نتنياهو والنبي موسى
يوسف المصري
منذ ولايته الأولى في رئاسة الحكومة «الإسرائيلية»، اعتبر بنيامين نتنياهو أن كبح جماح إيران النووي هو مهمته «المقدسة». وبعد أيام من جلوسه على كرسي رئاسة الحكومة، عقد نتنياهو جلسة مشاورات غير رسمية مع شمعون بيريس وصفتها الصحف «الإسرائيلية» آنذاك بأنها استراتيجية، وعنوانها الأساس كيف يفيد نتنياهو من عقل بيريس الحكيم وصاحب الخبرة في تاريخ اليهود وصراعهم من أجل البقاء، في قضية ضرب مفاعل إيران النووي الذي يشكل تهديداً وجودياً على «إسرائيل».
تقمص بيريس في اللقاء شخصية الحكيم اليهودي العارف وقارئ التاريخ الحصيف. قال لنتنياهو: «انك بصدد مهمة تشبه مهمة النبي موسى الذي اتخذ قرار العبور بالشعب اليهودي صحراء التيه، ولو لم يفعل ذلك لتعرض شعب «إسرائيل» للفناء». وأضاف بيريس: «النبي موسى لن ينتظر ضوءاً اخضر من أحد. حتى بين اليهود كان هناك من يخشى عبور الصحراء وراءه». فالقادة العظام – أضاف بيريس – لا ينتظرون الضوء الأخضر حينما تكون المهمة التي تناديهم على صلة بمصير وجود شعبهم. نابليون خرج للحرب وقال للعالم اتبعوني. ولم ينتظر أن يسبقه تأييد العالم له حتى يخرج.
لقد أوحى كلام بيريس المنمق لنتنياهو بانه «موسى اليهود في هذا العصر»، وان المهمة المطروحة عليه حيال البرنامج النووي الإيراني تشبه المهمة التي كانت مطروحة على النبي موسى عشية اتخاذه قرار عبور صحراء التيه بشعبه ليبني مملكة «إسرائيل».
بعد فترة وجيزة من هذا اللقاء التشاوري الاستراتيجي، ذهب نتنياهو لزيارة الولايات المتحدة الأميركية وعلى رأس أجندته مهمة إقناع رئيسها الجديد باراك أوباما السماح لـ«إسرائيل» بتوجيه ضربة مشتركة مع أميركا ضد إيران لتدمير مفاعلها النووي قبل أن يصبح عسكرياً. كانت التقارير الصحافية الأميركية سبقت وصول نتنياهو إلى البيت الأبيض وقالت إن بيبي اسم الدلع لنتنياهو سيذهب لضرب النووي الإيراني سواء على نحو مشترك مع أميركا أو من دونها، لأن تل أبيب تعتقد انه عندما تبادر للضربة الأولى فإن واشنطن ستتورط بالحرب في اليوم التالي. وخلال لقائه آنذاك مع أوباما حذر الأخير من مغبة التصرف عسكرياً بشكل أحادي ضد إيران، وقال له إن الملف النووي الإيراني هو مسؤولية أميركية حصراً، فعلق نتنياهو مخاطباً أوباما: «أنت لست الله حتى تفرض على «إسرائيل» عدم الدفاع عسكرياً عن بقائها بوجه خطر وجودي يتهددها كالخطر النووي الإيراني».
ابتسم أوباما الذي كان وصلت إليه وقائع حوار نتنياهو – بيريس، وقال له: «صحيح إنا لست الله. ولكن أنت أيضاً لست النبي موسى!».
يتعامل نتنياهو مع مشروع إيران النووي على أساس ديني وضمن اعتقاد راسخ لديه بأن كبحه هي مهمة مقدسة وبأن وجوده بالحكم في لحظة محاولات إيران تشريع وضعها دولياً كدولة نووية، هو انتقاء الهي له، يشي بأن الله اختاره لكي يكون النبي موسى المخلص للشعب اليهودي في هذا العصر.
والواقع أن هذه الخلفية، بالإضافة إلى خلفيات أخرى سياسية هذه المرة، هي التي تجعل نتنياهو يقرر الذهاب إلى عرين أوباما رئيس الدولة الاستراتيجية الضامنة لأمن «إسرائيل»، كي يتحداه هناك. ويقول له أنت لست الله لكي تمنعني عن الدفاع عن وجود شعبي.
لم تكن مبادرة نتنياهو لإلقاء خطاب استفزاز أوباما في الكونغرس محل إجماع عليه في «إسرائيل». ومعارضو خطوته هم أكثر عدداً من مؤيديها. وهؤلاء جميعهم اعتبروا أن خطوة نتنياهو لها مراديد استراتيجية مضرة بأمن «إسرائيل» وبنظام حمايتها الاستراتيجي كما صاغه منذ خمسينات القرن الماضي معلم رؤساء حكومات «إسرائيل» اللاحقين سواء من معسكري الليكود اليميني والعمل الاشتراكي واليساري ديفيد بن غوريون. لقد وضع بن غوريون توصيات وطنية وليست حزبية على من يخلفه في موقع رئاسة الحكومة للالتزام بها وعدم تجاوزها لأنها ذات صلة بضمان الأمن الوجودي لـ«إسرائيل»، وعلى رأسها وصية تفيد بأن على «إسرائيل» أن تجد لها في كل حقبة من عمرها حليفاً استراتيجياً دولياً يضمن أمن وجودها. وأن على رئيس حكومة «إسرائيل» ألاّ يحرج هذا الحليف كي لا يخرجه عن الالتزام بتعهده بضمان أمن «إسرائيل».
وليس خافياً أن ذهاب نتنياهو إلى الكونغرس ليلقي خطاباً يعاكس سياسة الإدارة الأميركية تجاه الملف النووي، يعتبر خروجاً على وصايا بن غوريون، وتصرفاً يشكل إحراجاً لإرادة الدولة العظمى الدولية التي تضمن أمن «إسرائيل» في هذه المرحلة.
كثير من «الإسرائيليين» يضعون أيديهم على قلوبهم تحسباً من أن فعلة نتنياهو تشكل سابقة في علاقات الولايات المتحدة الأميركية مع «إسرائيل»، لا بد من أن تستتبعها تداعيات من النوع الذي لا تتضح تأثيراته في المدى المنظور، بل ستتشكل بأسلوب بطيء وعلى نحو تراكمي ليس فقط داخل نخب حزب أوباما بل أيضاً داخل الاجتماع الأميركي، فأوباما في نهاية الأمر رئيس لأكبر دولة في العالم، ورمز للدولة الحامية لوجود «إسرائيل» «أخلاقياً وسياسياً وعسكرياً واقتصادياً». ولم تكن هناك من وجهة نظر منتقدي خطوة نتنياهو «الإسرائيليين»، حكمة بأن يقوم الأخير بإهانته حتى لو وجد داخل الحياة السياسية الأميركية فريقاً شجعه على ذلك لحسابات انتخابية على صلة بمعركة رئاسة الجمهورية الأميركية.
يقول هؤلاء: ذهب نتنياهو إلى الولايات المتحدة الأميركية وكانت كلها مع «إسرائيل» وعاد منها وقد أصبح نصفها ضد «إسرائيل». وهنا جوهر الخطأ الاستراتيجي الذي وقع فيه نتنياهو، فهو لم يُختم عهد ولايته الثانية في رئاسة الحكومة بمصائب على الداخل «الإسرائيلي»، بل أيضاً أورث «الشعب الإسرائيلي» مساراً من سوء الفهم بين دولته وضامن أمنها الدولي.
وداخل ثنايا هذا الجدل «الإسرائيلي» الذي أثارته خطوة نتيناهو الأميركية، يوجد متسع لكلام حول أن «إسرائيل» تغيّرت: لقد رحل السياسيون الأقطاب، وبقي منهم أشباه أقطاب أو منتحلو صفة أقطاب. كان محقاً طاقم الأطباء الذي رفض سحب الأوكسجين من فم آرييل شارون الذي بقي يرقد في المستشفى سنوات عدة وهو في حالة موت سريري. المسألة لم تكن هل نسمح لشارون أن يموت. فهو سريرياً كان ميتاً، بل هل نعترف بنهاية جيل الزعماء التاريخيين «الإسرائيليين»؟!
وبعض التعليقات قالت ليس فقط «إسرائيل» تغيرت وصارت سياساتها فعل ورد فعل وابتعاداً عن «الحكمة التي تقتضيها دواعٍ أمنية استثنائية خاصة بإسرائيل» كما كانت تقول غولدا مائير التي قال عنها بن غوريون إنها «الرجل الوحيد في حكومتي»، بل أيضاً أميركا تغيرت. نتنياهو فضح أن أميركا أصبحت تنتمي إلى العالم الثالث، إنها ليست دولة بل ساحة يتراقص كونغرسها على حبل خلافات داخلية تسمح للغير بأن يتدخل فيها مستغلاً ومسفهاً معنى مؤسسات الدولة السيادية.
… إنّ أميركا – باللغة اللبنانية إن جاز التعبير- التي ذهب إليها نتنياهو هي 8 آذار الجمهوري و14 آذار الديمقراطي…