الثقة… ولا شيء آخر
لمياء عاصي
اعتبرت الثقة الأساس الذي بنى الإنسان عليه معظم تعاملاته الاقتصادية والاجتماعية تاريخياً، واليوم مع ازدياد تعقيد المنظومات الاقتصادية في النظام العالمي الجديد تبدو الحاجة أكبر إلى الثقة، وخصوصاً على صعيد الاقتصاد الوطني، حيث أنّ ضعف الثقة بين صناع القرار الاقتصادي والناس هو سيد الموقف. دائماً هناك من يشكك في نوايا الحكومة وقراراتها، حتى لو كان القرار جيداً… باتوا يعتبرونه مقدّمة لشيء سيّئ، ربما يضمر لهم، وبالرغم من أنّ ذلك يجافي المنطق، إذ كيف يمكن أن تستهدف الحكومة مواطنيها… ولماذا؟ الإجابة تكمن في الشعور العام بالقلق وفقدان الثقة بين الأطراف، نتيجة للقرارات الحكومية التي لم يفهمها الناس، برغم وجود دواع وأسباب موضوعية تبرّرها أحياناً، وهذه الحال ليست بجديدة، وإنما سبقت أزمتنا الوطنية بسنوات.
كان الناس يشعرون بالدور الكبير للدولة في حياتهم منذ ستينيات القرن الماضي، أو ما سُمّي بالدور الأبوي للدولة، التي كفلت تأمين التعليم والصحة، وفرص العمل… وهي المسؤولة عن الخدمات الأساسية للمواطنين من كهرباء وماء واتصالات بأسعار مقبولة… وتساعد في تأمين السكن… وتوفر القروض للمنتجين والمستهلكين على حدّ سواء، ليحدث بعد ذلك التحوّل باتجاه اقتصاد السوق… وليبدأ مسلسل تطبيق السياسات والقرارات التي تستلزمها عملية الفطام الصعبة عن الرعاية الشاملة، بدءاً من توقف الدولة عن التوسع في القطاع العام، ووقف التشغيل والتوظيف لأسباب اجتماعية في الدولة… وصولاً إلى رفع الدعم عن حوامل الطاقة. لا ننسى أنّ معظم الدول التي سارت في طريق الإصلاح الاقتصادي، اتخذت إجراءات صعبة ومؤلمة… أثرت على أعداد كبيرة من الناس، ولكن بعض هذه الدول استطاعت أن تمضي في طريق التحوّل الاقتصادي، بخطوات ذكية وتدريجية وبنوع من الشفافية والانفتاح بين الحكومة والمواطنين، وأقنعتهم بأنها تفعل كلّ شيء لمصلحتهم على المدى الطويل.
في هذا السياق، عقد مؤتمر للأمم المتحدة، حول بناء الثقة في الحكومة في فيينا عام 2007، بمشاركة المجتمع المدني والبلديات من دول كثيرة حول العالم، وأهمّ النقاط التي أكدتها توصيات المؤتمر للمساهمة في تعزيز الثقة بالحكومة هي:
أولاً: المتانة المؤسساتية واحترام الدستور وكذلك تحديد الأولويات بوضوح والسعي إلى تحقيقها.
ثانياً: تحقيق الإنصاف والمساواة في تقديم الخدمات الاجتماعية.
ثالثاً: تعزيز المشاركة المحلية.
رابعاً: زيادة الشفافية والمساءلة من أجل مكافحة الفساد.
خامساً: تحسين العلاقة بين المواطنين والحكومة باستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
سادساً: إشراك المجتمع المدني في صنع السياسات العامة على نحو فعّال.
وأخيراً، بناء علاقات إيجابية وفعّالة مع وسائل الإعلام واعتماد مبدأ الشفافية في المعلومات العامة، وتمّ تطبيق ما سُمّي بالمعلومات الحكومية المفتوحة أو الــOpen Government Data.
مشكلة الثقة بين الحكومة والجمهور، موجودة في معظم الدول ولا سيما النامية منها، حيث تتهم الحكومات بعدم قول الحقيقة وبالكذب أحياناً.
مثلاً… في سورية، صدرت بعض التصريحات مؤخراً تقول إنّ الإصابات بالتهاب الكبد الوبائي هي ضمن النسب العادية، في حين تقول الوقائع، إنّ هناك انتشاراً واضحاً وأكثر من المعدّل الطبيعي لهذا المرض، وخصوصاً في المدارس، وهذا يذكر بما قاله الكاتب ممدوح عدوان ذات يوم «أنّ الحكومة تكذب في أعداد المصابين بالكوليرا، وتكذب حتى في نشرات الطقس…»، قد يبدو الأمر مضحكاً، ولكنه إلى حدّ ما… صحيح ولا أحد يدرك الحكمة من هذه التصريحات البعيدة عن الواقع.
يعلم السوريون أنّ الحرب على بلدهم طاحنة ومريرة وغير مسبوقة في التاريخ، وأدّت إلى ظروف اقتصادية صعبة جداً، جعلتهم يفقدون عملهم ودخلهم وأكثر من 70 من قدرتهم الشرائية وباتوا يعيشون على قارعة الفقر، وفي الوقت الذي يسمعون فيه تصريحات حكومية غير واقعية عن تحسين مستواهم المعيشي، في حين تتوالى إجراءات رفع الأسعار لمشتقات الطاقة ومعظم المستلزمات الضرورية لحياتهم اليومية، الأمر الذي يجعل الناس تلقائياً غير مصدّقين لما يسمعون، إذ أنّ وعيهم كبير ويعرفون الواقع.
أحد المواقع الالكترونية المعروفة نشر مقالاً تحت عنوان لافت يقول: «المطلوب من الحكومة أن تكفّ عن التصريحات المستفزة»، مثل هذه العناوين تعكس إحباطاً واضحاً في الشارع من الأداء الحكومي، وهنا يجدر بنا التساؤل حول الكلفة الاقتصادية لضعف أو فقدان الثقة بين الجمهور والحكومة؟ للإجابة على هذا السؤال، نلاحظ انخفاضأً كبيراً في نسبة الناس التي تصدّق التصريحات بشأن: سعر الليرة، توفر المشتقات البترولية، إعادة الإعمار، تحسين المستوى المعيشي للناس، وكبح جماح الأسعار… وغيرها، وهي مواضيع اقتصادية هامة يلعب فيها العرض والطلب دوراً حاسماً في تحديد أسعارها وتوجهات الناس حولها، وهو ما ترصده الاقتصاديات السلوكية أو behavioral economics، التي تهتمّ بدراسة الأنماط السلوكية للمستهلكين والآثار الاقتصادية الناشئة عنها، والتي تؤكد أنّ حالة عدم اليقين في أي دولة ينتج عنها آثار سلبية على المستوى الاقتصادي.
تغيّر نمط وسائل الإعلام كإحدى ثمار ثورة الاتصالات والمعلومات، ولم يعد باستطاعة أيّ حكومة تجاهل الرأي العام، بل أصبح الجمهور يعبّر عن وجهة نظره آنياً، حول القضايا العامة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهي الشكل التفاعلي للإعلام الذي لم يكن موجوداً في الماضي، حيث كان الإعلام ملكاً للحكومة، ويقوم بإيصال الرسائل التي تريدها للناس بغضّ النظر عن مضمونها، وكان في إمكان أي وسيلة إعلام أن تنقل ما تشاء من الحقائق وتتجاهل أو تغيّر ما تشاء من الوقائع بدون أي مشكلة.
إنّ ضعف الثقة بالحكومة تنشأ من تناقض كبير بين ما تحلم الحكومة في تقديمه للناس، وقدرتها الحقيقية على فعل ذلك، إضافة إلى عدد من العوامل أهمها:
1 ـ القرارات الصادمة والمفاجئة وغير المسبوقة بتمهيد إعلامي مناسب لشرح مبرّرات القرار وإبراز الحجج المقنعة لهذا الإجراء.
2 ـ الإعداد غير الكافي لأيّ قرار، مما يجعل الحكومة مضطرة إما لإلغائه لاحقاً أو العدول عنه، أو لإصدار قرارات أخرى لتعديله أو تصحيحه، وهذا يفاقم ضعف الثقة بها.
3 ـ عدم وضوح الرسالة الإعلامية ومنطقيتها، قبل وبعد القرار.
4 ـ عدم انخراط المؤسسات في الإعداد للقرار بشكل فاعل، مما يجعل المؤسسات المسؤولة عن تطبيق القرار غير مقتنعة به، وهذا يؤدّي إلى فشل التطبيق.
5 ـ التصريحات المتناقضة بين أعضاء الحكومة أحياناً، والاستفزازية للمواطنين أحياناً أخرى، فيبدو المشهد وكأنه مباراة كرة قدم والفريق لا يلعب بشكل منسجم.
هذه العوامل، تعمّق الفجوة بين المواطنين والحكومة، وتجعل الناس تشكك حتى بالقرارات الجيدة، وإذا أرادت الحكومة تجسير فجوة الثقة لا بدّ من العوامل التالية:
1 ـ صنع وصياغة السياسات العامة الحكومية، بطريقة مؤسساتية معتمدة على الخبراء، وأن تكونSMART أي محدّدة، قابلة للقياس، قابلة للتحقيق، لها علاقة بالرؤية الشاملة في البلد، ذات إطار زمني محدد.
2 ـ التحدث إلى الناس بنوع من الشفافية، وبروح إيجابية وتحميلهم مسؤلياتهم للتصدّي لما تتعرّض له بلدهم.
3 ـ إنفاذ القانون بشكل متساو على الجميع، بدون محاباة لفئة دون أخرى، وخصوصاً الأقارب والأصحاب.
4 ـ التزام الحكومة بتعهّداتها مهما كان الثمن، واعتماد اسلوب التوضيح للناس والاعتذار عن أيّ أمر لا تستطيع الحكومة تنفيذه.
أخيراً، ومن أجل تنفيذ ما سبق، لا بدّ من بناء جسور متينة والتعامل بروح الشراكة مع اللاعبين الرئيسيين في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وهم عبارة عن السلطات المحلية والمجتمع المدني والقطاع الخاص والنقابات ووسائل الإعلام والجامعات وغيرهم، ولعلّ الإعلام وخصوصاً الإلكتروني والتفاعلي ووسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن يقوم بدور هام في نقل الرسالة في الاتجاهين بين الحكومة والناس.