت أنّ المواليد العرب لا تدخل في الحسبان. عادت تلك الهيئة، إثر اتهامات بالعنصرية وُجِهَت إليها عالمياً، فاعترفت بأن الإسم الذي كان له حظ أن يكون الأول في الأسماء التي أُطلِقَت على المواليد الجدد كان اسماً عربياً لا يهودياً. ما المغزى؟ من السهل الاستنتاج أن اسرائيل لا تعتبر الفلسطينيين فيها من مواطنيها، رغم أنهم من حاملي جنسيتها. كأن اسرائيل تستبق إقرار مشروع يهودية الدولة الذي يجهزعلى الحقوق القليلة التي أبقاها الحكم الاستيطاني الإسرائيلي لمن بقي في الكيان الإسرائيلي من الفلسطينيين. بعد أقل من أربعة أسابيع تجري الانتخابات التشريعية الجديدة في «إسرائيل». الموضوع الأهمّ هو مقدار المدى العنصري الذي سيأخذه الاتجاه اليميني المتصاعد في اسرائيل في توجهه نحو تبني قانون يهودية الدولة. لا ينبغي أبدًا إغفال أن المدى قد يتقدم نحو فكرة إقرار رسمي لترانسفير جديد. أما الترانسفير غير المعلن والجاري تنفيذه يومياً، فأمره معروف ولا سيما في القدس.
ج ـ آتي باختصار إلى الموضوع الثالث الخاص بالديموغرافيا. في عام 2001 حاضرت في مركز زايد بابو ظبي عن مستقبل «اسرائيل» بحسب علم الاستعمار الاستيطاني. قلت أنه بحلول عام 2020 سيكون عدد الفلسطينيين المقيمين تحت الحكم الاسرائيلي أكبر من عدد اليهود. بعض هؤلاء الفلسطينيين لهم حق الانتخاب إلا أن أكثرهم لن يكونوا متمتعين بهذا الحق. ثمة ضم فعلي متصاعد للأراضي الفلسطينية التي جرى إخضاعها للاحتلال بعد عام 1948 وثمة الفلسطينيون الذين استمروا في الإقامة في فلسطين بعد أن تغير اسمها إلى «اسرائيل». من المرجح أن اليهود سيشكلون أقلية في المدى الجغرافي الذي تحكمه تل ابيب. وإذ يزداد التطرف الإثني، ومعه التطرف الديني، وإذ يزداد انتباه العالم إلى هذا الأمر، فسيصبح من المحتم وصف الحكم الإسرائيلي بأنه حكم أقلية يهودية على أغلبية فلسطينية. سوف يتذكر العالم أن هذا الوصف انطبق سابقاً على كل من حكم إيان سميث ومن حكم الأبارتايد. وأن هذا الوصف لعب دوراً في اختفاء حكم سميث وفي اختفاء حكم الأبارتايد. وبالطبع نعلم أن كثيراً من المحللين السياسيين يقولون أن «اسرائيل» تواجه الآن وستواجه في المستقبل وعلى نحو أشد الاختيار بين أن تكون دولة ديموقراطية أو دولة يهودية. أنتجت المحاضرة في أبو ظبي عناوين بارزة في الصحف ولا سيما بشأن تحديد موعد 2020. في أيلول عام 2012 عادت إلى الظهور فكرة تحديد أجل لانتهاء اسرائيل. صاحب الفكرة ليس إلا كيسينجر الذي يُنسَب إليه قوله أنه بعد عشر سنوات لن يكون هناك شئ اسمه «اسرائيل». صدرت عن هذا التصريح إيضاحات لم تكن كافية لإقناع الجميع بعدم صحة القول. ترافق القول المنسوب إلى كيسينجر مع تبلور حركتين فعالتين على صعيد واسع، مركز واحدة منهما لندن وهي الحركة التي يتعهدها مركز العودة الفلسطيني، بقيادة الدكتور ماجد الزير، وهدفها إنشاء عريضة مليونية تطالب بريطاتيا بالاعتذار عن وعد بلفور. تشق العريضة طريقها بثبات يُهَنَّأ عليه القائمون على أمرها. ويعلم بعضنا أن وزير خارجية بريطانيا، في 16 تشرين الثاني 2002، صرّح بما اعتُبِر أول نيل رسمي بريطاني من وعد بلفور وهو في كل حال نيل رفيق رقيق. جاء تصريح جاك سترو في أعقاب رسالة مفتوحة وجهتها إلى طوني بلير عبر جريدة البعث 3 تشرين الأول 2002 أطالبه فيها بأن يحذو حذو بلجيكا في تبني ثقافة الاعتذار. أما الحركة الثانية فمركزها جوهانسبرغ في جمهورية جنوب أفريقيا. هي حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات والمعاقبة البي دي إس B.D.S. . أثرها العالمي كبير أخلاقياً وعلى صعيد الواقع الملموس. هي حركة أبدى كثير من المسؤولين الإسرائيليين تخوفهم على مستقبل «اسرائيل» منها. أحَيِّي من هنا هذه الحركة وأدعو مؤتمر القمة العربية القادم في مصر أواخر آذار 2015 إلى توجيه التحية إلى القائمين بها ومعها إلى القائمين بحركة المطالبة بالاعتذار. في كل حال، ومهما يكن من أمر التنبؤ في أبو ظبي ومن أمر التنبؤ الكيسنجري، ومهما يكن من أمر ما يمكن أن تتخذه اسرائيل من إجراءات لكي تحول دون تصاعد الانتقاد العالمي لعنصريتها، فإن من الواضح أن التطور الديموغرافي له أثر كبير في تقرير مدى عنصرية الصهيونية، وفي تقرير مآلها.
أكتفي بما أوجزت من أفكار عن عنصرية الصهيونية واسرائيل، وثمة مجلدات عنها، لاتُنقل إلى القرار 3379 وإمكانات إعادة الاعتبار إليه.
القرار 3379: كيف نعيد إليه الاعتبار؟
لأن القرار أُلغيَ بما يشبه الحكم العرفي، أي بدون تبرير، ولأنه القرار الجوهري الوحيد الذي تعرض للإلغاء في كل تاريخ الأمم المتحدة، فإن إعادة الاعتبار إليه تبدو مطلوبة باسم ممارسة الديموقراطية الدولية من خلال التنظيم الدولي.
ولأن الإلغاء إنما أتى بعد قبول القيادة الفلسطينية به، فالمطلوب الأول هو عودة القيادة الفلسطينية عن قبولها بالإلغاء، وإشهارها المسعى لإعادة الاعتبار. في الخطوات التي تتخذها هذه القيادة منذ تقديمها مشروع قرار إنهاء الاحتلال ما يشير إلى جدية جديدة في عودتها بالموضوع الفلسطيني إلى أصوله.
وثمة بعد عوامل مساعدة. مشروع قانون يهودية الدولة يعود بالنقاش حول طبيعة الصهيونية إلى عنصريتها. الانتخابات الإسرائيلية قادمة قريباً. وإذا كان من المتعارف عليه في أدبيات المخلصين لقضية حقوق الفلسطينيين القول بأن لا فرق بين الطرفين المتنافسين، فإني أود إشهار اختلافي مع هذا القول. ثمة فرق بين الطرفين وإن كان بسيطاً. التورم القومي الديني سيتصاعد بنجاح ناتانياهو، وستكون الصياغة العنصرية لقانون يهودية الدولة أوضح وأجلى. والعكس صحيح. ستبقى الصياغة عنصرية اذا فاز منافس ناتانياهو، ولكن على تحو أقل إثارة للاعتراض الدولي.
ثم إن العالم يشهد اليوم تحشيداً ضد التطرف الديني. وفي النظر المدقق إلى الصهيونية سيكون من الواضح أنها تختزن تطرفاً دينياً لا يتم التطرق إليه بذرائع منها ازدهار صناعة المحرقة. صحيح أن صناعة المحرقة ليست إلى أفول أو على الأ قل ليست إلى أفول سريع، إلا أن فيض المحارق الإسرائيلية على الفلسطينيين، وسخاء الاستشهاد الفلسطيني كما في أيام غزة الخمسين صيف العام الماضي، والتفوهات الصهيونية المزدرية للفلسطينيين، لها آثارها في إظهار عنصرية لا يخفيها وعد بلفور ولا صك الانتداب على فلسطين. ثمة وعي يتجدد عالمياً بأبعاد قضية فلسطين، وهو وعي يتجلى لدى بعض السلطات التشريعية في أوروبا، ويشق طريقه وإن بصعوبة إلى بعض أجهزة التنظيم الدولي. وأرى في إنشاء الأمم المتحدة قسماً خاصاً بفلسطين في الأمانة العامة خطوة لا ينبغي التقليل من شأنها. ولنلاحظ أنها تتماثل مع خطوة اتخذتها الأمم المتحدة قبل عقود بإنشاء قسم خاص بالابارتايد. وكنت بذلت جهداً لم يثمر لدى صدور القرار 3379 هدفه إنشاء قسم خاص مهمته متابعة تنفيذ ذلك القرار.
خطوة أولى من أمكنة متعددة
لا ينتهي البحث في احتمالات إعادة الاعتبار للقرار. العوامل المؤثرة عديدة صعبة الحصر في فسحة الوقت المتاحة. إلى جانب العوامل الإيجابية ثمة عوامل سلبية ليس أدناها شأنا حال التبعثر العربي. وليس أدناها شأناً عنصرياتنا التي تقتلنا يومياً في كثير من بلادنا العربية وفي محيطنا الإسلامي، ومعها عنصريات غيرنا المتقاتلة في مختلف أرجاء المعمور.
قلت في موضع سابق أنه يحسن أن تاتي الخطوة الأولى من القيادة الفلسطينية أي قيادة محمود عباس. لن أصنع لها حساباتها. هي بها ادرى.
لكن الخطوة الأولى يمكن أن تأتي من مكان آخر. يتضمن الميثاق العربي لحقوق الإنسان كما يتضمن الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان كلاماً واضحاً عن عنصرية الصهيونية. كذلك ما تزال سارية المفعول قرارات عديدة من الجمعية العامة تتضمن إدانة للصهيونية مقترنة مع إدانات لشرور أخرى كالاستعمار. يمكن لهيئات حقوق الإنسان العربية أن تبني على ما هو موجود لتنطلق إلى ما هو واجب.
ثمة أيضا خطوة أولى يمكن أن تأتي من البرلمان العربي، وقد استطعت إقناعه – على نحوين: مباشر وغير مباشر – بإشهار رأيه في المطالبة بإعادة الاعتبار للقرار كان ذلك في دمشق، آذار، عام 2009. ونعلم ان الكونغرس الأميركي اطلق عام 1984 الدعوة الأوضح الى الغاء القرار وتبعته برلمانات دول عديدة.
ثم لماذا لا أشير إلى ما ذكََََّرني به مما يخصني الأديب الفلسطيني المبدع حسن حميد في مقال له في جريدة البعث 26 كانون الثاني 2015 وهو أن ثمة لجنة عالمية لإعادة الاعتبار للقرار، عقدت اجتماعها الأول هنا في بيروت عام 2009، ضمن منتدى مقاومة العولمة، وتابعت عملها من دمشق في وقت لاحق ثم ذوت بعد انتهاء أعمال مؤتمر دربان الثاني في جنيف، نيسان 2009. أبرز أعضائها المرموقين من لبنان: الدكتور محمد طي والدكتور حسن جوني والدكتورة ليلى بيضون والدكتور وليد محمد علي، ومن سورية الدكتور سهيل ملاذي والدكتور نزار بني المرجة. يمكن لهذه اللجنة أن تكون البادئة بالخطوة الأولى. وأوجه التحية إلى الدكتور جوني الذي قاد، قبل اشهر قليلة، جهداً أعاد إلى محاولات إعادة الاعتبار حيويتها من خلال مؤتمر دمشق الدولي لمكافحة الإرهاب.
إلا أن الخطوة الأولى هي بمقدورنا نحن، الآن و في هذا المكان. تستطيع المؤتمرات الثلاثة المنظمة لهذا اللقاء أن تنطلق منه لترفع الصوت مطالبة بإعادة الاعتبار للقرار. تستطيع أن تتوئم التزامها المعلن بالاهتمام بمئوية وعد بلفور – بمقنضى قرار صدر بناء على اقتراحي، عن المؤتمر القومي الاسلامي في الدوحة عام 2006 – مع التزامها بإعادة الاعتبار للقرار. تستطيع المؤتمرات الثلاثة ان تنطلق بعمل دولي من هذه اللحظة، وتثَثّي عليها في لحظتين قادمتين قريباً هما اليوم العالمي لمناهضة العنصرية في 21 آذار ومؤتمر القمة العربي في 28 منه. وبالمناسبة، أسأل القيمين على هذه المؤتمرات: هل أنتم متمتعون بالصفة الاستشارية لدى هيئات متعددة في التنظيم الدولي؟ وإن لا، فلماذا لا تحاولون؟ هذه الصفة الاستشارية منبر لا ينبغي إهماله، ولا تتنافى عضويتكم فيها مع الموقف الأساس وهو ضعف الثقة بالهيئات الدولية.
يستطيع مركز دراسات الوحدة العربية، المتعاون مع المؤتمرات الثلاثة، أن ينشر موسوعة عن عنصرية الصهيونية ومعارك القرار 3379.
أما الاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب فله دوره المرموق إن شاء، وهو اتحذ قراراً في اجتماعه بدولة عمان أواخر عام 2013 بالاهتمام بمئوية وعد بلفور.
ثم هنا بيروت، وهي هناك أيضاً، في عوالم الثقافة الأرحب. هي منبر ثقافي عالمي يمتدّ منها إلى انطلياس وإلى مجالس الثقافة في مختلف محافظات لبنان.
حديث صريح في أمرين هامين
أمر هام ينبغي أن نتجنبه في كل ما قد نقوم به من فعاليات بشأن إعادة الاعتبار للقرار. هذا الأمر هو التفسير الديني له وهو تفسير يخالف النص. إغراق البعض منا في الحديث عن القرار بلغة لاسامية – كما هو المصطلح المعروف غير الدقيق علميا – كان احد اهم الذرائع التي جرى التوسل بها لإلغائه. ولأذكر ملمحاً من ملامح عملنا في اللجنة العربية لدعم القرار 3379 التي شرفت برئاستها لسنوات. كان من إشكالات عملنا مناقشات مطولة بشأن إمكان الاعتماد على أدبيات لا تتناسب مع الحيثيات التي بُني عليها القرار، إذ هو قرار علماني بالكامل لا يتعامل من قريب أو بعيد مع الشأن الديني. وقد نجحنا في تجنيب عملنا كل ما يمكن أن يمس بفلسفة القرار وخلاصتها أن الصهيونية عنصرية لأنها استيطان. أليس من الحكمة الواضحة أنك حين تحدد لنفسك هدفاً فعليك ألا تسلك اليه الطرق التي توصلك إلى الهدف المعاكس؟ بهذا المعنى أستطيع أن أقول وبكل ثقة أن إحدى أهم المكاسب التي يمكن أن نجنيها من عملنا في إعادة الاعتبار للقرار هو تحررنا مما نختزنه في صدورنا من عنصريات.
أمر هام ثان مفيد لنا حين نصل إلى مرحلة التفاوض الدبلوماسي في الأروقة الدولية. نص الفقرة العملية الوحيدة للقرار هي: «الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري». لا بأس بأن نكون أوضح دون أن نرتكب أي تفريط. نستطيع ان نجعل النص «الصهيونية في فلسطين شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري». كذلك من الممكن طرح صياغات بديلة تتمتع بقدر وافر من المقبولية الدولية مثل «الاستيطان على أراضي الغير شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري».
كلمة ختام
ينبغي دائماًً تذكر أن علينا ألا نرضخ للأمر الواقع وهو أن القرار قد أُلغِيَ وأغلِقَ الملف. القناعة باستمرار إلغاء القرار تبرئة مشهرة للصهيونية في فلسطين من صفة العنصرية وهو أمر ينبغي ألا يكون مقبولاً أبدًا لأنه منافٍ للحقائق الناطقة. ثم فلنتذكر دائماً أن القرار لم يكن ليصدر لولا حرب تشرين التحريرية، وأن قضية فلسطين غابت عن جدول أعمال الأمم المتحدة سنوات طوالاً، وأن من وضعها عليه هو الفلسطيني المقاوم على الأرض.
ورقة عمل قدّمت في «المنتدى الدولي للعدالة في فلسطين» الذي نظمته في بيروت المؤتمرات الثلاثة: المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي- الإسلامي والمؤتمر العام للأحزاب العربية، في 22 و23 شباط الماضي، وكان المحور الأول بعنوان: «عنصرية الكيان الصهيوني وسبل مناهضة التمييز العنصري الأبارتايد الصهيوني»
الإهداء: إلى روح المفكر العربي العلامة الدكتور أنيس صايغ، المدير العام لمركز الأبحاث الفلسطينية في بيروت، في ذكرى زيارتي له في مكتبه في بيروت، آذار 1969، وإثارتي معه موضوع دراسات الاستعمار الاستيطاني المقارن.
رئيس الرابطة السورية للأمم المتحدة، وسابقاً الخبير المستقلّ لدى مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، ومستشار رئاسة الجمهورية العربية السورية
إيميل:drjabbour gmail.com