فلسطينيو الـ48 وقضية التجنيد ـ 1
البروفيسورة نهلة عبدو
أثارت الحملة «الإسرائيلية» الحديثة – القديمة لتجنيد فلسطينيي الداخل، وتحديداً المسيحيين منهم، ضجة كبيرة وغضباً عارماً لدى الأوساط الشعبية والشبابية والقيادية العربية في الـ48. فرغم وجود أفراد قلة ربما يعدون على أصابع اليد الواحدة ممن خرجوا لتأييد هذه الحملة علناً، إلا أن الغالبية الساحقة كانت وما زالت تعارض بشدة وتناهض هذه الحملة. لن نتوقف كثيراً عند هذه القلة وبخاصة رجلي الدين جبريل نداف ومسعود أبو حاطوم، إذ قد نال هؤلاء نصيبهم من النقد والاحتقار الجماهيري، لا سيما شعبياً وعبر الإنترنت. يكفي هنا التذكير بمنع الشباب الناصري والمسيحي منه هذا الكاهن من دخول كنيسة البشارة.
شخصياً، لا أرى أمراً غريباً ولا أستهجن وجود ظاهرة كهذه في ربوعنا الفلسطينية، ولا في وسطنا العربي، ولا حتى بشكل عام. فوجود المنتفعين أو المغرّر بهم أو حتى المنحلّين أخلاقياً من رجالات الدين من جميع الطوائف، مسلمين كانوا أو مسيحيين أو دروزاً ليس جديداً. ففي كل حالة استعمار، وتحت أشكال الكولونياليات كلّها كانت تظهر طبقة معينة أو بعض أفرادها ممن يجد في الاستعمار أداة لتنفيذ مآربهم أو تحقيق مطامعهم. فما يهمّنا هنا ليست هذه القلة بل السياق التاريخي العام لحملة التجنيد الصهيونية والمقاومة الخلاّقة والشرسة لهذا النوع من القهر العنصري.
السياق التاريخي لسياسة التجنيد الصهيونية
نعلم جميعاً أنه بعد قيام الدولة الصهيونية على أنقاض الشعب الفلسطيني كان الهمّ الأساسي لهذا الكيان أن إثبات هويتة الغريبة على هذه الأرض، وفرضها بالقوة، ليس على محيطها العربي فحسب بل كذلك على نحو 20 في المئة من الشعب الفلسطيني الباقي على أرضه. فكانت سياسات العزل الجغرافي والشرذمة والتفريق من أساليب الهيمنة، وتبعتها وما زالت تتبعها سياسات مصادرة الأراضي المتبقية لدى الفلسطينيين، وهدم القرى والمنازل وتغيير معالم المدن والقرى الفلسطينية، إما من خلال التحريج أو بناء المستعمرات اليهودية. ففي عام 1956 وبعد اللقاء المشهور بين رجالات الحكومة «الإسرائيلية» ومشايخ من الطائفة الدرزية والذي أفضى إلى إتفاق أجبر فيه العرب الدروز على الخدمة الإلزامية في الجيش «الإسرائيلي» تعهدت الدولة مثلما يتعهّد أي نظام كولونيالي بمعاملة «مميّزة» للطائفة الدرزية، من تحسين وضعهم الاقتصادي والتعليمي، وإعمار البنية التحتية وما الى ذلك من سياسات تميّزهم عن بقية شعبهم. لكن كانت هذه التعهدات وبقيت كما في أي نظام كولونيالي رهينة اللحظة… تلك اللحظة حين ينتهي النظام من انشغالاته في قضايا مهمة أخرى ليعود ويعتني بهذه القضية. فرغم الوعود «الإسرائيلية» برفع مستوى التعليم بين الدروز إلاّ أن المرأة الدرزية بقيت في أدنى السلم من الناحية التعليمية. أظهرت في مكان آخر عبدو 2011 أنها منذ نشأة الحركة الصهيونية وتجلياتها في قيام الدولة كانت نظرتها إلى الرجل العربي والمرأة العربية نظرة استشراقية عنصرية ودونية، إذ وضعت وما زالت تضع السبب في تدني مستوى المرأة العربية ليس على سياساتها القمعية والمهمِّشة بكسر الميم بل على الثقافة العربية، والدين والعائلة. ومن هذا المنطلق الاستشراقي العنصري كانت الحكومات «الإسرائيلية» تصوغ سياساتها. فمن إحدى ظواهر «المزايا» التي قدمتها الحكومة «الإسرائيلية» في المجال الاقتصادي للنساء الدرزيات في الجليل حيث تقطن الغالبية الدرزية إقامة معامل نسيج وتشغيل ألوف النساء أو بالأحرى استغلال ألوف الأيدي العاملة الرخيصة، في سبعينيات القرن الفائت. لكن في مطلع تسعينات القرن الماضي وتحديداً بعد اتفاقية أوسلو 1994 رأت الدولة الكولونيالية أن مصالحها الرأسمالية التوسعية يمكن أن تفيد من سياسة الباب المفتوح على الأردن باستعمال أيدي أرخص وأقلّ كلفة، إذ لا يتمتع العمال بأي حقوق، فأغلقت معامل النسيج كلها وحوّلتها إلى المناطق الحدودية في الأردن. هذا مثال واحد على سياسة «إسرائيل» التمييزية والمرتهنة كما ذكرنا لشروط الاستعمار الكولونيالي وديناميته. بكلمات أخرى لم تكن الوعود «الإسرائيلية» للدروز الفلسطينيين إلاّ فتات قليلاً وأوهاماً كبيرة. فمثلما ورد في رسالة «رفض المثول للتجنيد الإجباري» التي بعث فيها الشاب عمر سعد إبن قرية المغار الجليلية إلى رئيس الوزراء «الإسرائيلي» نتنياهو رداً على تسلّمه أمر المثول للخدمة الإجبارية:
«لقد خَدَم العديد من شبابنا ضمن قانون التجنيد الإجباري فعلى ماذا حصلنا؟ تمييز في جميع المجالات، قرانا أفقر القرى، صودرت أراضينا، لا يوجد خرائط هيكلية، لا يوجد مناطق صناعية. نسبة خرِّيجي الجامعات من قرانا من أدنى النسب في المنطقة، نسبة البطالة في قرانا من أعلى النسب. لقد أَبْعَدَنا هذا القانون عن امتدادنا العربي…».
بهذه الكلمات المقتضبة لخص المناضل الفلسطيني الشاب سياسة «إسرائيل» العنصرية، وفنّد إدعاءاتها في «تمييز» الأقلية الدرزية والهادفة إلى سلخهم عن بقية شعبهم الفلسطيني.
«برافر لن يمرّ من هنا»
إنه الشعار الذي وضعه المناضل عمر على صدره، والشعار الذي رفعه وما زال يرفعه الفلسطيني البدوي والمسلم والمسيحي رفضاً لسياسة نهب الأراضي في النقب. فالبدو الفلسطينيون لم تكن حالهم أفضل من الدروز. فمنذ عام 1958 قامت «إسرائيل» بحملة مشابهة لتجنيد البدو، لكن ومنذ ذلك الوقت وإلى وقتنا هذا ما برحت الدولة مستمرة في اضطهادها للبدو وقمعهم وتهميشهم. فمنذ قيام الدولة حتى عام 1966 عزل البدو عن باقي شعبهم العربي، وقطعتهم الدولة عن امتدادهم العربي الفلسطيني جغرافياً واجتماعياً وثقافياً. والأنكى من ذلك أنها مارست وما زالت تمارس التمييز العنصري ضدّهم. أكثر من أربعة وأربعين قرية بدوية صنّفت بـ«غير المعترف بها» وبقيت هذه القرى التي يقطنها أكثر من 40 ألف فلسطيني محرومة من أبسط الحقوق الإنسانية من دون ماء أو كهرباء أو مدارس أو عيادات طبية أو أي نوع من الخدمات ، وما برحت عرضة للهدم وأهلها للاقتلاع. ولم تكتفِ بذلك، ففي السنوات الأخيرة وافقت الحكومة «الإسرائيلية» على «مشروع برافر» الذي يقضي بمصادرة ما يزيد على 800 ألف دونم من أراضي البدو في النقب وترحيل 40 ألف مواطن. السياسات «الإسرائيلية» المجحفة في حق البدو الفلسطينيين جعلتهم أكثر تهميشاً وأشدّ فقراً وجعلت المرأة البدوية أقل حظاً بالتعليم والعمل، وهمّشت التركيبة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لهذا القطاع من فلسطينيي 48. لكن، مثلما استهللنا هذه المناقشة بعبارة «برافر لن يمر من هنا»، شهدنا وما زلنا نشهد الحملات الشعبية، بمشاركة النساء والرجال، المناهضة لسياسات القمع والعنصرية «الإسرائيلية» تجاه البدو الفلسطينيين.
«يا عدرا يا أم المسيح فكّي عنا التصاريح»
ما زلت أذكر إلى يومنا هذا الشعار الذي كان يرفعه أهل الناصرة في المهرجانات الشعبية وفي الأعياد. ففي السنوات الأولى للاحتلال «الإسرائيلي» لفلسطين بين 1948 و 1966 حين أخضعت الدولة الصهيونية الفلسطينيين الأصلانيين لنظام الحكم العسكري، وكان ممنوعاً علينا مغادرة بلداتنا وقرانا ومدننا من دون إذن من الحاكم العسكري أو من دون تصريح تضرّع الناس إلى السيدة مريم طالبين منها الشفاعة لهم عند الله. ولم يكن هذا الشعار حكراً على المسيحيين، بل كان يردّد من قبل الجميع. فطوابير العائلات وتحديداً الرجال الذين كانوا يتجمعون يومياً قرب أحد مقرات الحاكم العسكري في الناصرة لإصدار تصاريح لمغادرة الناصرة أو القرى الجليلية للذهاب إلى العمل خارج منطقة سكناهم، ما زال حياً في مخيلتي. ففي طفولتي كان أبي يصطحبني معه ونقف في هذه الطوابير لاستصدار تصريح لكي نذهب إلى حيفا لزيارة أهل أمي، أو للذهاب إلى طبريا في صيف الناصرة الحار. فالتصاريح أو أذونات التحرك المفروضة على الفلسطيني ليست جديدة ولم تظهر بعد الاحتلال «الإسرائيلي» لباقي فلسطين بعد 1967 ، بل مورست على السكان الأصلانيين منذ نشأة الدولة. وفي الحقيقة لولا عدم قدرة «إسرائيل» على إبقائنا تحت حكمها العسكري لحاجتها إلى الجيش والعسكر في حرب 1967 لبقينا نحن وبقية شعبنا تحت حكم العسكر.
قبل أن أتطرق إلى علاقة دولة الاستعمار الصهيوني مع الفلسطينيين المسيحيين من شعبنا الأصلاني، أودّ التنويه بحقيقة مرة مفادها أن الفلسطيني عامة والأصلاني خاصة والذي كان يفاخر دوماً بهويتة القومية كفلسطيني وهويته الوطنية كعربي وعروبي يضطر الآن بسبب سياسات طمس الهوية العربية عبر تشتيت نسيجنا الاجتماعي وتمزيقه، إلى استعمال المصطلحات الدينية في تعريف هويتنا الوطنية. ويعزز هذا التمزيق وهذا التشتيت صعوبة البحث العلمي وشح الأساليب البحثية عند التطرق لأوضاع فلسطينيي الداخل. فمثلا عندما أجريت بحثي عن النساء وقضية العنصرية والمواطنة في «إسرائيل» لم أستطع الحصول على إحصائيات دقيقة عن الفلسطينيين كقومية واحدة وموحدة. فالإحصائيات الرسمية «الإسرائيلية»، مثل سياساتها العامة، لا تعترف بقوميتنا الفلسطينية ولا حتى العربية منها مع أنها تطلق علينا تسمية «عرب إسرائيل» أو «الإسرائيليين العرب»، في الإحصائيات «الإسرائيلية» الرسمية يتمّ تعريفنا بحسب الديانة: فنحن مسلمون أو مسيحيون أو دروز أو بدو ولسنا عرباً أو فلسطينيين. ومن بيننا جميعاً ومثلما حاججت في كتابي، تحاول السلطات إبراز المسيحيين كمجموعة أكثر ليبرالية وتقدماً وتعليماً من بقية الفلسطينيين، كأنّ ذلك واحد من إنجازات الدولة. لكن ما تغفله الدولة أو تتغافل عنه هو أنّ نسبة التعليم الأعلى لدى هذه الطائفة، وتحديداً الإناث منهم، مقارنة ببقية شعبنا لم تكن البتة منة من «الإسرائيلي» بل نتاجاً لتعاقب الاستعمارات ومدارس التبشيريات المسيحية. إذ لم تكن «إسرائيل» من أقام المدارس الأهلية في الناصرة أو في القدس مثلاً بل أن هذه المدارس والخدمات الأخرى أنشأتها الإرساليات الدينية الإستعمارية الأخرى. فليس غريباً أن تحظى المدارس الأهلية بغالبية مسيحية. فعدا مدرسة ثانوية حكومية واحدة في الناصرة هنالك مجموعة مدارس أهلية مدرسة راهبات الطليان مدرسة الفرير، مدرسة الروم، مدرسة الفرنسيسكان، راهبات مار يوسف، مدرسة الأميركان … إلخ . وعلى النسق نفسه، وحتى هذه اللحظة، لم تقم الدولة ولا مستشفى واحد في الناصرة، أكبر مدينة عربية في البلاد، بل على العكس، أنشئت مستشفيات الناصرة المستشفى الإنكليزي والنمساوي والفرنسي قبل الدولة على أيدي المستعمرين التبشيريين. أما الدور الأساسي التي قامت به الدولة فهو تهميش القرى والمدن ومحو أكثر من 500 قرية وإلغاء معالمها الفلسطينية.
في حين تتباهى «إسرائيل» وتقدم ذاتها بكونها حامية أو راعية لمصالح المسيحيين، لا بد من تذكير أنفسنا بأن أعداد المسيحيين الذين هجرتهم «إسرائيل» من القدس بلغوا 37 في المئة مقابل 16 في المئة من المسلمين. لنذكر بعضنا أن المدن الفلسطينية والتي سكنها الجزء الأكبر من المسيحيين كان دمارها وتشريد أهلها من أولى عمليات الإجرام الصهيوني الممنهج. لنذكر أنفسنا بأنّ بعض القرى التي حصلت فيها مجازر جماعية كانت عيلبون بغالبيتها المسيحية. لنذكر أنفسنا بأن قانون الغائب-الحاضر والذي سنته الدولة مباشرة بعد نكبة 48 طال كل القرى الفلسطينية المسيحية منها والإسلامية على السواء. فمثال قريتيْ إقرث وكفر برعم، البالغ عدد سكانها سنة 2010 نحو 3000 نسمة وما زالوا ينتظرون العودة، ما زال حياً في وجداننا. ففي غمار الحرب الكولونيالية الاستعمارية أجبرت الأخيرة أهالي هاتين القريتين على مغادرتها، وكان الوعد «الإسرائيلي» أن يغادروا هذه القرى لمدة أسبوعين فحسب على أن يعودوا إليها بعد الحرب. فبحسب بعض الوثائق كان الأمر العسكري يطالبهم بالرحيل إلى لبنان، لكن شعور الأهالي بالمؤامرة جعلهم يمكثون في القرى المجاورة، حيث سكن الجزء الأكبر منهم في قرية الجش الجليلية المجاورة. وبحسب هذه الوثائق بعد أكثر من أسبوع من التهجير زار الحاكم العسكري للجليل قرية الجش و«أوضح الالتباس» قائلاً إن السلطات كانت تتخوف من هجوم من لبنان، وأنها أرادت حمايتهم وإبعادهم من المنطقة ووعدهم بالعودة إلى قراهم بعد أسبوعين. عام 1951، وبعد الوعود المتتابعة بالعودة وعدم الإيفاء بها قدم عشرة من أبناء كفر برعم، بالنيابة عن بقية الأهالي، دعوة إلى محكمة العدل العليا فأقرت الأخيرة بحقهم في العودة إلى قراهم. إلاّ أن السلطات «الإسرائيلية» رفضت السماح لهم بالعودة وصادرت عام 1953 أراضي القريتين بزعم أن هذه الأراضي لم يكن أصحابها أو مالكوها يستعملونها. لكن بعد إصرار الأهالي على استرداد قراهم والعودة إلى بيوتهم لقتل الأمل في العودة، هدمت الحكومة باسم الأمن بيوت قرية كفر برعم. ومنذ ذلك الحين إلى يومنا هذا يطالب أهالي القريتين بالعودة إلى قراهم، وتبقى القرى مغلقة «لأسباب أمنية» بحسب قانون الطوارئ البريطاني لعام 1948. هذا السرد المقتضب يعبر عن فكرة واحدة هي أن العربي الفلسطيني أياً يكن انتماؤه الديني فهو في نظر «الإسرائيلي» عدوا لها ويشكل خطراعلى أمنها. أن تكون إقرث وكفر برعم قريتين مسيحيتين لم يغير ولن يغير من سياسات الدولة الكولونيالية والاستعمارية. فإذا كان هذا ماضي «إسرائيل» وهذا حاضرها فكيف يتسنى لأي منا، مسيحياً كان أو درزياً أو مسلماًً أو بدوياً أن يفكر ولو لوهلة في أن يحظى بعطف هذه الدولة، وكيف لنا أن نظن بأن دولة الكولونيالية الاستعمارية يمكن أن تغير سياساتها نفياً وإلغاء حيال سكانها الأصليين؟ ومن هنا نعود إلى قضية هذه المقالة الأساسية وهو الخطاب الفلسطيني الحالي في مناهضة التجنيد.