المفاوضات الفعلية تدور حول «السياسي الإيراني»

د. وفيق ابراهيم

أصبح مستحيلاً استخدام قنبلة نووية لحلّ مشاكل سياسية، فهذه قناعة راسخةٌ تتحكم بالعلاقات الدولية منذ الحرب العالمية الثانية.

ويُروى أنّ الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك قال مرة: دعوا إيران تصنع قنبلتها فلن تستعملها على الإطلاق، وقد تضعها في المتحف العسكري وتصبح عبئاً عليها. فلماذا إذاً تخاطر الدول لامتلاكها؟ لأنها قوة ردع مسبق تكبح المغامرين، ومؤشر إلى التقدم العلمي للبلد المصنّع، وبطاقة انتساب إلى نادي «الكبار» في العالم.

أما أولى البلدان المقتنعة بهذه المعادلة فهي الولايات المتحدة الأميركية نفسها صاحبة واحد من أكبر الترسانات النووية في العالم، لكنها تستعمل «النووي» الإيراني كفزّاعة، لبثّ الذعر في الخليج و«إسرائيل» وتركيا، وإلى حدّ ما، في باكستان، بهدف انتزاع مكاسب سياسية واقتصادية واستراتيجية من إيران.

ويبدو أنّ السعودية مقتنعة أيضاً باستحالة استخدام النووي، لذلك فإنّ على المراقبين البحث عن ذرائع سعودية أخرى كامنة وراء هذا الرفض وأولها، كما يقول الخبراء، رفض السعودية مجاورة بلد نووي يزاحمها على العالم الإسلامي ويبزّها في نفوذه العربي، ويزايد عليها في فلسطينيته وله في المشرق العربي تحالفات مع مذاهب إسلامية قوية.

سياسياً، يقدم النظام الإيراني نموذجاً أكثر مواكبة للعصر، ويشبه في الطبقات التنفيذية والتشريعية الأدنى من «ولاية الفقيه»، معظم الأنظمة المنتخبة شعبياً.

لذلك تشكّل هذه الأهمية استفزازاً لآل سعود الذين يستشعرون خطراً وجودياً على كيانهم السياسي الشبيه بأنظمة القرون الوسطى، وذلك لاعتقادهم أنّ الأرض وما عليها هي ملك للسلطان يعطي ويمنع كيفما يشاء. لذلك فإنّ القنبلة النووية تشدِّد من الإطباق السياسي لإيران على المشرق العربي وآسيا الوسطى سياسياً، كما تزعم الرياض.

وتنسحبُ هذه التبريرات على معظم بلدان الخليج التي دفعتها إمكاناتها الاقتصادية وشعورها بالتهديد إلى طرح فكرة استيراد مفاعلات نووية.

أوليس مضحكاً أن تعلن دولة، بإمكانات قطر، رغبتها في اقتناء «النووي»؟ وهذا يدفعنا إلى التساؤل التالي: هل هناك نووي للإيجار؟ وهل المستوى العلمي والصناعي لقطر، ومعها منظومة بلدان الخليج، يؤهّلها للدخول في هذه المغامرة؟ وهل النووي مجرد امتلاك سيارة فخمة تشتريها من وكيلها؟

على مستوى «إسرائيل» تتكشف الألاعيب بوضوح لأنّ هذا الكيان الغاصب يمتلك مئات الرؤوس النووية مشكلاً في الوقت نفسه جزءاً عضوياً من النظام السياسي الأميركي. فأي رئيس من رؤساء العالم غير نتنياهو يتجرأ على إلقاء خطاب في الكونغرس الأميركي، من دون موافقة الرئيس الأميركي وسيد البيت الأبيض؟

لذلك يذهب البحث في اتجاه أسباب «إسرائيلية» أخرى… إنها بالطبع السياسة، فنظام الجمهورية الإسلامية، يعادي «إسرائيل» في شكل وجودي ـ ديني، ويكاد يكون الوحيد الداعم لفصائل المقاومة الفلسطينية والرافع شعار «دمار إسرائيل واجب شرعي»، وهو لا يكتفي بالشعار بل يعمل من أجله بدعم حركات المقاومة التي تزنّر «إسرائيل» مع الدعوة إلى تغيير الأنظمة في البلاد الإسلامية لمجابهة التحالف الأميركي ـ «الإسرائيلي».

كان يمكن «لإسرائيل» أن تتغاضى عن الجهود الإيرانية، لو كانت صادرة عن بلد متخلّف كما كانت تفعل، لكننا نتحدث هنا عن بلد لديه مشروع غزو للفضاء الخارجي ويتقدم علمياً بسرعة مميزة، ويبني قوات عسكرية مرعبة، لذلك يسعى حكام الكيان الصهيوني إلى عرقلة هذا التقدم وفرملته، بالدعوة إلى الاستمرار في حصار إيران ومقاطعتها. يكفي القول إنّ طهران هي البلد الوحيد الذي لا يزال يعادي «إسرائيل» فعلياً، بعد انهيار النظام العربي بالمصالحات المصرية ـ الأردنية ـ الفلسطينية مع تل أبيب من جهة، وأزمات العراق وسورية واليمن من جهة ثانية، وعلى مستوى تركيا، فإنها لا تبالغ في إظهار العداء لإيران لكنها تعمل على عرقلة مشروعها النووي لأسباب تتعلق بالتنافس التركي ـ الإيراني التاريخي في العالم الإسلامي عموماً والعربي خصوصاً.

تدفع هذه المقاربة الموضوعية إلى إعادة تكرار السؤال: ماذا يريدون من إيران؟

أولاً: منع انتسابها إلى نادي الكبار، وهذا لا يكون إلا بتجميد مشروعها النووي.

ثانياً: فكّ الحصار والمقاطعة عنها في شكل تدريجي حصري، ما يعرقل استعادة إيران عافيتها الاقتصادية دفعة واحدة، وهذا هو المطلوب، لأنّ تعطيل قدراتها الاقتصادية لا يعني إلا تقزيم دورها السياسي.

ثالثاً: البحث عن تسويات معها في مراكز نفوذها في المنطقة العربية على القواعد التالية: إنهاء الحراك البحريني الذي يجابه أسوأ ظروف يمكن لحراك أن يمرّ بها. فالقوى الأمنية لآل خليفة، والجيش السعودي، والدرك الأردني، والقوات الإماراتية، والقاعدة البحرية البريطانية، وقاعدة الأسطول الخامس الأميركي، كلّ هؤلاء في أرخبيل لا تتجاوز مساحته 500 كيلومتر مربع، وفي مواجهة سكان لا يزيدون عن 500 ألف نسمة.

ـ تقسيم اليمن إلى ستة أقاليم، ما يجعلها خاضعة للنفوذ السعودي والإيراني والأميركي والتركي، وتعكس قدرات الحوثيين والإخوان المسلمين والقاعدة و«داعش» وأحزاب وقبائل جنوبية وشمالية مختلفة على علاقة بالأميركيين.

ـ تقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم على القاعدتين المذهبية والعرقية، بما يترجم النفوذ الإيراني والسعودي والأميركي ويضعف العراق.

ـ إعادة تشكيل السلطات التنفيذية والتشريعية في لبنان على أساس تحاصص بين إيران والسعودية برعاية أميركية.

ـ أما سورية، فجيشها الباسل هو القوة الأساسية في البلاد التي تحارب في مئات النقاط المختلفة والمتباعدة جغرافياً، بما يؤكد أنّ أي حلٍ يجب أن يعكس مركزية هذا الجيش وصلابة النظام ولا يتم إلا بتطوير المؤسسات الدستورية القادرة على استيعاب المعارضات المدنية الفعلية الداخلية.

هذا بعض ما يريده البيت الأبيض الأميركي و«إسرائيل» والسعودية وتركيا، ويعتبرونه المرآة السياسية الحقيقية للملف النووي الإيراني.

لكن لإيران وتحالفاتها آراء تؤكد على الفصل بين «النووي والسياسي»، لأنّ شعوب الإقليم أدرى بشعابه، فَمَن هي القوة التي تستطيع إعادة الزحف إلى الوراء في العراق وسورية واليمن ولبنان؟

لذلك، قد يمرّ اتفاق «النووي» لكنّ الحوار حول «السياسي» باقٍ لمدة طويلة بعنوانين اثنين: الحوار السياسي تارة، والقتال في الميدان تارة أخرى.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى