مكتبة «البناء»
تكتب الشاعرة الفلسطينية مي الصايغ في مجموعتها الأخيرة «ليت هندا لم تعد» بشغف وبشعر موح، عن وطن يسكنها مثلما يسكن فلسطينيين أبعدوا عنه، وآخرين يقيمون في قسم منه ويكادون لا يسكنونه فعلا. وهند، على ما يتبدّى، هو اسم والدة الشاعرة التي ربتها على محبة هذا الوطن وعلى الأمل الذي يجب ألا ينقطع في شأنه. وتستعير الشاعرة هنا بعض عنوان مجموعتها من اسم امها والبعض الاخر من قول لشاعر عربي مشهور يتحدث فيه عن الوعود التي لا تتحقق.
يقول الشاعر الأموي عمر بن أبي ربيعة: «ليت هندا أنجزتنا ما تعد / وشفت أنفسنا مما تجد / واستبدت مرة واحدة / إنما العاجز من لا يستبد / كلما قلت متى ميعادنا / ضحكت هند وقالت : بعد غد».
الاستبداد هنا لا يحمل تماما المعنى السياسي المألوف، إنما يعني أن يسير الإنسان مستقلاً برأيه ومنفرداً. ويبقى الأمل معلقا بعد غد… بعد غد فلا يتحقق ولا يموت.
الشاعرة والناقدة الاكاديمية الفلسطينية الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي تقول عن الصايغ في مقدمة الكتاب إن ما يميز عطاءها الشعري والأدبي «هو نفوره التلقائي من التقريرية والبطولية ذات الضجيج … من عنجهية الذين لا يطيقون إلاّ أن يعلنوا عن أهميتهم بجهورية المتعالمين… كم ارهقنا ونرهق إذ نقرأ ونقرأ في هذا الجسد العربي المتطاول عبر عالمنا الواسع فلا يجيئك جواب عن مدار الحديث، عن تجربة لها حدود لا يمكن أن تتمادى الى غير نهاية … فوضى لا يحدّها رابط فني يحتوي القول وما يرمي الشاعر اليه». وتضيف: «ما لم يدركه عدد من شعراء اليوم هو أن للمعني الشعري لياقته الخاصة أن له شروطاً وأصولاً ملزمة فكيف سمح الشعراء لأنفسهم بتخطيها إلى ما يمكن تسميته بنكبة الشعر المعاصر وفراغه؟».
مجموعة الصايغ في 204 صفحات قطعاً وسطاً، صدرت في منشورات «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» في بيروت. وللصايغ المولودة في غزة عام 1935 خمس مجموعات شعرية سابقة بينها «إكليل الشوك» و»قصائد حب لاسم مطارد»، ولها أيضاً كتاب نثري ورواية عنوانها «بانتظار القمر».
تكتب الصايغ شعراً حديثاً لا يتخلى عن الأوزان والقوافي المتعددة ولا عن الإيقاع الموحي والصور الحافلة بالواقع وبالحلم. في قراءة شعرها الموزع بين هند الأم والوطن قد نتذكر لوحة فنية لجبران خليل جبران لوجه سيدة هي أمه أسماها «وجه أمي وجه أمتي».
تستهل الشاعرة مجموعتها بقصيدة «هي» تحمل بعض سمات شعرها. تقول: «هي ما يتيه به الربيع على الورى / هي ما يفيء إليه ريحان السنين / هي ما يمرّ من النسيم على نوافذنا / وما تحكي النجوم / هي ما يقول البحر للشطآن / موسيقى الحنين / هي حلوة الدنيا / ودر العالمين». وتختم قصيدة «جلنار» على هذا النحو: «ورأيت نهر الوقت يجري / وهي تجلس مثل آلهة / على قدسي هيكلها / وفي يدها الشموس / من يوم أن جاءت لعالم يتمها هند / وحتى الأمس / حتى كبوة الفرسان / لم تحن الرؤوس».
وفي قصيدة «أ يا أنا» سمات إنسانية من تجربة المرارة والتشرد الفلسطينيين: «أتدركين أنني أنأ / وأنني هنا / وأنني أكرّر السؤال؟ / فأين تذهبين؟ / أتبحثين في ظلال العمر في حدائق الخيال/ ولم نعد هناك لم نعد هناك». … «من أنت ؟ / تسألين من أنا !!/ أصدع السنين / لو أعيد الوقت برهة / أراك تحملين فوق رأسك السماء وتطلعين للنهار ضوءه / وتبعثين نكهة الأشياء / فيعذب البقاء / وتصنعين من شغاف الياسمين / دارة لنا / وتصبح الأيام بيتنا / فكيف تسألين كيف تسألين من أنا؟». وتضيف في القصيدة عينها: «أ يا أنا / أحب لو يعود العمر مرة / وأن يعود ظلك الحبيب قلعة لنا / وأن يغيب العمر غيبة / ولا تدور حولنا الدنا / وتسكن الأيام عندنا».
«الحركة النسائيّة الحديثة» كتاباً بحثيّاً لإجلال خليفة
في كتاب «الحركة النسائية الحديثة» ترصد الكاتبة د. إجلال خليفة تطور الحركة الثقافية ودور المرأة ومكانتها في المجتمع المصري منذ العصر الفرعوني إلى العصر الحديث، ثم تعرض للتراجُع الذي حدث لدور المرأة، إبان الحكم العثماني ومُعاناة المجتمع المصري كله من هذا التراجُع في جميع المجالات، وتكشف العوامل التي أدت إلى نهوض الحركة مجدّداً، مثل الحملة الفرنسية، إذ ظهرت ملامح التغيير في مُجتمع المرأة، مُشيرة إلى أهمية البعثات العلمية وعودتها بأفكار ومفاهيم جديدة حيال المرأة والإيمان بضرورة تغيير أوضاعها الاجتماعية والثقافية.
تقول المؤلفة: «إن المرأة المصرية تختلف عن غيرها من نساء العالم، فأقدم تاريخ لنساء أمة أخرى غير أمتنا لا يتجاوز عشرة قرون، أما تاريخنا نحن عن نساء مصر فيرجع إلى جذور تاريخية عميقة تصل إلى أكثر من سبعين قرناً. كانت المرأة في مصر الفرعونية تحيا حياة عائلية واجتماعية راقية، فمنها تحترم تقاليد الأسرة وتعمل على تماسُكها، وتختار زوجها وتربي أطفالها على حب. ومن أخطر المناصب التي تولتها المرأة الفرعونية تلك الدينية والسياسية، إذ تولت منصب الكهنوت، ولا يخفي ما لرجال الدين في مصر القديمة من احترام وتأثير في الجماهير، حتى إن بعض الكاهنات رفعن الشعب المصري القديم إلى مصاف الآلهة التي وجد لها تمثال مُقنع في مدينة سايس، كتبت تحته هذه العبارة التأملية: «أنا كل شيء، كان وكائن وسيكون، ولم يرفع أحد من البشر قناعي بعد».
تنتقل المؤلفة من ثم إلى العوامل التي أدت إلى نهوض الحركة النسائية، قائلة: «يبدأ عصر النهضة الحديثة لمصر بمقدم الحملة الفرنسية للبلاد المصرية سنه 1798، إذ جاء رجال الحملة الفرنسية إلى مصر وبعض نساء فرنسا معهم كزوجات ومغامرات، ودخلت عوامل أخرى غيّرت من كيان المجتمع النسائي المصري، ومن هذه العوامل الحملة الفرنسية التي كان لمعاملة رجالها لنسائهم أثر في توجيه نظر نساء مصر، للفرق الكبير بين وضعهم ووضع المرأة الفرنسية، خاصة بعد زواج كبار قادة الحملة من بعض المصريات، مثل: مينو الذي تزوّج من زبيدة الرشيدية وأسلم لأجلها وتسمّى باسم عبدالله مينو.
من العوامل المهمة أيضاً في تقدم الحركة النسائية في مصر ذهاب بعض شبابها إلى الخارج، وعودتهم إلى مصر ومعهم أفكار وعادات وعقائد جديدة، بينها ضرورة تغيير وضع المرأة في المجتمع المصري وضرورة تعليمها، وإتاحة فرصة العمل الشريف لها. وفي مقدّم هؤلاء رفاعة رافع الطهطاوي الذي عبّر عن آرائه في كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» وفي «المرشد الأمين في تربية البنات والبنين».
إلى الحركة النسائية في مجال عمالة المرأة، قائلة: «عرفت المرأة المصرية ميدان العمل اليدوي منذ فجر التاريخ، وتُعد المرأة الريفية عندنا امتداداً للمرأة الريفية منذ بداية تاريخها على هذه الأرض، فمنذ أكثر من سبعة آلاف سنة هذه تساعد المرأة الرجل الريفي في أعماله في الحقل، وتقوم بالأعمال الشاقة نفسها التي يقوم بها، مثل حرث الأرض وحصد المزروعات وتربية المواشي … . أما أول مهنة أدتها المرأة بأجر معقول فهي مهنة القابلة والماشطة، وحياكة ملابس النساء والأطفال، وهذه المهن على ما سنرى تتصل بعالم الأنوثة.
تشير الباحثة إلى أول تظاهرة خرجت تُطالب بدخول المرأة البرلمان وكانت بزعامة هدى شعراوي، في يوم افتتاح البرلمان الأول في آذار 1924، إنّما لم تُجَب مطالب النساء لنيل حقوقهن السياسية بخروجهن في التظاهرات، فقرّرن الاعتصام في دار نقابة الصحفيين والإضراب عن الطعام. ولم تكُن نساء مصر وحدهن المطالبات بمنحهن حقهن السياسي، بل انضم إلى مناصرتهن بعض الرجال مثل: خالد محمد خالد وعبدالملك عودة الذي كتب «المرأة في مهب الحرية» وهاجم في مقاله هذا رجال الدين الذين طلبوا عدم إعطاء المرأة حقوقها السياسية. وظلت أصوات النساء في مصر ترتفع مُطالبة بمنح المرأة المصرية حق المشاركة في الحياة النيابية، حتى 16 كانون الثاني 1957، عندما وقف الرئيس عبدالناصر يقدّم دستور سنة 1956 مُعلناً منح المرأة المصرية حقوقها السياسية التي لطالما نادت بها، فالحقوق التي اكتسبها الشعب بالثورة باشرتها المرأة أيضاً مثلما باشرها الرجل، إذ وقفت المرأة مع الرجل جنباً إلى جنب طوال كفاحه المرير، واستشهدت بعض نسائنا في سبيل الكفاح المشترك لأجل الحرية والحياة، ومثلما كافحت المرأة لأجل الحصول على حق الشعب، فمن حقها أن تسترد حقوقها كاملة.
أما التظاهرة النسائية الكبرى التي شهدتها مصر في 16 آذار 1919 فقد سبقها مؤتمر نسائي كبير عُقد في منزل هدى شعراوي بشارع قصر النيل، وقرّر أعضاؤه إرسال مُذكرة إلى الليدي برونيت زوجة المندوب السامي البريطاني في مصر عهدذاك، وقيام تظاهرة نسائية كبرى تُعبّر عن استياء نساء مصر لما يرتكبه الاحتلال البريطاني ضد مصر وشعبها.
في ختام الكتاب توصي مؤلفته بالاهتمام بأهم القضايا التي تحتاج إلى إعلام نسائي واهتمام من الحركة النسائية، أهمها: توعية الفتيات بتاريخ المرأة العربية بطريقة موضوعية لا خيال فيها ولا إثارة، أضف إلى ذلك تاريخ المرأة في الدول المتقدمة ودورها في التطور الإسكاني، كذلك المفاهيم الجديدة التي تتنافى مع وجود المرأة عالة على بقية أفراد الأسرة، وهي نظرة تحتاج إلى تعميق في أخلاقيات الشعب وقيمه وسلوكه الاجتماعية، وترسيخها بين النساء والرجال على السواء.
صدر كتاب «الحركة النسائية الحديثة» للدكتورة إجلال خليفة «الهيئة المصرية العامة للكتاب» في القاهرة في 320 صفحة قطعاً كبيراً.
إعادة إصدار كتاب فلسفيّ لويل سيمون
أعادت دار «تروتا» نشر أحد أهم الكتب الفلسفية التي ظهرت في القرن العشرين، «تأملات حول أسباب الحرية والقمع الاجتماعي» للفيلسوفة الفرنسية ويل سيمون، الذي لم تتمكن مؤلفته من إصداره في حياتها، فأصدره الكاتب والمفكر الوجودي الكبير الفرنسي ألبير كامو في خمسينات القرن الفائت.
في هذا الكتاب تتنقل ويل باريس 1909-إنكلترا 1943 بين الفلسفة والتصوف، والسياسة والعلم، والحدث والتأمل. وبحسب كارمن ريبيا في مقدمتها للكتاب في طبعته الجديدة، تتميز ويل بأنها «مفكرة ذات تجربة»، فالفيلسوفة الشابة إذ وضعت كتابها في عمر الخامسة والعشرين، تركت وظيفتها الأكاديمية لتنخرط كعاملة في رينو، وهناك اطلعت على مشاكل العمال الحقيقية، وبدءاً من تلك اللحظة اعتبرت العمل اليدوي موتوراً للثقافة.
انتقدت وبل المنهج الماركسي وبزغ اقتراحها كبديل ضروري يجب أن يدور حول مادة الحرية، واعترفت بفضل ماركس في تشخيص آلية القمع، لكنها ترفض الثقة الدوغماتية لأتباعه أو ما عرف بـ»الشيوعية العلمية»، وكتبت: «هذه ساعة المطالبة بتحقيق حلم الحرية وتقرير تنفيذها … «الحرية الحقيقية لا تُعرّف بأنها العلاقة بين الرغبة والإشباع، بل بين الفكر والسلوك».
تجربة ويل في العمل في مصنع حوّلتها على نحو راديكالي. تقول: «ما من علاقة بين الحديث عن مشكلة ومعايشتها بالفعل». وتذكر في كتابها أن الآلية التي يخضع لها العامل تدينه بأن يكون مجرد درع في العملية، تعامله فحسب كيد عاملة، قطعة زائدة في النظام. هذا النظام الصناعي الذي ترسمه ويل تطور كثيرًا، بلى، لكن السؤال الذي لا يزال مفتوحاً: هل لا يزال العامل محض روبوت إلى اليوم؟».
تصف سيمون ويل وضعاً متناقضاً، فثمة دوماً منهج في حركات العمل، لكن ليس في التفكير في العامل. من هم هؤلاء الذين يعيدون إنتاج منهج العمل؟ هل وضعوا في اعتبارهم رؤية العامل؟ هل تغير هذا النظام في المؤسسات الكبرى؟ هل يمكن أن نتحدث اليوم عن عمل إبداعي أم أننا لا نزال في مرحلة الهيراركية؟ هل نحن أحرار في مهننا أم لا نزال نتلقى الأوامر من دون أن نسأل هل هذا في مصلحة العمل؟
تأملات ويل دعوة إلى أنسنة الحياة وحث القدرة الفردية على التفكير والتصرف. تقول لنا إن الكائن البشري يدافع عن تشييد اليوتوبيا، إنما ليس كعقيدة، بل كشكل من أشكال التفكير في الواقع. وتضيف أن الحرية فكرة مثالية، بلى، لكن هذه الفكرة لن نجني ثمارها ما لم تتحول إلى واقع مفيد.
لا تربط ويل أي شيء خاص بفكرة الدفاع عن الفردية، بل على العكس تماماً. ما تقوله لنا هو صلاحية الإنسان للتفكير ومن ثم تورطه في العمل الجماعي لينتمي كفرد إلى الجماعة.
رحلات ستيفنسون في كتاب… البساطة المبهجة
كثير من الكُتّاب الكبار اكتسبوا نظرتهم إلى العالم من الرحلات التي علّمتهم، قبل أي شيء، الصبر. ومن دونها، ما كانت ظهرت الأعمال المهمة للكاتب الاسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون، مثل «جزيرة الكنز» «السهم الأسود» و»الدكتور جيكل ومستر هايد».
كان ستيفنسون من الرحّالة الذين استسلموا للسفر فوضع نصوصاً شديدة الرقة والعذوبة عن مسقط رأسه اسكتلندا، وفونتينبلو ونبراسكا، صدرت في إسبانيا حديثاً.
يضم الكتاب تأملات عميقة حول السفر يدافع فيها ستيفنسون عن الطريق الوعر، ويؤكد على عدم الإيمان بالحماسة المفاجئة، ويسجل ملاحظات للاستمتاع بأي مكان، بما فيها الأماكن الأقل جذبًا، في اتكاء كامل على المشاعر العميقة لتبرير الحياة.
يعرّفنا الكتاب بستيفنسون كاتب النصوص، القادر على إثارة الانتباه بوصف التلال والسماوات، والرياح بينما يتحدث عن الطبيعة في شيللي أو كمبريدج بأسلوب حاسم وبهدوء وسكينة من يعرف عما يتكلم تحديدًا، أيّ الرحلة، مستعيرًا طاقة روحية منطلقة تشبه طاقة وايتمان وثورو.
يصف ستيفنسون كيف علّم نفسه بنفسه ويشير إلى قراءات طفولته. بذلك يغدو كتاب «الرحلة» مرشداً من الإلهامات الحميمية التي يجب أن نضيف إليها المرض، بدءاً بإصابته بالسل في ديفوس، إلى تعرضه للسجن فسوء حالته الصحية. ورغم القسوة التي تعرض لها، يحكي بأسلوب مسلٍ ووببساطة تبدو مبهجة.