هل ستدخل المنطقة صراعات جديدة بعد التوصل إلى حل للملف النووي الإيراني؟
محمد شريف الجيوسي
أقر حلف الأطلسي الاستعماري العسكري الغربي الناتو ، أن إسقاط الحلف لنظام العقيد معمر القذافي كان خطأ فادحاً. ومن قبل أقر الغرب أن العراق لم يكن ليمتلك أسلحة دمار شامل وأن غزوه لم يكن مشروعاً وأن حل الجيش العراقي كان خطيئة ارتكبتها الولايات المتحدة الأميركية.
الغرب يرتكب الموبقات السياسية والأخلاقية والعسكرية، ثم بعد خراب البصرة وبعد أن يرتكب ما يرتكب من الدمار والقتل والتخريب وإحداث الفتن، ويفشل في تحقيق غاياته النهائية، بفضل صمود الشعوب والأمم بمواجهته، يضطر وقتها إلى الانسحاب من المواجهة أو من الاستمرار فيها، ويأخذ بالتنظير، عن الأخطاء وما كان عليه أن يفعل أو أن لا يفعل، بعد أن يتيقن من أن الرياح ليست مواتية لمغامرات وارتكاب حماقات جديدة، وقتها يبدأ الغرب بالبحث عن وسائل للخروج بأقل قدر من الخسائر المستجدة وبأكبر قدر من حفظ ماء الوجه إن أمكن، وهو في ذلك وبالأخص واشنطن، لا تعبأ بمصالح الحلفاء والتابعين والمريدين والعملاء والبيادق وبيادقهم، فـ»يكوّع» عند أول منعطف.
وحال واشنطن الآن مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، نموذج للبراغماتية الأميركية التي تُرسم بأكبر قدر من الانتهازية والاستخفاف بأقرب وأكبر المقربين لها، كبون وباريس ولندن و«تل أبيب»، ففيما كانت تضغط على العواصم الـ 3 الأولى، لكي لا تتوصل إلى اتفاق مع طهران، وكانت هذه مجتمعة ترضخ للرغبة الأميركية، وهي الآن تدفع ثمن رضوخها، من دون مقابل، فيما ستتصدر واشنطن المشهد، وتقطف ما يمكن أن تقطف من حسنات الاتفاق مع الدولة الإيرانية الصاعدة، والمنتشرة تحالفاتها على 3 قارات على الأقل، ولديها من المزايا النسبية ما يكفيها ويزيد.
لكن واشنطن وهي تًقبل على اتفاق مع إيران، لا تفعل ذلك عن حسن نية أو بلاهة أو كرم أخلاق أو قوة، بل نتاج ضعف شديد هي تدركه جيداً، فقد زاد إيران التحدي الغربي الأميركي الصهيوني، والصلف والحصار والعقوبات والمؤامرات على مدى عقود، قوة وتقدماً ونفوذاً إقليمياً ومكانة ووحدة داخلية وتحالفات خارجية.
لم ينفع الغرب حتى تنشئة أحمال سَموم وولادات مشوهة ومشبوهة أسميت الربيع العربي مستغلة أخطاء هنا وهناك ورغبات بالإصلاح والتغيير والخلاص من التبعية إلخ، فتمكنت من حرف الصراع مع الكيان الصهيوني إلى صراعاتٍ مذهبيةٍ وطائفيةٍ وإثنيةٍ وقبلية، ومع كل ذلك لم ينجحوا، بل وحققت القوى المناهضة للإمبريالية ومن يليها، نجاحات مهمة على الأرض، على رغم كل الدماء التي أسيلت والتضحيات التي بذلت وحجم الدمار الهائل الذي أحدثته وتسببت به أدوات المخطط الظلامية.
وسيكون لتوجه واشنطن للحل مع إيران، تداعياته، ومنها توجيه ضربة للحلفاء الكبار ودرس قاسٍ جديد لن يكون الأخير، ما لم تتعلم أوروبا جيداً منه وما ينبغي أن تتعلم، ولا يبدو أنها على القدر الكافي اللازم للتعلم، حيث ستتفرغ أميركا لجبهة أوكرانيا، ما سيجعل أوروبا تدفع ثمناً باهظاً جديداً بتصعيدها أي أميركا الصراع في أوكرانيا، فيما ستكون أوروبا واجهة الصراع مع روسيا والمتلقية للصدمات والنتائج، فيما هي أوروبا بالكاد تخرج من أزماتها ومشكلاتها من دون حروب.
وعلى رغم أن البعض في الكيان الصهيوني يحاول إظهار التباين بين واشنطن وتل أبيب على أنه اختلاف مع الديمقراطيين، إلا أن الحقيقة غير ذلك، ففي الولاية الثانية لبوش الابن الجمهوري ، جرى إمراض شارون بقرار أميركي، لأنه فكر بتوجيه ضربة لإيران، فيما كان لواشنطن نحو 150 ألف عسكري في العراق، يشكلون صيداً سهلاً لطهران في حال استفزتها «إسرائيل».
وغلى رغم أن «إسرائيل» أعز على أميركا من أي من ولاياتها. إلا أن للصبر حدوداً فالكيان الصهيوني أصبح عبئاً، بعد أن فقد قدرته على حماية مصالح واشنطن والغرب في المنطقة، بل أصبح بحاجة لمن يحميه، في حين تتوفر لأميركا بيادق عديدة في المنطقة، أكثر تبعية وخنوعاً وبلا كلفة، ويمكن أن تكون أكثر قدرة من تل أبيب على تفتيتها وتحقيق أهداف واشنطن باعتبارها جزءاً منها، ولا تتحمل واشنطن في مثل الحالة أكلاف صراعات المنطقة مالياً ودماء ومسؤوليات «أخلاقية» ظاهرة، كما لو تورطت «إسرائيل» في الحرب مباشرة.
بكل هذه المعاني، فإن واشنطن معنية بالتوصل إلى طي الملف النووي مع إيران، وتقديم تنازلات مهمة، لكن الصراع سيتخذ شكلاً جديداً معها ومع المنطقة، فضلاً عن أوروبا، أما واشنطن فستكون الرابح الأكبر، ما لم تنجح أطراف بجرها إلى حلبة الصراع، وسيجنب حل كهذا توريط «إسرائيل» في حرب هي ليست قادرة عليها أطول فترة ممكنة، ما لم تُستجر قيادات «إسرائيلية» مغامرة تحت ضغط الاستهلاك الداخلي وسطوة الأحلام التلمودية الغابرة.