خطوط حمراء مسبقة الصنع

د. حسن أحمد حسن

تشير تداخلات المشهد الدولي وإفرازاته المتشابكة إلى درجة التعقيد والتوتر الذي يتجاوز مرحلة الحرب الباردة إلى أن موازين القوى الاستراتيجية على الساحة الدولية تأثرت بالاصطفافات الجيوبوليتيكية الجديدة التي أفرزتها المواجهة غير المباشرة في أكثر من بؤرة توتر واضطراب على المستوى العالمي، ولعلّ ما يحدث في سورية منذ أكثر من ثلاث سنوات كان المسرح الأبرز لاصطفافات جديدة لم تتبلور معالمها الختامية بعد، وهذا يفسر محاولة أنصار المشروع التفتيتي في المنطقة فرض قواعد اشتباك مستحدثة قبل انقشاع دخان الحرب المفتوحة، ويبدو أنّ المشرفين على مركز القيادة وغرف العمليات الميدانية أصبحوا على قناعة بعقم جميع الرهانات التي انطلقوا منها لتفتيت المنطقة، وما كان لمثل هذه القناعة أن تظهر لولا صمود سورية وانكشاف حقيقة العديد من القطب المخفية في أكثر من مفصل من مفاصل هذه الحرب، وبخاصة بعد افتضاح حقيقة ما أسماه المايسترو الأميركي خطوطاً حمراء، عندما هدد أوباما بأن استخدام السلاح الكيميائي خط أحمر يقتضي التدخل العسكري الخارجي المباشر.

تورّط حكومة أردوغان

الآن، وبعدما خفت هدير محركات الأساطيل التي اتجهت نحو البحر المتوسط لنجدة الإرهاب الممنهج الذي تم تصديره لتدمير سورية، فتقوّضت أركانه تحت أقدام رجال الجيش العربي السوري، وبعد الاعتراف الأميركي الصريح بالعجز عن التورط في حرب عسكرية جديدة بشكل مباشر ـ من حق المتابع المهتم أن يتساءل: لماذا لا يتحرك المجتمع الدولي ومجلس الأمن للتحقيق على أقلّ تقدير في صحة ما تضمّنته مقالة الصحافي الأميركي المشهور سيمور هرش التي أكدت أنّ حكومة أردوغان هي التي زوّدت العصابات الإرهابية المسلحة السلاح الكيميائي الذي استخدم في آب الماضي في الغوطة الشرقية؟ وكيف يمكن فهم ابتلاع الألسن على ما نشره الموقع الأميركي»فيترانز توداي» وتأكيده أن وزارة الدفاع الأميركية هي مصدر غاز السارين الذي استخدم في الغوطة الشرقية، وقد سلمته إلى حكومة أردوغان التي قامت بدورها بتسليمه لجبهة النصرة الموضوعة على لائحة الإرهاب العالمي؟ وقبل هذا وذاك هل يظن المسؤولون الأميركيون أنه لا يزال في إمكانهم خداع الرأي العام العالمي بعامة والأميركي بخاصة بعد استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسات أمريكية وأظهرت نتائجها أن 61 من الأميركيين الذين استطلعت آراؤهم يعتقدون أن رئيسهم يكذب عليهم في القضايا المهمة والحيوية؟ وفي ظل هذه التشابكات غير المتجانسة كيف يمكن فهم السماح لحكام مشيخات الغاز وممالك النفط باستمرار المراهنة على كلاب صيد مسعورة وهاربة من المستنقع السوري الذي قضى على أعداد كبيرة منها، في حين يحاول من لا يزال حياً الفرار من موت محتم حاملاً معه الأخطار الجدية التي تهدد الأمن والاستقرار في أي مكان تتجه إليه؟ فهل تشهد المرحلة القريبة المقبلة عودة لحديث المايسترو الأميركي عن الخطوط الحمراء، أم أن جميع الخطوط على مختلف ألوانها ومسمياتها انتهت صلاحيتهاً بشكل مطلق؟

الدراسة الموضوعية لمواقف القوى الفاعلة على الساحة الدولية تبين أنه لا يوجد في القانون الدولي ما يسمى خطوط حمراء أو خضراء، بل هناك نصوص واضحة تحكم سياسات الدول وتحدد مسؤولياتها على نحو دقيق، وعندما يتم تجاوزها فإن الآليات التي يتضمنها ميثاق المنظمة الدولية كفيلة بمساءلة مع من يخرقون القانون الدولي والاتفاقيات الموقع عليها من قبل الأسرة الدولية ومحاسبتهم وفق القانون الدولي، لا وفق ما يقرّره أصحاب الرؤوس الساخنة في هذه الدولة العظمى أو تلك، وعادة ما تلجأ الدول المتنفذة إلى رسم خطوط حمراء على نحو مسبق كي تعطي نفسها مشروعية خرق القانون الدولي، على قاعدة أنه تم التحذير من هذا الأمر، كأن بقية دول العالم تابعة للدولة التي ترسم الخطوط الحمراء وفق مزاجها الذاتي، والتساؤل الذي يطرح نفسه هنا: من أعطى هذه الدولة أو تلك حق مصادرة القرار الدولي أو تنصيب نفسها شرطياً دولياً لتطبيق القانون وفقما يفسره ساستها بغض النظر عن مواقف بقية دول العالم؟ وهل يحق للمجرم الذي تثبت جريمته أن يغيب القانون عندما يريد، ويستحضر تفسيراته المشوهة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول المستقلة وفق أهوائه ورغباته؟

المطلوب أجوبة مقنعة

تساؤلات عديدة وجوهرية تتطلب تقديم أجوبة مقنعة ممن استحضروا الأساطيل لشن عدوان عسكري ضد الدولة السورية انتقاماً منها على جريمة هم الذين ارتكبوها. وإذا كانت موازين القوى الدولية تسمح لواشنطن البقاء بمنأى عن المحاسبة الدولية فهذا لا يعني السماح لها باستمرار العربدة التي تهدد الأمن والاستقرار الدوليين، ومن حق كل حريص على القيم الإنسانية أن يتصور الواقع الجديد لو استطاعت إدارة أوباما تنفيذ شن عدوان عسكري خارجي على سورية بعد استخدام العصابات الإرهابية المسلحة غاز السارين في الغوطة الشرقية في آب الفائت، وأي حالة كانت تنتظر منطقة الشرق الأوسط برمتها؟ إلاّ أن حسابات البيادر تناقضت مع حسابات حقول أطراف التآمر والعدوان، وأمام العجز المركب والاستعصاء الدولي عن إحداث اختراق جوهري في الاصطفافات الجديدة المتبلورة على ضفاف الصمود السوري يصبح واضحاً فهم أبعاد الموقف الأميركي من تحديد ما أسماه الخط الأحمر عبر النقاط الآتية:

1 – في آذار 2013 استخدمت العصابات الإرهابية المسلحة السلاح الكيميائي في منطقة خان العسل وسارعت الدولة السورية لمطالبة المنظمة الدولية بتشكيل لجنة دولية للتحقيق في ذلك، ورغم التأخر المتعمد في بدء أعمال اللجنة وتأخر صدور تقريرها، إلاّ أنه تضمن تأكيد استخدام المواد الكيميائية التي أودت بحياة عشرات المدنيين والجنود في الجيش العربي السوري، وكان واضحاً للمحققين أن « المتمردين» هم الذين استعملوا الغاز السام، لكن هذا الموضوع لم يخرج إلى العلن لأنّ أحداً لم يكن يرغب في ذلك.

2 – حديث أوباما عن الخطوط الحمراء صدر بعد توافر معلومات موثقة عن امتلاك العصابات الإرهابية المسلحة المواد الكيميائية، وبعد قيام بعض تلك المجموعات بنشر بعض التجارب على الحيوانات في منطقة غازي عينتاب وإلقاء السلطات التركية لقبض على مجموعة مسلحة وبحوزتها غاز السارين، وقد تم التعتيم المتعمد على نتائج التحقيق.

3 – مقالة سيمور هرش وما نشره موقع «فيترانز توداي» يؤكد أن إدارة أوباما كانت على علم بحقيقة من استخدم السلاح الكيميائي، وهذا يشير إلى أن حديث أوباما عن الخط الأحمر كان أمر عمليات مباشراً للمسلحين لاستخدام السلاح الكيميائي، كما أنه أمر عمليات لبقية الأجهزة المعنية لتهيئة ما يلزم، ومتابعة التنفيذ بدقة تفضي إلى اتهام الدولة السورية بالقيام بذلك.

4 – التورّط التركي المباشر في هذه الجريمة وتسريب ما دار في الاجتماع الأمني الذي ضمّ أحمد داود أوغلو والمسؤولين الأمنيين، والحديث عن التخطيط لتدخل مباشر وتهيئة البيئة المطلوبة لذلك يؤكد أن الخط الأحمر الذي تحدث عنه أردوغان حول حماية ضريح جد مؤسس الدولة العثمانية هو أمر عمليات جديد لداعش وغيرها من العصابات الإرهابية المسلحة لتقديم الذريعة التي يحتاجها أردوغان لتنفيذ عدوانه، إلاّ أن تسريب مضمون الاجتماع، وإخفاق الهجوم على كسب في تحقيق الأهداف المرسومة فرض على أطراف التآمر والعدوان تغيير السيناريو بعد افتضاحه.

محاولات تبرير العدوان

من كل ما تقدم، يتبيّن أن الخطوط الحمراء التي يتمّ تسويقها هي خطوط مسبقة الصنع من قبل من يتحدث عنها لتبرير قيامه بعدوان يتناقض مع القانون الدولي وميثاق المنظمة الدولية، والسبب الجوهري الذي يمنع من يحدّد تلك الخطوط الحمراء من المضي في تنفيذ ما خططه هو العجز عن تحمل تداعيات انفجار الوضع وتدحرج كرة اللهب التي تضع المنطقة برمتها على كف عفريت، وطالما أنّ المايسترو الأميركي ومن يدور في فلكه لم يستطيعوا تحقيق الأهداف الاستراتيجية التي وضعوها لحربهم المفتوحة ضد الدولة السورية فإنّ المعادل الموضوعي الوحيد الذي يملكونه هو العمل على استمرار نزيف الدم السوري، ومنع تبلور أي حل سياسي، وهذا ما أعلنت عنه المتحدثة باسم الخارجية الأميركية عندما قالت إنّ ما يجري في سورية ليس انعطافة في مجرى الصراع بل حرب استنزاف، والتساؤل الموضوعي الذي يفرزه هذا الكلام هو: بين من ومن حرب الاستنزاف المذكورة؟ وهل تكون حروب الاستنزاف بين دولة ومواطنيها أم بين دولة وأطراف خارجية؟ وماذا يعني التأكيد على امتداد فترة هذه الحرب المفتوحة؟ ألا يعني في ما يعنيه أن واشنطن هي التي يقود هذه الحرب وهي حريصة على إطالتها؟ وإذا كان ذلك كذلك فهل ينتظرنّ عاقل أن تساهم واشنطن في إيجاد حلّ سياسي؟

الأجوبة عن كل التساؤلات السابقة واضحة لدى السوريين الذين حزموا أمرهم وأطلقوا المصالحات الوطنية بدلاً من انتظار من ينهش لحمهم لتقديم الحلول، وفي الوقت نفسه يتابع الجيش العربي السوري تنفيذ مهمّاته الوطنية والدستورية بكفاءة عالية في ملاحقة ما تبقى من جسد إرهابي ودك معاقله وتخليص الوطن والمواطنين من شرور العصابات الإرهابية المسلحة التي تتهاوى بالجملة على صخرة الصمود السوري، وتتهاوى معها جميع الخطوط الحمراء التي يقولبها من يرعى الإرهاب العالمي ويدعي حرصه على مكافحة الإرهاب.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى