تحليل سياسي
خضر سعاده خرّوبي
قد يكون العالم والإعلام العربيان قد مرّا بهدوء أو ببرودة نسبية، على خبر استضافة الهند وزير «الدفاع الإسرائيلي» موشي يعالون في ظلّ ما يعيش على وقعه هذا العالم وما ينشغل به إعلامه. ولا يمكن لنا مجافاة القول بأنّ مساعي «إسرائيل» إلى تحقيق اختراق جدّي في «الجبهة الآسيوية» مع دول كانت تشكل حتى وقت، ليس ببعيد، دوائر «مناوئة» كالهند قد نجحت واستفادت من ظروف إقليمية ودولية، لا يمكن إعفاء العرب من دور ما في اتجاهاتها.
قبل حوالى أسبوعين، ومن العاصمة الهندية، أعلن الوزير «الإسرائيلي» أنّ العلاقة الأمنية بين تل أبيب ونيودلهي أصبحت علنية، بالتزامن مع الكشف عن صفقات عسكرية ومشاريع صناعية ضخمة بينهما. وهو بذلك يستفيد من تخفيف رئيس الحكومة الهندية نارندرا مودي من القيود عن الاستثمارات الأجنبية في قطاع الدفاع العام الماضي، مع الإشارة إلى أنّ مودي، ومنذ فوزه في الانتخابات الهندية، يقود خطاً موالياً لـ»إسرائيل»، على عكس ما اتسم به السلوك السياسي لأسلافه من تحفّظ في هذا المجال.
من المعلوم أنّ التحولات في منظومة السياسة الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة، و«تقدم العملية السياسية في الشرق الأوسط» في أوائل التسعينات، تشكل المحطة الأبرز في انطلاق العلاقات، على نحو غير مسبوق، بين الهنود و«الإسرائيليين». وقد جرت العادة أن يقول العارفون بهذا الشأن إنّ التفاوض الفلسطيني مع «إسرائيل» أعطى نيودلهي الغطاء الأمثل لبناء علاقة وثيقة مع تل أبيب في المجالات كافة.
ثمّة متغيرات سياسية عدة كان مردودها سلبياً على العلاقات العربية ـ الهندية. فمع انقضاء عصر الإيديولوجيات، بدأ نظام الهند، في فترة ما بعد الحرب الباردة، ذو التوجهات الاقتصادية الليبرالية الواضحة والمنسلخة عن إرث نهرو وغاندي المستمد من مبادئ «حركة عدم الانحياز»، بالتركيز على مدخل العلاقة مع «إسرائيل» كبوابة خلفية للحصول على ثنائية الاستثمارات والتكنولوجيا الغربية، خصوصاً الأميركية. فالمتغير الأميركي يحظى بحيّز مهم ومؤثر في العلاقة الهندية ـ «الإسرائيلية»، وقد ساهمت تفاعلات وديناميات داخلية هندية، كتلك المرتبطة بالصعوبات الاقتصادية وتعمّق مشكلات الفقر، فضلاً عن انطلاق ورشة «اللبرلة الاقتصادية» في تعزيز الحاجة إلى العلاقات مع الولايات المتحدة. اللافت في هذا الإطار، أنّ الفكر الاستراتيجي «الإسرائيلي» ينصبّ في تعاطيه مع الهند حول فرضية أنّ التعاون الاقتصادي والروابط الاستراتيجية تبقى هشّة وغير راسخة في أرض صلبة، إذا لم تدعّم بآفاق اقتصادية رحبة تنعكس على الطرفين. لذلك تطورت العلاقات الاقتصادية منذ تأسيس العلاقات الدبلوماسية بينهما، بوتيرة متصاعدة، حتى لامس حجم التبادل التجاري بين الهند و«إسرائيل» حدود الخمسة مليارات دولار عام 2008.
ومن الملاحظ أنّ «إسرائيل» تجد نفسها غير مستثناة من ملازمة مسار «التوجه شرقاً» بكلّ ما يوفره لها من مزايا اقتصادية وسياسية في اللعب على حبال التوازنات الإقليمية والدولية. فمن جهة، يبدو هذا المسار أقلّ إزعاجاً وأكثر تحرّراً من «القيود الأخلاقية» التي كثيراً ما توتر علاقاتها مع الغرب «المتبني لها». كما أنه يتيح لها أن تقول من خلاله للغرب، ولا سيما لحليفها الأميركي، إنّ دورها ما زال مهمّاً في المنطقة والعالم لاحتواء ما تسميه «الأصولية الإسلامية والإرهاب». وها هو وزير الخارجية الأميركي الأسبق والمعروف بحماسه لـ «إسرائيل» هنري كيسنجر يخرج علينا بتصريح حيث يقول لصحيفة «نيويورك بوست»: «بعد عشر سنوات لن يكون هناك إسرائيل»، علماً بأنّ تقريراً أعدته 16 مؤسسة تابعة للاستخبارات الأميركية، أطلق أخيراً توقعات مشابهة حول مستقبل الكيان «الإسرائيلي».
على أي حال، لم يكن البعد الاقتصادي وحده ما يبرّر «الشراكة الاستراتيجية» القائمة بين الهند و«إسرائيل»، بل ثمة أسباب أخرى تقف وراءها، وخصوصاً بالنسبة إلى الجانب «الإسرائيلي»، وبما أنّ «إسرائيل» تتعامل مع الدول العربية والإسلامية على أساس قدراتها وليس نواياها، فهي تتخوف من حدوث تغيير مستقبلي مفاجئ في باكستان يكفل وصول نخبة سياسية وعسكرية «إسلامية» تؤمن فعلاً بأن تكون إسلام آباد جزءاً من معادلة الصراع العربي ـ «الإسرائيلي».
إنّ جلّ ما تصبو إليه تل أبيب من خلال علاقاتها مع نيودلهي، يكمن في تحييد القنبلة النووية الباكستانية لأنّ أي خلل في ميزان القوى في جنوب آسيا، سيكون له تبعات وأصداء على مجمل الوضع في الخليج، في ظلّ الروابط الاستراتيجية والدينية والإيديولوجية بين دوله وباكستان.
وقد انشغلت المؤسسات الأكاديمية والبحثية «الإسرائيلية» بالتركيز على الأخطار المشتركة التي تهدّد كلاً من الهند و«إسرائيل»، وهي تشتمل على عناوين ثلاثة: «الإرهاب»، و«معاداة الجيران» لكلّ من الطرفين، إضافة إلى مسألة الانتشار النووي ومتفرعاته المتعلقة بكلّ من إيران باكستان. وكما استغل «الإسرائيليون» اشتغال باكستان باستغلال «البعد الإسلامي» في صراعها مع الهند كفرصة لتعضيد التعاون والتقرّب من نيودلهي، فقد عملوا على توظيف فوائد الشراكة الاستراتيجية مع الأخيرة في صراعهم مع إيران. وبقدر ما استفادت نيودلهي من الصناعات العسكرية «الإسرائيلية» ذات التكنولوجيا العالية، التي أصبحت المورد الثاني للسلاح إلى الجيش الهندي، فإنّ الجانب «الإسرائيلي» دأب جيداً على النهوض بالتعاون الأمني والاستخباراتي معها. وقبل سنوات قليلة، أطلقت «إسرائيل» قمرها الصناعي RISAT-2 من قاعدة صواريخ هندية، لأغراض التجسّس على طهران.
يمكن القول عموماً، إنّ العلاقة التي تربط الصين والهند و«إسرائيل» تنطوي، في الوقت عينه، على عناصر تتعاون الأولى والثانية فيها، تارةً على حساب الأخيرة في جانب ما، وتتنافسان فيها مرات أخرى لحسابها. يقارب محللون «إسرائيليون» سلوك تل أبيب تجاه نيودلهي بالقول إنّ حكوماتهم عكفت، منذ وقت طويل، على تطويق أي محاولة هندية بالانفتاح على العرب أو الإيرانيين من خلال تدعيم العلاقات مع الصينيين، الخصوم الاستراتيجيين للهنود. المعادلة اليوم تبدو معكوسة تماماً، وبخاصة إذا ما تنبهنا إلى أنّ وزير الخارجية الصيني كان في طهران قبل وقت ليس ببعيد.