انحناء الكون أمام هيمنة إيران

إعداد وترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق

ألقى نتنياهو خطابه أمام الكونغرس، على رغم كل الانتقادات، وعلى رغم عدم الترحيب الذي أبداه البيت الأبيض، وعلى رغم تعريض العلاقات الأميركية ـ «الإسرائيلية» للاهتزاز. ألقى نتنياهو خطابه أمام الكونغرس، وهاجم إيران، وأبدى خشيته من أي اتفاق حول نووي طهران. ألقى خطابه ومضى، تاركاً خلفه الديمقراطيين والجمهوريين على أهبة الخلافات.

وما حدث كان متوقّعاً، إذ وجّه عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين، رسالة إلى طهران مفادها أن أيّ اتفاق نووي قد تعقده مع الرئيس باراك أوباما لن يستمرّ بعدما يترك الحكم.

واعتبر جو بايدن، نائب الرئيس الأميركي، محاولة الجمهوريين إفشال الجهود الدبلوماسية الخاصة ببرنامج إيران النووي «خطأ خطيراً»، وحذّر من احتمال الخيار العسكري. وقال أمس إن المفاوضات الحالية تقدم أفضل الآفاق لسنين طويلة من أجل تجاوز الخطر الجدّي الذي تمثله طموحات إيران النووية. ويعتبر تعطيل الحل السلمي خطأ جدّياً، خصوصاً أن الدبلوماسية ما زالت تعمل.

وذكّر بايدن بأن الغالبية الساحقة من الاتفاقيات الأميركية الدولية تعمل من دون مصادقة الكونغرس، مشيراً في هذا الخصوص، كمثال قريب على نجاح الدبلوماسية، إلى الاتفاقيات الروسية ـ الأميركية المشتركة إزاء حلّ مشكلة السلاح الكيماوي السوري.

في المقلب «الإسرائيلي»، كلام من نوع آخر، إذ دعا المرشح إلى انتخابات «الكنيست» العشرين عاموس يادلين من «المعسكر الصهيوني» أمس، إلى التوصل لاتفاق رسميّ مع الولايات المتحدة حول احتمال مهاجمة إيران. وقال يادلين في مؤتمر التقنية الجديد لتطوير التقنيات العسكرية: «إذا حدث ووقّعت القوى على هذا الاتفاق مع طهران، فإن هذا يستوجب اتفاقاً مع الولايات المتحدة على مهاجمة إيران. إنّ اتفاقاً كهذا بين إسرائيل والولايات المتحدة أمر لا بدّ منه».

تقريرنا التالي يتضمّن ترجمة لمقال كتبه دايفيد غولدمان في «Asia Times Online» حول إيران، روسيا، أوباما، ونتنياهو. ويتناول هذا المقال تحليلاً تقويمياً صهيونياً للمحافظين الجدد. ويمكن للقارئ أن يلاحظ يأساً في تحليله، مع أنه ـ من الداخل ـ يتوقع انهيار إيران.

كما يتضمّن التقرير مقالاً نُشر بعد يوم من خطاب نتنياهو، في صحيفة «معاريف» العبرية حول العلاقات «الإسرائيلية» ـ الأميركية، وتعرّضها للاهتزازات.

إيران هي المحور

كتب دايفيد غولدمان: لم ترتبط مشكلة خطاب رئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس في 3 آذار الحالي، بإمكانية إغضاب واشنطن، بل باحتمال تراجعها. فالرئيس باراك أوباما ليس الزعيم الوحيد الذي يريد الاعتراف بما صار من الصعب التغاضي عنه، وهو أن إيران قد أصبحت «لاعباً استراتيجياً بارزاّ في غرب آسيا، وهذا لا يقع في مصلحة الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة»، كما أكد السفير الهندي السابق في عُمان الأسبوع الماضي.

ولأسباب مختلفة، اختارت قوى عالمية متعدّدة إضفاء بعض الشرعية على موقف إيران المهيمن، بهدف تأخير، لا ردع الاستحواذ ـ في نهاية المطاف ـ على ترسانة إيران النووية. وباستثناء «إسرائيل» والدول العربية السنيّة، ليس لدى العالم نيةً في مواجهة إيران. وبعيداً من ضربةٍ عسكرية أميركية، يُتوقع ألّا

تقوم بها الإدراة الأميركية، قد يكون هناك القليل مما يمكن لواشنطن أن تفعله للتأثير في سياق الأحداث.

فقد تراجع نفوذها بشكل كارثيّ نظراً إلى عددٍ من الأخطاء السياسية الفادحة التي ارتكبتها. فالأمل الوحيد المتبقي لنتنياهو يكمن في نجاح الكونغرس الأميركي في عرقلة جهود الإدارة الأميركية لإبرام اتفاق مع إيران من خلال إثارة الإيرانيين. وهذا ما يخشاه البيت الأبيض فعلاً، وما يفسر الغضب الذي ترافق مع ظهور نتنياهو. قد تفكر إيران بإقحام نفسها في هذه المسألة لكنني لا أظن أنها ستفعل. فالفرس ليسوا الفلسطينيين، الذين اكتشفوا أنهم شعبٌ، فقط قبل جيل مضى، ولا يفوّتون أبداً فرصة تفويت الفرص إنهم قدامى وماكرون، ويتحيّنون التقاط الفرصة المناسبة في التوقيت المناسب إذ إن معظم دول العالم تسعى إلى التشبّث والتمسّك بما تستطيع، وإلا فستكون الحرب البديل الوحيد. لقد جادلتُ على مدى عشر سنوات بأن الحرب حتمية واقعة لا محالة، مهما فعل الدبلوماسيون، وأن السؤال لا يرتبط بـ«إذا»، بل بـ«كيف ومتى»؟ فالرئيس أوباما ليس رئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشامبرلاين الذي حاول استرضاء هتلر اجتناباً لشرّه، فكان توقيع اتفاقية ميونيخ في 3 أيلول عام 1938 : بل يشبه اللورد هاليفاكس، الذي رفض التزام بريطانيا الحياد في الحرب بعد تنحّي تشامبرلاين. وعلى عكس هذا الأخير، الذي أمِل شراء الوقت لبناء طائرات بريطانية، فقد أُعجب هاليفاكس بهتلر كما يُعجب أوباما حالياً بإيران.

الصين القادمة من أقصى الشرق

الصين هي تشامبرلاين التي تأمل استرضاء إيران بهدف شراء الوقت، واعتماد الصين على نفط الشرق الأوسط سيزداد خلال العقد المقبل بغضّ النظر عن إمكانية نشوب حرب خليجية ـ فارسية في المنطقة. فحتى أوائل عام 2014، كانت الصين مقتنعة بأن الولايات المتحدة ستعمل على إرساء دعائم الأمن والاستقرار في الخليج الفارسي. إنما بعد صعود نجم «داعش»، استنتجت أن الولايات المتحدة لم تعُد مهتمة بما فيه الكفاية، أو لربما اعتقدت أن تدمير المنطقة قد يحدث لأسباب شائنة. غير أن الصين لا تمتلك الوسائل التي تقدم لها البديل عن التواجد الأميركي في الخليج الفارسي. وعلى غرار تشامبرلاين في ميونيخ، فهي تسعى إلى التأخير.

وها هو أوباما يُضفي على سياسته مصطلحات لغة ميزان القوى. وهو كان قد أخبر دايفيد رامنيك الصحافي في مجلة «نيويوركر» عام 2014، «سيكون في مصلحة الجميع في المنطقة لو أن السنّة والشيعة لا يقتتلون. وحتى لو أن ذلك لا يقدّم حلاً للمشكلة برمّتها، فإذا كنّا قادرين على جعل إيران تعمل بطريقة مسؤولة، كعدم تمويل التنظيمات الإرهابية، وعدم محاولة إثارة النعرات الطائفية والسخط الطائفي في بلدان أخرى، وعدم الاستمرار في تخصيب الأسلحة النووية، فإننا سنشهد على توازن يتنامى سريعاً بين السنّة، أي دول الخليج ذات الغالبية السنيّة التي تشك في أن إيران هي المحرّض الرئيس والوكيل الأساس للإرهاب، وبين إيران نفسها». هذا هو الإصدار التجريبي كما تذهب إليه تلك النكتة القديمة. فعلى الأرض، قبلت الولايات المتحدة ضمنياً بالدور التوجيهي للقادة الإيرانيين في الجيش العراقي في حربه ضدّ «داعش». ومغازلة إيران المتمرّدين الحوثيين الذين يعملون على إسقاط النظام اليمني المدعوم من السعودية. وهي تقوم في المقلب الآخر، بتحويل الأسلحة الثقيلة إلى حزب الله. فإيران حاولت ـ بوسائل شتّى ـ فرض الهيمنة على جيرانها، وهذا ما قبلت به واشنطن. وفي النهاية ـ يقول هنري كيسنجر ـ «لا يمكن للسلام أن يتحقق إلا بالهيمنة أو بتوازن القوى».

دور إيران في الشرق الأوسط

تأمل القوى العظمى بتحقيق السلام عن طريق الهيمنة الإيرانية، على رغم اختلاف التقدير في وجهات النظر لناحية كيفية الاستمرار بذلك. وبعيداً من طموحاتها النووية، فإن اتفاقية أشمل تضعها واشنطن ستترك إيران تمارس دور الآمر المهيمن في العراق. فهي ستصبح القوة المسيطرة في لبنان من خلال حزب الله، وفي سورية من خلال النظام الحالي واليمن عبر وكلاء الحوثيين. وعلى رغم أن عدد المسلمين السنّة يفوق أولئك الشيعة بستة أضعاف في العالم الإسلامي، فإن السنّة يتمركزون في شمال أفريقيا، تركيا وجنوب آسيا. وتأمل إيران بالسيطرة على بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين، التي تحيط بالمملكة العربية السعودية وتهدّد أذربيجان.

إنه لمن المقزّز أن تتحدث أميركا عن توازن القوى في الخليج الفارسي، لأن أميركا دمّرت هذا التوازن الذي تحكّم بمفاصل الحياة السياسية في المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وحتى عام 2006، عندما بدأت واشنطن تحرّك شؤون حكم الغالبية في العراق. فالقوى الإمبريالية استطاعت ـ بحكمتها ـ إنشاء توازن للطاقة على مستويين اثنين. يكمن الأول في خلق دولة سنيّة مسيطرة في العراق لمواجهة إيران الشيعية، فتتقاتل القوتان للوصول إلى طريق مسدودة أسوةً بما حصل إبان حرب الثمانينات بعد تشجيع إدارة ريغان العلنية، ومقتل أكثر من مليون جندي من دون أن يرفّ للعالم جفن. أما الثاني، فيرتبط باتفاقية سايكس ـ بيكو 1916 التي خلقت دولتَي سورية والعراق، والسماح للأقلية بحكم الأكثرية الأقلية العلوية في سورية، والأقلية السنيّة في العراق. قد يكون طغيان الأقلية وحشياً، لكنه لن يتمكن من إبادة الغالبية. وكما أوضح الجنرال المتقاعد دانيال بوغلر عام 2014، «إنها الحقائق الصارخة والواضحة التي لا يمكننا إخفاءها على أرض الواقع، حيث الفساد والدمار. ومع رحيل صدّام، فإن أيّ تصويت سيرسّخ تثبيت الوجود الشيعي».

لن يحكم السنّة العراق بعد اليوم. ما يشكّل في العمق سبباً رئيسياً للتمرّد. وفي غياب أي مظهر من مظاهر الإبادة الجماعية للسنّة، سيستمرّ هذا الواقع. أما في ظلّ حكم الغالبية الشيعية، فسيكون العراق ـ حكماً ـ حليفاً أساسياً لإيران. فالحرس الثوري الإيراني يقود حالياً حملة ضدّ «المقاومة السنيّة، المتمثلة في داعش»، في الوقت الذي يوجّه فيه الضباط الإيرانيون الجيش العراقي النظامي. هذا ما كانت تقوم به إدارة جورج دبليو بوش، لا إدارة أوباما. ومن خلال حماستها الإيديولوجية للديمقراطية العربية، فتح الجمهوريون الباب واسعاً على مصراعيه للإيرانيين ليهيمنوا على المنطقة. وكانت كوندوليزا رايس ـ مستشارة الأمن القومي في إدارة بوش ـ قد قدّمت غصن الزيتون هذا لإيران على طبق من فضة ـ منذ عام 2003، بعدما عوقب الجمهوريون في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس عام 2006، وتمكّن وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد من إقالتهم، وحصول نائب الرئيس ديك تشيني على مقاعد بديلة، ونجاح «واقعية» مستشار العلاقات الخارجية في المجلس عام 2004 ـ روبرت غيتس ـ في الدعوة إلى صفقة دفاعية مع إيران.

سعت الصين في ما مضى، إلى تحقيق توازن بين السعودية وإيران، من خلال مبيعات الأسلحة وغيرها من الوسائل. وقد لاحظ محلّلنا في الصين أنه على رغم أن صفقات تسليم الأسلحة لإيران تفوق بكثير تلك التي تُعقد مع المملكة العربية السعودية، فهي قد منحت السعوديين أفضل صواريخ متوسطة المدى، والتي تشكل «رادعاً قوياً» في وجه إيران. وكما ترى الصين الأمر، فإن اعتمادها الكلّي على استيراد النفط يزداد يوماً بعد يوم، وأن نسبة النفط القادمة إليها من إيران وحلفائها آخذةٌ في الارتفاع. وقد تكون السعودية أكبر مزوّد للصين في هذا المجال، غير أن رهان كلّ من العراق وعُمان على المشاركة في حصّة الأسد من الارتفاع الأخير في نسبة الواردات تزداد أيضاً. فالصين هي القوة العقلانية الأبرز بين القوى العالمية: تنظر إلى العالم من منظور مصلحتها الذاتية الباردة، وتميل إلى افتراض أن الآخرين يحذون حذوها ضمن هذا الإطار.

قال لي أحد الاستراتيجيين العسكريين الأكثر احتراماً في الصين، إن فكرة التبادل النووي بين «إسرائيل» وإيران وغيرها من القوى النووية في المنطقة كانت فكرةً سخيفة. وهو يوافق على أن الإيرانيين يدركون قدرة القوة النووية «الإسرائيلية» على تدميرهم. بينما نجد محلّلين صينيين آخرين أقلّ اقتناعاً، ويعرضون ـ بشيء من الخوف ـ استحواذ إيران على الأسلحة النووية. فالحرب على «إسرائيل» ليست فقط ما يقلق الصينيين المتلهفين لاستيراد النفط، بل أيضاً العلاقات مع المملكة العربية السعودية. ففي الوقت الحاضر، قرّرت الصين استيعاب إيران. وكانت «شينخوا» قد رفضت علانية اعتراضات «إسرائيل» في تعليقه الصادر في 2 آذار الماضي، حين كان الكونغرس الأميركي يستعدّ لاستقبال قريب لأحد الضيوف، ألا وهو رئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو، والذي يُتوقع أن يرتكز خطابه على محاولة إقناع صانعي القوانين هناك، من أن أيّ صفقة مع إيران تتيح لها تطوير أسلحتها النووية قد تهدّد وجود الكيان اليهودي.

واشنطن تعزل نفسها عن اللوبي «الإسرائيلي»

وعلى رغم الضغوطات الهائلة، فإن على صنّاع القرار في واشنطن أن يضعوا نصب أعينهم الأخطار المحتملة التي قد تنتج عن إطلاق جهود حالية واعدة، توصل إلى اتفاق شامل في شأن القضية النووية الإيرانية قبل الموعد النهائي المنتظر في 31 آذار الجاري. ومع جولة جديدة من المحادثات المعلّقة في سويسرا، فإنه لمن المتوقع أن الدول 5+1 الأعضاء دائمو العضوية في مجلس الأمن إضافة إلى ألمانيا قد تتمكن من التوصل إلى اتفاقية مع إيران تمنعها من تطوير قنبلة نووية شاملة، في مقابل التخفيف من وطأة العقوبات الاقتصادية على طهران. لكن قد تحدث اضطرابات مفاجئة مثل إعلان واشنطن فرض المزيد من العقوبات على طهران.

لا تحتاج إدارة أوباما إلى تذكير خارجي كي تدرك أن أي تدبير في هذه المرحلة قد «يثير» إيران، وسيخرّب الأجواء الإيجابية التي جاءت بعد سنوات طويلة من الإحباط في هذه المسألة. وفي الوقت الذي يستحيل فيه على واشنطن أن تعزل نفسها عن اللوبي «الإسرائيلي» القوي، نرى أنه على صنّاع السياسة الأميركية الإصغاء جيداً إلى إمكانية هدر فرصة نادرة تمكّن المجتمع الدولي من التوصل إلى حلّ قريب حول القضية النووية الإيرانية، قد تضيع ـ إن لم يُحسن استغلالها ـ لسنوات عدّة مقبلة إن لم يكن إلى الأبد.

تقف روسيا علانية إلى جانب إيران، وذلك لأسباب عدّة. الأول، أن روسيا قد أعلنت صراحةً أنها قد تساعد إيران في معرض انتقامها من النهج الذي تسلكه السياسة الغربية مع روسيا في أوكرانيا. ثانياً، إن مشكلة روسيا الإسلامية الأساسية ترتبط بالسنّة تحديداً لا مع الشيعة. وهذا يعود إلى خوفها من التأثير الذي يخلقه «داعش» في الأوساط المسلمة. فإن قتال إيران لـ«داعش»، يخدم المصالح الروسية. وكي نكون أكثر يقيناً، فإن روسيا لا تستسيغ فكرة وجود قوة نووية على حدودها الجنوبية، غير أن أولوياتها قذفت بها إلى أحضان المعسكر الإيراني. وكان رئيس الوزراء «الإسرائيلي» قد أكد أن البديل عن الصفقة السيئة لن يكون في إشعال حرب، بل في إتمام صفقة أفضل. وشخصياً، لا أميل إلى الاعتقاد بأنه يعني ذلك حقاً، لكن عقول الأميركيين لا يمكنها القبول بفكرة استمرار الحرب في غرب آسيا إلى ما لا نهاية، خصوصاً أن الحرب هناك نتجت من غبائهم وسوء إدراتهم لملفات كثيرة عالقة.

التوازن الديمغرافي

إن ميزان القوى في الشرق الأوسط يستحيل قيامه للأسباب عينها التي فشلت أوروبا في تحقيقها عام 1914، وتحديداً بسبب اختلال التوازن الديمغرافي الهائل: تقف إيران على حافة كارثة ديمغرافية، وعليها تأكيد وفرض هيمنتها بما تبقى لها من وقت. قد يجادل أصحاب نظرية لعبة الأمم من أن إيران قد يكون لديها نية التخلي عن تطوير أسلحتها النووية في مقابل إعفائها من العقوبات الاقتصادية. وأن بين 30 في المئة إلى 40 في المئة من سكان إيران سيكونون أكبر من 60 سنة في حلول عام 2050. وسينخفض في الوقت عينه سنّ التجنيد العسكري إلى الثلث. حتى أن الجهود الحثيثة لتعزيز الخصوبة يبدو أنها قد وصلت متأخرة، ولن تحدث الفرق المطلوب. في الوقت الذي تتفوق فيه معدّلات العقم لدى الإناث على معدّلات الأمية، بسبب الثقافة الدينية التي تبيح «زواج المتعة الديني»، فضلاً عن مستويات عالية من الأمراض المنقولة عن طريق الاتصال الجنسي وزواج الأقارب.

باختصار، إن لدى إيران نظاماً مروّعاً، يُقال فيه الكثير. وكان هنري كيسينجر محقاً حين قال: «لا يمكن للسلام أن يتحقق جنباً إلى جنب مع فرض السيطرة أو حتى توازن القوى». فلا يمكن لإيران أن تبقى مسيطرة بعد الآن، ومن شأن هذا ترتيب آثار اقتصادية وديمغرافية ـ أقلّه ـ خلال جيل واحد، في ظلّ غياب نتيجة الحرب. وقد جادلتُ على مدى السنوات العشر الماضية أن الحرب أمرٌ حتميّ، طبعاً، بأقلّ الأضرار الممكنة. كنتُ أتأملّ كثيراً من قدرة جورج دبليو بوش على إحداث تغييرات إيجابية في هذا الشأن، غير أن وقوعه تحت تأثيرات كلّ من رايس وغايتس خيّب كلّ آمالي. قد نستطيع الآن استرجاع أحداث ميونيخ عام 1938، لكن مع فارق واحد، وهو وضع اللورد هاليفاكس في موقع الاتهام على البدل من نيفيل تشامبرلاين.

البرغوث والثور

كتب بن كسبيت في «معاريف» العبرية: في عاصفة الخطاب، نُسي تقريباً بصورة تامة أمر بسيط: حتى الآن لا اتفاق مع إيران، ومن المشكوك فيه جداً أن يكون. في وزارة الخارجية ولدى أجهزة الاستخبارات، التقدير هو أن احتمال التوصل إلى اتفاق مع إيران في هذه المرحلة منخفض وحتى منخفض جدّاً. هناك ثمانية مواضيع أساسية مختلف فيها، فقط اثنان منها تم تحقيق تقدم مهام فيهما. بالنسبة إلى المواضيع الستة الباقية، ليس هناك أي تقدم. يصعب الاعتقاد أنه سيكون هناك اختراق في الايام المعدودة الباقية. الفرنسيون يعارضون، الألمان غير متحمسين، الاحتمال الاكبر أن يمدّد الموعد النهائي. كل هذه التفاصيل كانت واضحة ومعروفة لمتّخذي القرارات حتى قبل هبوط نتنياهو في واشنطن.

نتنياهو يعرف هذا جيداً أكثر منّا جميعاً. فهو يزوَّيد بالمعلومات المحدّثة، وهو يقرأ تقارير الاستخبارات، وكذلك يعرف أن الجولة المقبلة لن تؤدّي كما يبدو إلى الاتفاق. لكن نتنياهو شخّص وجود فرصة سياسية نادرة لن يتنازل عنها، فهو عبقري سياسي وفي الأساس في كل ما يتعلق ببقائه الشخصي. على المدى البعيد، خطابه تسبب بالضرر أكثر من الفائدة. على المدى القصير؟ لقد أصاب الهدف. فقد سافر ليخطب في الكونغرس متجاهلاً التحذيرات، متسبباً بإهانة علنية للرئيس، وحارقاً الجسور الاخيرة التي بقيت لنا مع البيت الابيض. لكن بعد أسبوع أو عشرة أيام بعد إعلان الاطراف عن الافتراق من دون اتفاق، سيعلن نتنياهو أن ذلك كان بسببه، مثل البرغوث على ظهر الثور حيث يعلن لأقربائه: «حرثنا».

بعد يوم من العمل الشاق. مردخاي، اليهودي الحديث، منع ثانية الكارثة لشعبه، فقد سافر إلى عرين الاسود في واشنطن وخطب وأوقف بجسده الاتفاق. والمحزن جداً هنا أن عدداً منّا يشترون منه هذه البضاعة.

في الموضوع الجوهري صدق نتنياهو. النقاط الذي أثارها في خطابه نقاط صحيحة. يجب التحذير، التوضيح، رفع العلم المناسب وتمزيق الاتفاق في وجه آية الله. لكن الموضوع هو في الطريقة والاسلوب. بدلاً من أن يكون واحداً من أفراد العائلة في البيت الابيض، الحليف الأقرب للرئيس أوباما، الشخص الذي يستطيع التأثير من الداخل كما أثّر أسلافه شارون وأولمرت وحتى باراك ، تحول نتنياهو إلى شخص غير مرغوب فيه في الغرفة البيضوية. كان عليه التصرّف باحترام إزاء الرئيس الأميركي، وأن يخلق علاقات ثقة معه ويُبدي بوادر حسن النيّة مرة أو مرتين، كان عليه قول الحقيقة. لقد تصرّف بالعكس. حاول إزاحة أوباما بتأثير سيّده أدلسون، لقد باع المصلحة القومية «الإسرائيلية» من أجل مصالح ضيقة وغريبة ـ وبعد ذلك، زعم أن أوباما لا يصغي إليه.

أمس، وصلت المواجهة غير المسبوقة بين رئيس الحكومة «الإسرائيلية» والرئيس الأميركي إلى ذروتها. أمر كهذا لم يحدث في السابق. ونشكّ في ما إذا كان سيحدث في المستقبل. زعيم أجنبيّ يصل إلى الكونغرس الأميركي من خلف ظهر الرئيس، ويلقي خطاباً حماسياً ضدّ سياسة الرئيس. لقد وقف نتنياهو في قدس أقداس الكونغرس، ولن يغفر له أوباما ذلك بتاتاً. نانسي بلوسي، من المؤيدين المتحمسين لـ«إسرائيل» وزعيمة الغالبية الديمقراطية سابقاً، تركت أمس القاعة قبل انتهاء الخطاب وأصدرت بياناً مثيراً: «شعرت بالاهانة الشديدة عندما سمعت رئيس الحكومة، الاهانة التي عبر عنها في خطابه واستخفافه بذكاء الجمهور الأميركي». إذا كان هذا ما تعتقده بلوسي فمن المهم أن نعرف ماذا كان يعتقد أوباما.

نتنياهو سيعود إلى «إسرائيل»، وسيتحدثون لنصف يوم تقريباً عن خطابه، وغداً أو بعد غدٍ على الاكثر سيُغلفون بالصحف التي تضمنت خطابه أجهزة طرد مركزي مستخدمة. لدى الادارة الأميركية جهاز ضغط قوي ومتطوّر، هذا المكبس سيشغَّل وسيعطي نتائجه. إن احتمالات نجاح نتنياهو في تحريك عدد مهم من النواب على المدى البعيد في كل ما يتعلق بالغالبية المطلوبة في مجلس الشيوخ الثلثين ، هي احتمالات منخفضة جداً تكاد تكون معدومة. إذاً، ما الذي حققناه في نهاية الامر؟ ما هي النتيجة الكبرى للخطاب خلافاً للتفاخر القومي بأن لنا رئيسَ حكومة لديه لغة إنكليزية جيدة جداً وكاريزما عالية؟ نصف مقعد أو مقعد ونصف في الاستطلاعات.

خلافاً لمستوى التوقعات العالي، فإنّ الخطاب كان متوقعاً وخالياً من المناورات ومن أيّ جديد، وليس فيه ما يلدغ. لقد خاف نتنياهو من التهديد القاسي للبيت الابيض أن لا يكشف أيّ مادة سرية «لأن ذلك سيعتبر خيانة للثقة»، قال المتحدث باسم البيت الابيض، غوش آرنست ، وفرض على نفسه رقابة شخصية إلى درجة مضحكة: للمرة الأولى لم يذكر المطالبة بالمنع التام لتخصيب اليورانيوم وعدم إبقاء أيّ جهاز طرد مركزي لدى إيران. «إسرائيل»، بحسب خطاب نتنياهو، تنازلت عن طلباتها التهديدية في ما يتعلق بالاتفاق المستقبلي مع إيران. ماذا طلبنا أمس؟ أن تتوقف إيران عن التصرّف بعنف مع جيرانها، أن تتوقف عن تهديد «إسرائيل»، أن تبدأ بالتصرف كدولة عادية إذا أرادت التعامل معها كدولة عادية. هل لهذا نقوم بتحطيم كل الأدوات أمام الادارة الأميركية؟

في الموضوع المهني، مطالب نتنياهو لم تكن دراماتيكية: تمديد الفترة المطلوبة لإيران للتوصل إلى القنبلة، عدم رفع العقوبات الاقتصادية إلا بعد تغيير إيران سلوكها، إطالة فترة سريان الاتفاق من 10 إلى 20 سنة. كل هذه الامور كان يمكن قولها في الخطاب أمام «آيباك»، وكان يمكن قولها أمام الكونغرس بعد الانتخابات. كل هذه الامور سبق وقالها في الماضي.

من جهته، اجتاز نتنياهو أمس الخطاب بنجاح. أن يتحدث، لقد قلنا في السابق إنه يستطيع ذلك بصورة ممتازة، لقد حظي بالتصفيق، كما أنه اجتاز المطبات ونجح في تهدئة الاحتجاج الديمقراطي وتقليل الازمة إزاء أوباما. إنجازات الخطاب وأضراره ستتضح بصورة صحيحة في الايام والاسابيع القريبة، احتمال أن الخطاب في الكونغرس سيساعد نتنياهو على الفوز في الانتخابات أعلى بكثير من احتمال أن يستطيع ايقاف البرنامج النووي الإيراني. بالخطابات لا يوقفون التهديدات.

لقد تعهد نتنياهو بمنع الإيرانيين من التوصل إلى الذرّة، كان لديه خيار عسكري لكنه خشي من استخدامه لأنه خشي على مصيره السياسي. هناك حقيقة يجب عدم نسيانها، أنه لم يتعهد لنا بالخطاب ضدّ البرنامج النووي بل تعهّد بإيقافه.

يعمل دايفيد غولدمان في سبينغلر، وهو إعلاميّ أول في «مركز لندن للأبحاث السياسية»، ومشارك في منتدى الشرق الأوسط. كتابه «كيف تموت الحضارات ـ لماذا يموت الإسلام أيضاً»، نُشر عام 2011 عن دار «ريغنري». مقالاته حول الثقافة والاقتصاد والدين تُتداوَل بقوة. وله أيضاً في الأسواق منذ أشهر قليلة «ليست نهاية العالم ـ إنها فقط نهايتك أنت».

أصبحت اتفاقية ميونخ 30 أيلول 1938 مثالاً لسياسة الاسترضاء والتنازل. وبعد هذه الاتفاقية صار إبرام الاتفاقيات مع الدول العدوانية دعوة إلى الحرب لا سبباً لمنعها. وما زالت اتفاقيات عدّة تسمَّى «ميونيخ أخرى».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى