اعتداء على حرية الإعلام يخفي مأزقاً في واقع المحكمة
معن بشور
ليست مذكرة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بحق إعلامي وإعلامية بارزين في لبنان بتهمة تحقير للمحكمة، مجرد اعتداء على الإعلام وحريته وعلى الإعلاميين وحريتهم.
وليست هذه المذكرة مجرّد انتهاك جديد لسيادة لبنان الوطنية بعد أن كان تشكيل المحكمة ذاتها انتهاكاً لسيادته القانونية والقضائية.
وليست هذه المذكرة مجرّد دليل جديد على تسييس هذه المحكمة، ومجمل المسار القضائي الدولي في قضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وهو تسييس ساهم في تضليل التحقيق وإخفاء الحقيقة، مثلما ساهم في استنفار الغرائز، والتحريض المتبادل بين اللبنانيين وبينهم وبين أشقائهم السوريين.
إنّ هذه المذكرة هي أيضاً أخطر من كل ذلك، إنها تعكس حجم المأزق الذي تعيشه محكمة أريد لها أن توجه سهام اتهاماتها بحسب ما تقتضي الحال السياسية، والمزاج السياسي، والمخطط السياسي.
ولقد جاءت جلسات المحكمة الأولى، وسط بهرجة إعلامية ضخمة، لتكشف الخواء المدوّي الذي تعيشه، ولتترك أبواب الاتهامات مفتوحة حيثما تقتضي الرياح السياسية أن تتجه، وحيثما تحتاج المتغيّرات السياسية أن تغيّر الاتجاه.
ولم تعد وظيفة المحكمة السعي لكشف الحقيقة، كما هو مفترض بكلّ محكمة، بل باتت مهمتها إيجاد المبرّرات القانونية لاتهام سياسي مقرّر سلفاً، واستخدام كلّ «الألوان» من أجل رسم لوحة مقرّرة سلفاً عن مسار الجريمة ومرتكبيها.
ولا نزيد هنا شيئاً عما قاله كثيرون في هذه المحكمة منذ تأسيسها، بل نؤكد على فكرة رئيسية أنّ التضليل في المحاكمة، سواء جاء على يد شهود زور أو على يد من تقاعس القضاء عن ملاحقتهم، هو اشتراك موصوف بالجريمة، لا لأنه يخفي المجرم الحقيقي فحسب، بل لأنه يحوّل القضاء إلى أداة للافتراء على أبرياء أيضاً، فتصبح الجريمة مزدوجة.
فهل تحوّلت محكمة تكلّف الخزينة اللبنانية مئات الملايين من الدولارات، في وقت لا تنفك الحكومة عن الشكوى من قلة الموارد في مواجهة كلّ القضايا المعيشية والحياتية التي تعصف بالبلاد وأمنها الاجتماعي، إلى منظومة مصالح ينتفع بها القيمون عليها، ورواتب مالية يحصلون عليها مقابل خدمات سياسية وإعلامية يقدمونها لمن كانوا سبباً في إغداق النعمة عليهم؟!
وهل باتت شبكة المكاسب والامتيازات هذه محركاً إضافياً لهؤلاء ليكونوا حريصين على الحفاظ عليها، فيعمدون إلى فتح بابٍ إذا أغلقت أمامهم أبواب، ويخوضون كلّ يوم معركة جديدة إذا تراءى لهم أنّ مهمتهم في المعارك السابقة قد تعثرت؟!
وهل انحصرت مهمة هؤلاء القيمين على المحكمة في أن يحوّلوا قضية بمستوى قضية اغتيال رئيس حكومة سابق إلى نوع من «ربط نزاع» وتوسيعه يمدّدون من خلاله لمهل وظائفهم ورواتبهم وامتيازاتهم، فيما مهمة المحاكم فضّ النزاعات والحكم فيها لا تأجيلها من مرحلة إلى أخرى، أو توسيع الاتهامات من جنائية إلى سياسية إلى إعلامية، ناهيك عن الملاحقة الكيدية المتنقلة من جهة إلى أخرى ومن شخص إلى آخر.
لا يضير إبراهيم الأمين وكرمى تحسين خياط أن تصدر بحقهما مذكرة من لاهاي، فهي شهادة لحسن أدائهما في كشف أداء متعثر لمحكمة قيل إنّ اللجوء إليها هو المخرج من تقصير قضائنا الوطني، بل هي أيضاً شهادة لإعلام لبناني بقي أميناً لمهنته، عصياً على الترهيب والترغيب.
لكن ما يضير اللبنانيين جميعاً هو أن يروا موارد خزينتهم تتبدّد منذ سنوات في الإنفاق على مسار قضائي ومحكمة خاصة لم يقدما له شيئاً جديداً سوى تضليل متعمّد، بل كانت كلّ قراراتهما الظنية والاتهامية مجرّد نسخ كربونية لتقارير إعلامية غربية من دون أن يكلف جهابذة المحكمة أنفسهم بالتحقيق مع ناشري هذه التقارير لمعرفة مصادرهم بالذات لما في ذلك من احتمال الإمساك برأس الخيط في جريمة بهذا الحجم.
وما يضير الكثير من اللبنانيين أيضاً أن لا يروا أصواتاً داخل سلطاتهم الثلاث القضائية والتنفيذية والتشريعية ترتفع لتدعو إلى إعادة النظر بتلك الاتفاقية، غير المستوفية الشروط الدستورية التي انعقدت ذات ليل بين لبنان والأمم المتحدة حول تأسيس هذه المحكمة.
لا يكفي أن يمتنع القضاء اللبناني عن تنفيذ مذكرة صادرة عن قضاء الوصاية الأجنبي، بل ينبغي أن يجري تعديلاً أو إلغاءً لتلك الاتفاقية التي جعلت من بلد سيّد مستقل كلبنان يرزح تحت وصاية قضائية أجنبية أو انتداب قضائي أجنبي سرعان ما يتحوّل إلى انتداب سياسي أيضاً.
إنّ مياهاً كثيرة قد جرت تحت الجسر بين يوم تشكيل المحكمة، وبين هذا اليوم، وإن متغيّرات عدة قد حدثت على الصعد المحلية والإقليمية والدولية منذ ذلك الحين، وهو ما يتطلب إعادة النظر بمحكمة تتعثر كلّ يوم، وتنحاز كلّ ساعة، وتسلب مواردنا الشحيحة كلّ حين.
إنّ الوفاء الحقيقي لدماء الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه الشهداء هو أن نخرج دماءهم من بازار الاستثمار السياسي والفئوي والتحريض الطائفي والمذهبي، وأن نصون قدسية الدم الذي سال فلا نهرقه هنا وهناك في النيل من حرية الناس وكرامتهم.