الغائب الكبير ماركيز متحدّثاً إلى صديقه الأديب ميندوزا: المخيّلة مجرّد أداة لإبراز الواقع 2/1
غياب غبريال غارسيا ماركيز الذي شغل العالم قبل بضعة أيام، لأهميّة موقعه الأدبي والروائيّ والإنسانيّ، يعنينا نحن أيضاً في ثقافة «البناء»، وكنّا خصّصنا صفحة كاملة لغيابه ونتابع اليوم تحيّة الغياب عبر نشر أجزاء من حوارات الكاتب الكولومبي بلينيو ميندوزا، صديق ماركيز، العديدة والطويلة نقلها ابراهيم وطفي إلى العربية ، ويروي فيها الكاتب الكبير الغائب كيف يكتب ويستلهم رواياته وقصصه وشخوصه، وبمن تأثّر أدبيّاً، وأموراً كثيرة متفرقة. وننشر هذه الأجزاء في حلقتين، اليوم وغداً.
ميندوزا: متى وكيف بدأت في الكتابة؟
ماركيز: لقد بدأت بالكتابة مصادفة، ربما لكي أبرهن لأحد الأصدقاء فحسب أن جيلي قادر على إنجاب كتّاب. ثم وقعت في المصيدة إذ تابعت الكتابة لأنني استسغت ذلك، ومن ثم في المصيدة الأخرى إذ لم يعد شيءٌ في العالم يعجبني أكثر من الكتابة.
ميندوزا: قلت مرة أن الكتابة هي متعة. لكنك قلت أيضاً إنها عذاب. ما الصحيح؟
ماركيز: كلا الأمرين صحيح. عندما بدأت واكتشفت الحرفة كانت عملاً بهيجاً يخلو من المسؤولية تقريباً. ما زلت أذكر، في ذلك الحين كنت بعد العمل في الجريدة قادراً على الكتابة حتى الساعة الثانية أو الثالثة صباحاً. كنت قادراً على كتابة أربع أو خمس وحتى عشر صفحات من كتاب. وذات مرة كتبت قصة كاملة في جلسة وحيدة.
ميندوزا: والآن؟
ماركيز: الآن يمكنني أن أتحدث عن حظ، إذا كتبت مقطعاً جيداً خلال يوم كامل. تحوّل فعل الكتابة، مع الزمن إلى عذاب.
ميندوزا: لماذا؟ يمكن القول لا بد من أن تهون الكتابة عليك. أتقنت الحرفة بشكل أفضل.
ماركيز: المسألة هي، ببساطة، أن الوعي بالمسؤولية يزداد أيضاً. فالانطباع لدى المرء هو أن كل حرف يكتبه سيلقى الآن صدى أكبر وسيصل الناس إلى أكثر بكثير.
ميندوزا: ربما كان ذلك نتيجة الشهرة. هل يزعجك الأمر هذا كثيراً؟
ماركيز: إنه يزعجني. أسوأ ما يمكن أن يحدث لإنسان لم يخلق لأجل الشهرة الأدبية، في قارّة غير مهيأة لكتّاب ناجحين، هو أن تكون كتبه رائجة يتبادلها الناس. إنني أكره أن أتحول إلى لعبة للناس. وأكره التلفزيون والمؤتمرات والنقاشات…
ميندوزا: والأحاديث الصحفية؟
ماركيز: أيضاً. لا أتمنى النجاح لأحد. يحدث للمرء مثلما يحدث لمتسلقي الجبال الذين يقتلون أنفسهم تقريباً لكي يصلوا إلى القمة، وماذا بعد أن يصلوا؟ الهبوط أو محاولة النزول بأدب وبشكل غير ملفت للأنظار إذا أمكن.
ميندوزا: عندما كنت شاباً وكنت مضطراً إلى كسب قوتك من أعمال أخرى، كنت تكتب ليلاً وتدخن كثيراً…
ماركيز: أربعين لفافة يومياً.
ميندوزا: والآن؟
ماركيز: الآن لا أدخن، ولا أكتب سوى في النهار.
ميندوزا: صباحاً.
ماركيز: من الساعة التاسعة صباحاً حتى الثالثة بعد الظهر، في حجرة هادئة ذات تدفئة جيدة. البرد والأصوات تزعجني.
ميندوزا: هل تخاف أيضاً من الورقة البيضاء مثل الكتّاب الآخرين؟
ماركيز: بلى، بعد الخوف من الأماكن الضيقة المزدحمة لا أعرف أمراً أكثر إثارة للرعب. لكن هذا الخوف انقطع بالنسبة إليّ بعد أن قرأت نصيحة همنغواي بأنه لا يجوز للمرء أن يتوقف عن الكتابة إلاّ بعد أن يعرف كيف سيتابع في اليوم التالي.
ميندوزا: ما هي نقطة الانطلاق لديك لأجل كتاب؟
ماركيز: صورة تقف أمام عيني. لدى الكتّاب الآخرين ينبثق الكتاب، على ما أظن، من فكرة، من خطة. أنا أنطلق دائماً من صورة. إن قصة «قيلولة الثلاثاء»، التي أعتبرها أفضل قصة لي، نشأت من صورة امرأة تسير مع ابنتها في قرية مهجورة تحت شمس حارقة. وقد ارتدت كل منهما السواد وحملت مظلة سوداء. وفي «الأوراق الذابلة» هي صورة شيخ يأخذ حفيده إلى مأتم. ونقطة انطلاق «ليس لدى العقيد من يكتب له» هي صورة رجل يقف في سوق بارانكيليا منتظراً سفينة. إنه ينتظر بنوع هادئ من ضيق الصدر. بعد سنوات، كنت في باريس أنتظر بالضيق نفسه رسالة، ربما حوالة، فتذكرت هذا الرجل وتمثلت نفسي مكانه.
ميندوزا: ما هي الصورة التي وقفت أمام عينيك كنقطة انطلاق لـ«مائة عام من العزلة»؟
ماركيز: شيخ يأخذ طفلاً للتعرف إلى الجليد المعروض في السيرك كإحدى العجائب.
ميندوزا: كان ذلك جدك، العقيد ماركيز؟
ماركيز: بلى.
ميندوزا: هذا مستقى إذن من الواقع؟
ماركيز: ليس مباشرة، لكنه يقيناً مستوحى من الواقع. ما زلت أذكر كيف أخذني جدّي معه إلى السيرك، عندما كنت طفلاً صغيراً وكنا نقيم في أراكاتاكا، كي يريني كيف يكون منظر الجمل. وعندما قلت له في يوم آخر إنني لم أر جليداً بعد، أخذني معه إلى فرع شركة الموز، فتح صندوقاً مليئاً بسمك بحري متجمد ووضع يدي فوقه. من هذه الصورة ينطلق كتاب «مائة عام من العزلة» بكامله.
ميندوزا: جمعت في الجملة الأولى إذن صورتين من ذكرياتك. ماذا كانت هذه الجملة الأولى؟
ماركيز: «بعد سنوات عديدة لاحقاً، تذكر العقيد أوريليانو بوينديا أمام فصيلة الإعدام ذلك الأصيل النائي الذي أخذه فيه والده للتعرف إلى الجليد».
ميندوزا: عامة، للجملة الأولى في كتاب أهمية كبرى بالنسبة إليك. حدثتني مرة أنك تحتاج أحياناً لأجل الجملة الأولى وقتاً أكثر مما تحتاج للباقي كلّه. لماذا؟
ماركيز: لأن الجملة الأولى يمكن أن تكون المخبر الذي يوضع فيه الكثير من عناصر الأسلوب والبنية وحتى تحديد حجم الكتاب.
ميندوزا: هل تحتاج إلى وقت طويل لكتابة رواية؟
ماركيز: للكتابة نفسها، كلا. إنه حدث سريع نوعاً ما. كتبت «مئة عام من العزلة» في أقل من عامين. لكن قبل أن أجلس إلى الآلة الكاتبة فكرت خمسة عشر وستة عشر عاماً بهذا الكتاب.
ميندوزا: هل احتجت إلى مثل هذا الوقت لإنضاج «خريف البطريرك»؟ وكم عاماً انتظرت حتى كتبت «وقائع موت معلن»؟
ماركيز: ثلاثين عاماً.
ميندوزا: لماذا هذه المدة الطويلة؟
ماركيز: وقتذاك، عام 1951، لم يهمّني الحدث كمادة لأجل رواية، إنما لأجل تحقيق صحافي. لكن ذلك لم يكن في كولومبيا في ذلك الحين نمطاً صحافياً متطوراً، وكنت صحافياً محلياً في صحيفة محلية لم يكن من شأنها، ربما، أن تهتم بهذا الموضوع. وفقط بعد أعوام عديدة بدأت أفكر في هذه الحالة من وجهة نظر أدبية. لكنني كنت أعي دائماً كم كانت مخجلة، بالنسبة إلى والدتي، مجرد فكرة ورود هذا العدد الكثير من الأصدقاء والأقارب في كتاب لأحد أبنائها. لكن السبب الحقيقي الأعمق أن الموضوع لم يثرني فعلاً في ذلك الحين، إنما فقط بعدما تأملت فيه لسنوات عديدة واكتشفت العنصر الحاسم بالنسبة إليّ، ألا وهو أن القاتلين ما كانا يريدان اقتراف الجريمة وقد بذلا كل ما في وسعهما للعثور على من يمنعهما من ذلك، لكن الحيلة أعيتهما. أخيراً، إنه الأمر الوحيد الجديد فعلاً في هذه الدراما التي غالباً ما تحدث في أميركا اللاتينية. وفي ما بعد ظهر سبب للتأخير كان يتعلق بالبنية: فالقصة تنتهي بعد خمسة وعشرين عاماً تقريباً من وقوع الجريمة بعودة الزوج إلى زوجته المهجورة، لكن بالنسبة إليّ كان من الواضح دائماً أن الكتاب يجب أن ينتهي بوصف تفصيلي للجريمة. وكان الحل هو إدخال قاصّ ـ وهذا أنا للمرة الأولى ـ يمكنه أن يتنقل في تالزمن البنيوي للقصة كما يشاء. وهذا يعني أنني اكتشفت بعد ثلاثين عاماً ما ننساه غالباً نحن كتّاب الرواية: أنّ الحقيقة هي دائماً أفضل شكل أدبي.
ميندوزا: يقول همنغواي إنه يتعين على المرء ألا يكتب عن موضوع ما في وقت باكر جداً، كذلك ليس في وقت متأخر جداً. هل كان سهلاً لك أن تحتفظ في رأسك بقصة طوال هذه السنوات من دون أن تكتبها؟
ماركيز: في الواقع لم أهتمّ مرة اهتماماً حقيقياً بفكرة لا تحتمل التأجيل لسنوات. عندما تكون جيدة وتستطيع احتمال خمسة عشر عاماً من الانتظار في «مائة عام من العزلة» وسبعة عشر في «خريف البطريرك» وثلاثين في «وقائع موت معلن»، لا يبقى أمامي أخيراً شيء يمكن أن أفعله إلاّ أن أكتبها.
ميندوزا: هل تكتب مذكرات لنفسك؟
ماركيز: كلا، على الإطلاق، فقط ملاحظات عمل. أعرف بالتجربة أن المرء لا يعود يفكر في النهاية سوى لأجل المذكرات وليس لأجل الكتاب.
ميندوزا: هل تصحح كثيراً؟
ماركيز: من هذه الناحية تغيّرت طريقة عملي كثيراً. فعندما كنت شاباً كنت أكتب دفعة واحدة، ثم أصوّر وأصحّح. أما الآن فإنني أراجع لدى الكتابة سطراً سطراً، وإذا أصابني حظ يكون لدي في نهاية يوم عمل صفحة جاهزة خالية من التصحيحات والتشطيب يمكنني تقريباً أن أقدمها.
ميندوزا: هل تمزق أوراقاً كثيرة؟
ماركيز: عدداً لا يمكن تصوره. إنني أبدأ بصفحة على الآلة الكاتبة…
ميندوزا: دائماً على الآلة الكاتبة؟
ماركيز: بلى، دائماً. على الآلة الكاتبة الكهربائية. وعندما أخطئ في الكتابة، سواء كانت الكلمة المكتوبة لا تعجبني أو أنني أخطأت على الآلة الكاتبة، فإنني أسحب الورقة وأوضع مكانها ورقة جديدة، متبعاً بذلك عادة سيئة أو جنوناً أو وخز ضمير. يمكنني أن أستهلك حتى خمسمائة ورقة لكتابة قصة مؤلفة من اثنتي عشرة صفحة. هذا يعني أنني لا أستطيع إنقاذ نفسي من الجنون بأن خطأ مطبعياً هو بالنسبة إليّ مثل خطأ فني.
ميندوزا: العديد من الكتّاب حسّاسون إزاء الآلة الكاتبة، وأنت؟
ماركيز: كلا، إنني مرتبط بها ارتباطاً وثيقاً بحيث لا يمكنني أن أكتب من دون آلة كهربائية. أظن عامة أن المرء يكتب بطريقة أفضل عندما تكون الظروف مريحة من كل ناحية. لا أؤمن بالأسطورة الرومانسية القائلة إن يجب على الكاتب أن يجوع وأن تكون لديه هموم لكي يكون منتجاً. بمعدة مليئة وآلة كاتبة كهربائية يمكن الكتابة بشكل أفضل.
ميندوزا: لماذا يندر أن تتحدث في أحاديثك الصحافية عن الكتب التي تكتب فيها؟
ماركيز: لأن هذه الكتب جزء من حياتي الخاصة. حتى أنني أرثي قليلاً للكتّاب الذين يروون في أحاديث صحافية مضمون كتابهم التالي. هذا دليل على أنهم لا يتقدمون بشكل جيد في هذه اللحظة، وهم يواسون أنفسهم بأن يحلّوا في الصحافة المشاكل التي لم يستطيعوا حلّها في الرواية.
ميندوزا: لكنك غالباً ما تتحدث مع أصدقائك المقربين عن الكتاب الذي تعمل فيه.
ماركيز: نعم، إنني ألحّ عليهم حتى درجة الإرهاق. عندما أكتب شيئاً فإنني أتحدث عنه كثيراً. وهذا يساعدني في معرفة أين أقف على أرض ثابتة وأين أعوم. إنها وسيلة لكي أجد طريقي في الظلام.
يتبع جزء ثانٍ