ترشيد الجنون… المثقفون في خدمة الدولة

إعداد وترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق

«تُبنى كافة المهن في هذه الحقبة من الزمن في واشنطن، على أخطاء بشعة ومريعة. وفي الحقيقة، عندما تصل الأمور حدّ الصراعات المختلفة، فإن الله سينقذنا إذا كنّا فعلاً محقّين. لا أحد منّا سيسمع ذلك مجدّداً. أما إذا كنّا مخطئين ـ وآخذين بالاعتبار ـ اجتياح العراق، وإنشاء تنظيم داعش، ذلك المخلوق الكريه الذي أنجبه الاحتلال الأميركي، فإن أيّ أحد يؤمن بجدّية أن الاحتلال الذي أحدث هوّةً كبيرة في قلب الشرق الأوسط، لا تنطبق عليه صفة واحدة من صفات الكوارث الحقيقية في عصرنا. وفي الاحتلال المجنون الذي تلا ذلك، فإن جيش صدّام حسين المدرّب تدريباً جدّياً، قد غرق في البطالة والفوضى بعد الغزو. وبطبيعة الحال، نحا ناحية التمرّد. ثمّ، وبتكلفة 25 مليون دولار، أُعيد تجهيز هذا الجيش وإعداده عسكرياً لمواجهة المتمرّدين من الضباط السابقين.

وإذا أخذنا مايكل أوهانلون من مؤسسة بروكينغز، على سبيل المثال، وكيفية معالجته الحروب الأميركية الأخيرة. فإنه يقول: من الصعب علينا أن نحدّد عن أيّ سنة نتحدث 2003، 2007، 2009، 2013، العراق أو أفغانستان ـ وكلّ ما لدينا من احتمالات النجاح. لطالما بدت الأمور تأخذ مسارها الصحيح هناك تطوّرات ملحوظة بقيت القوات في واشنطن صامدة هناك إلى الأبد: الغزو سيكون ناجحاً والاحتلال ساحقاً والانتصار غير تقليدي انتخابات أفغانية إيجابية وهنا يكمن الاندهاش: سنة بعد سنة، افتتاحية بعد افتتاحية، لا يبدو أنه سينتهي إلى شيء في نهاية المطاف، والذي يبدو عملاً سحرياً في واشنطن. ومنذ عام 2013، يروّج باتريوس في افتتاحية عالمية، على أن هذا ليس إلا تراجعاً أميركياً في القرن الحديث».

هذا بعضٌ ممّا كتبه مؤخّراً أندرو ج بايسيفيتش، أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية الفخري في كلّية «باردي» للدراسات العالمية في جامعة بوسطن. بايسيفيتش يكتب التاريخ العسكري لحرب أميركا على الشرق الأوسط الكبير. أما كتابه الأخير فحمل عنوان: «خيانة الأمانة: كيف أفشل الأميركيون جنودهم وبلدهم».

في التقرير التالي، ترجمة لمقال آخر لبايسيفيتش، وفيه يأخذنا إلى أروقة أخرى في مراكز صنع القرار الأميركي، غير تلك التي نعرفها سابقاً وكشف عنها حديثاً، من اللوبي الصهيوني إلى المحافظين الجدد.

في هذا التقرير، يعرّفنا بايسيفيتش على «المثقفين»، الذين وُضعت إمكاناتهم ومواهبهم ومكتسباتهم العلمية والمعرفية في خدمة الدولة. إلا أنّ الكاتب يُظهر لنا مدى «التقدّم» الذي أحرزته الولايات المتحدة الأميركية نتيجة «نصائح» هؤلاء، وذلك بطريقة لاذعة لا تخلو من السخرية أحياناً. خصوصاً أنّ هؤلاء «المثقفين» يعدّون من أبرز المشجّعين على فتح نيران الحروب.

المثقفون السياسيون، يفترضون قدرتهم على إرشاد البشر الذين يجلسون خلف مكاتبهم. هي آفةٌ حقيقية على الجمهورية. ومثل بعض الأنواع الغازِية، فإنهم لا يتعرّضون حالياً لواشنطن، بينما يخنق وجودهم الحسّ السليم فضلاً عن انقراض القدرة على إدراك الحقائق البسيطة. في المقابل، هناك بعض المظاهر الحميدة وحسنة الهندام ممّن وقفوا أمام الكونغرس لتقديم شهاداتهم، وإلقاء المواعظ المطبوعة أمامهم على شاشة التلفزيون، أو حتى لملء المراكز الرئيسية في السلطة التنفيذية، كتذمّر الآسيويين من خسارتهم البحيرات الكبرى.

بدا كلّ شيء بريئاً بما فيه الكفاية. فإذا عدنا إلى عام 1993، وفي خضمّ الكساد العظيم في البلاد، يستورد الرئيس فرانكلين روزفلت حفنة من الأكاديميين الحريصين على الانضمام إلى صفوف «صفقته الجديدة». اعتقد الرئيس روزفلت أن أزمةً اقتصادية غير مسبوقة تتطلّب بعض التفكير النقي، وأن لمساهمات هذا «العقل الثقة» تأثيراً إيجابياً، كما أنها تخدم تأخير الانتعاش الاقتصادي، الذي لا يزال موضع نقاش حتى الساعة. غير أن مساهمات أدولف بيرلي، رايموند مولي، ريكسفورد توغويل، وغيرهم، ساهمت في إعلاء مستوى المشهد الاجتماعي في واشنطن.

ثم جاءت الحرب العالمية الثانية، تلتها في وقت قصير الحرب الباردة… وقد جلبت هذه الأحداث إلى واشنطن موجةً جديدة من المفكرين الكبار، الذين ترتكز أجنداتهم على مفهوم بارز ومرن في الوقت عينه، ألا وهو «الأمن القومي». غير أن هذا المفهوم المطاطي ـ والذي قد نصطلح على تسميته «انعدام الأمن القومي» ـ قد اشتمل على كلّ ما هو متعلق بالتحضير للقتال، أو البقاء على قيد الحياة في الحروب، بما في ذلك قضايا الاقتصاد، التكنولوجيا، تصميم الأسلحة وصنع القرار، الهيكلة العامة للقوات المسلّحة وغيرها من المسائل ذات الأهمية الحيوية لبقاء الدولة. أصبح انعدام الأمن الدولي ولا يزال حتى اليوم، الهدية التي تُعطي وتُعطي يوماً بعد يوم.

أما أولئك المتخصصون في التفكير بانعدام الأمن القومي، والذين اتّفِق على تسميتهم «المثقفين المدافعين». ولو أننا نعود إلى الوراء ـ وتحديداً إلى عام 1950 ـ إلى الروّاد في هذا المسعى الذين كانوا يحصّلون رواتبهم من مؤسسات الفكر والرأي كمؤسسة «رند» النموذجية، التي تُعتبر من المؤسسات الأكاديمية التقليدية. فقد تضمنت صفوفهم بعض الأرقام المخيفة مثل هيرمان كان، الذي تولى شرف «التفكير في ما لا يمكن تصوّره»، وكذلك آلبرت وولستيتر، الذي درس التعقيدات التي تواجهها واشنطن وقدرتها على الحفاظ على «التوازن الدقيق للرعب».

وفي هذا العالم المتزعزع، تبقى العملة العالمية الأهم تلك ذات الصلة الوثيقة بـ«السياسة». ما يعني وضع المنتجات التي تخدم الإحساس الجدّي لدوام الاستبقاء على المشاريع الجارية. وإذا ما طرحنا مثالاً واضحاً على تلك الأمور الوثيقة الصلة بالسياسة، سيكون الدكتور ستيرنجغلوف، واكتشافه تلك «الفجوة التعدينية»، والتي جاءت بعد «فجوة الصورايخ» التي جعلت الولايات المتحدة تلهث للحاق بالاتحاد السوفياتي في سباق التسلّح. والآن، ومع تبادل نووي على وشك تدمير الكوكب، وأيضاً الولايات المتحدة متعثرة في الجري، يقول سترينجغلوف: سيحفرون ملاجئ تحت الأرض لتتمكّن النسبة المتبقية من السكان على سطح هذا الكوكب من البقاء على قيد الحياة.

ويفترض سترينجغلوف وجود علّة جديدة لجهاز الأمن الوطني برمّته، وبالتالي ضمان بقاء اللعبة أطول فترة ممكنة. وتظهر تتمة فيلم ستانلي كوبريك «باك» كيف يجلس الضباط في غرفة الحرب، يطوّرون الخطط حول كيفية إغلاق هذه «الفجوة التعدينية» كما لو أن شيئاً لم يحصل.

صعود نجم دولة «انعدام الأمن القومي»

إبان الستينات من القرن الماضي، وفي الوقت الذي ظهر فيه الدكتور سترينجغلوف للمرّة الأولى على مسرح الأفلام، استطاع المثقفون السياسيون أن يكونوا أحراراً بالفعل. فالإعلام يشير إليهم على أنهم «مثقفو العمل والفعل»، آخذين بالاعتبار طاقتهم ونفاذ صبرهم. هؤلاء هم المفكرون الحقيقيون، والفاعلون الحقيقيون في الوقت عينه، هم أعضاء في «جسم كبير ونامٍ من الرجال الذين اختاروا ترك المنافذ الهادئة والآمنة التي خبِروها في حرم الجامعة، وأقحموا أنفسهم ـ بدلاً من ذلك ـ في مشاكل كثيرة محيّرة تواجه الأمة»، كما أوضحت مجلة «LIFE» عام 1967. ومن بين أكثر المشاكل المحيّرة، كانت مسألة فييتنام والحلول التي يُفترض بهم اجتراحها. إنه مجرّد نوع من التحدّي للمثقف العامل الذي من الممكن أن يقضي على حياته المهنية برمّتها.

وعلى مدى القرن الماضي، وحتى الآن، انغمست الولايات المتحدة في عدد من الحروب لأسباب مختلفة، بما فيها الطمع، الخوف، الذعر، الغضب المَحق، والدفاع المشروع عن النفس. وفي عدد من المناسبات، منفردين أو مع حلفائهم، اختار الأميركيون القتال. وكانت فييتنام البلد الأول الذي تذهب فيه الولايات المتحدة إلى الحرب، استجابة لبعض الأفكار الغبية التي طُرحت من قبل الأناس الأذكياء ظاهرياً ممن يشغلون مناصب نافذة. أما الأكثر إثارةً للذهول، فإصرار المثقفين الفاعلين على شنّ تلك الحرب بأفضل الطرق الممكنة إلى درجة أنّ حدوثها أصبح أمراً بديهياً بالنسبة إلى أعضاء الكونغرس.

وفي الكتاب الجديد الذي كتبه كريستيان آبي بعنوان «الحساب الأميركي: حرب فييتنام وهويتنا القومية»، وآبي هو مؤرخ يدرّس في جامعة «ماساشوستس»، يذكّرنا بمدى عقم تلك الأفكار.

ففي المعرض الأول، يعرض البروفسور آبي لماك جورج باندي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جون كينيدي وليندون جونسون من بعده. وكان باندي نتاج جامعتي «غروتون» و«يال»، والذي شغل في ما بعد منصب أصغر عميد للطلاب في كلّية الفنون والعلوم في جامعة «هارفارد»، ونال شهرة واسعة حينذاك، إذ إنه لم يكلّف نفسه حتى عناء الحصول على شهادة الدراسات العليا.

أما في المعرض الثاني، فهناك والت ويتمان روستو، وهو خلف باندي في منصب مستشار الأمن القومي. وهو أيضاً متخرّج في «يال»، وقد نال فيها شهادة الدكتوراه. وكأستاذ للتاريخ الاقتصادي في معهد «ماساشوستس للتكنولوجيا»، لفت الأنظار إليه بعد وضعه عام 1960 كتاب «مراحل النمو الاقتصادي: مقاربة غير شيوعية»، والذي جاء ركيزةً لنظرية هائلة في التنمية التي أصبحت نموذجاً يُحتذى به ويُطبّق على مستوى العالم. وقد استعان كينيدي بروستو لتطبيق نظرياته في الاقتصاد والتنمية والتحديث، على أماكن مثل جنوب شرق آسيا.

أما معرض آبي الأخير، فيتمثل في مناقشة مساهمات البروفسور صامويل هنتنغتون للحرب الفييتنامية. وكان هنتنغتون طالباً في «يال» قبل أن يحوز شهادة الدكتوراه من «هارفارد» ويعود إلى التدريس فيها، ليصبح واحداً من أشهر علماء السياسية بعد الحرب العالمية الثانية.

وإذا أردنا دراسة النقاط المشتركة بين هؤلاء الثلاثة، كان التزاماً لا يتزعزع في ثوابت الحرب الباردة. ومن بين هذه الثوابت: تلك المتراصّة التي تدعى الشيوعية، والتي يحكمها مجموعة من الأيديولوجيين المتعصبين المختبئين خلف جدران الكرملين، والذين يشكلون تهديداً وجودياً لأميركا وحلفائها، ولمفهوم الحرية بحدّ ذاته. وقد ترافق هذا الادّعاء مع نتيجة طبيعية أساسية: إذ كان الأمل الوحيد لتجنيب الولايات المتحدة هذه النتيجة الكارثية يكمن في مقاومة قوة هذا الخطر الشيوعي في أيّ مكان كان يطلّ منه برأسه القبيح.

وإذا قبلنا هذه المقترحات التي دعت الولايات المتحدة إلى منع جمهورية الفييتنام الديمقراطية أو ما يُعرف أيضاً بِاسم فييتنام الشمالية من امتصاص جمهورية فييتنام، أو ما يُعرف بفييتنام الجنوبية، من تحقيق وحدة في البلاد وبمعنى آخر، فإن فييتنام الجنوبية كانت سبباً يستحق القتال والموت لأجلها. لم يصل كلّ من باندي وروستو وهمنغتون فقط إلى هذه القناعة، بل أيضاً عملوا بجهد على إقناع الآخرين في واشنطن بها.

وعلى رغم أنّ باندي كان يشجع على «أمركة» الحرب الفييتنامية عام 1965، إلا أنه كان في كثير من الأحيان يطلق شكوكاً حول مدى إمكانية كسبها. وقد انتهت جهوده هذه بالفشل بعدما فشل في إقناع الرئيس جونسون، بعد التأكيد أن هذه السياسة تستحق مثل هذه النتائج.

كيف ذلك؟ «بالحدّ الأدنى» يقول باندي، «سنُتهم بالتأكيد بأننا لم نقم بكلّ ما يتوجب علينا القيام به، وستكون لاتهام كهذا أصداؤه الواسعة في عدد من البلدان، من بينها بلدنا». فإذا ما خسرت الولايات المتحدة فييتنام الجنوبية، سيكون الأميركيون قد حاولوا ـ على الأقلّ ـ منع الوصول إلى نتيجة كهذه. فكانت النقطة الرئيسية لمنع الاعتقاد بأن الولايات المتحدة هي «نمرٌ من ورق»، تقضي بأن يقنع المنطق المنحرف لأصغر عميد عرفته البلاد إلى التنازل عن المعركة لتجنب الخسارة مع العلم مسبقاً بخسارة المصداقية. مع التأكيد على أن هذا لا يعني أننا نلتزم فقط عندما نعلم مسبقاً أن الخطر الحقيقي لن يطاولنا. تلك هي المشكلة التي كان ينبغي تجنّبها بأيّ ثمن.

يتفوّق روستو على باندي في نبرته الاستشارية السياسية. وبغضّ النظر عن دعوته إلى قصف المنطقة الشمالية في فييتنام من دون رحمة، بهدف التأثير على صنّاع القرار هناك، كان روستو المهندس الفعلي لما أُطلق عليه برنامج «هاملت الاستراتيجي». وتكمن الفكرة في تحريك عملية التحديث «الروستية» هذه من خلال نقل الفلاحين الفييتناميين ـ قسراً ـ إلى معسكرات الفلاحين، حيث توفّر لهم حكومة سايغون الأمن والتعليم، والرعاية الطبية والمساعدة الزراعية، ما أدّى إلى كسب قلوب هؤلاء وعقولهم، وما استتبع ذلك من هزيمة التمرّد الشيوعي، مع بلوغ شعب فييتنام الجنوبية قفزة عالية من الاستهلاك الحادّ، الذي يؤمن روستو بأنه قدر البشرية جمعاء في نهاية المطاف.

تلك كانت القاعدة، أما الحقيقة فتختلف إلى حدّ ما. فبرامج «هاملت الاستراتيجية» الفعلية، كانت تتميّز وتختلف عن معسكرات الاعتقال. فقد أثبتت حكومة سايغون نفسها على أنها ضعيفة للغاية، غير كفوءة للغاية، وفاسدة إلى حدّ أنها لا تستطيع أن تقف صامدةً في وجه إتمام صفقاتها. وبدلاً من كسب القلوب والعقول، سبّب برنامجها الاغتراب، كما زعزع استقرار مجتمع الفلاحين. النتيجة واحدة: انفجار سكاني في أرياف مدن فييتنام الجنوبية، حيث القليل من فرص العمل، بصرف النظر عن تقديم الخدمات الاحتياجية للنموّ غير المحدود للعسكرة الأميركية ـ حيث أفضى هذا النشاط إلى التنمية الذاتية المستدامة.

وحتى عندما انتهت حرب فييتنام في هزيمة كاملة وتامة، بقي روستو مصرّاً على ادّعائه الدفاع عن نظريته. فكتب: «نحن والآسيويون في الجنوب الشرقي، خضنا حرباً لسنوات طويلة، فلم نصب بالذعر نتيجة سقوط نظام سايغون، لأن هذا لم يكن ليحصل لو أننا فشلنا في التدخل. ففي الواقع، إن سايغون استطاعت التقاط الكثير من الأخبار الجيدة، تصبّ في مجملها في مصلحة الحرب الأميركية».

«ومنذ عام 1975، توسعت رقعة التجارة مع بلدان أخرى في المنطقة كاليابان والغرب. فقد شهدنا على صعود طبقة جديدة من رجال الأعمال في تايلاند. وأصبحت كلّ من ماليزيا وسنغافورة بلدان صادرات مصنّعة ومتنوعة. ويمكننا أن نرى ـ في إندونيسيا ـ بروز طبقة كبرى من التكنوقراط».

وها نحن ذا، فلو أردنا أن نعرف السبب الذي قُتل من أجله أكثر من 58000 أميركياً ناهيك عن أعداد أكبر بكثير من الفييتناميين ، فهو ـ بكلّ بساطة ـ لتشجيع الريادة في الأعمال، الصادرات، ونموّ طبقة التكنوقراط في أماكن مختلفة من جنوب شرق آسيا.

وصف آبي البروفسور هنتنغتون كمثقف فاعل آخر، لا تفتر همّته بسبب وقوع الكارثة وانقلاب الأمور رأساً على عقب. ففي رأي هنتنغتون، فإن النزوح الداخلي من الفييتناميين الجنوبيين الناجم عن الاستخدام المفرط لقوة النيران الأميركية، جنباً إلى جنب مع فشل وصفة «هاملت الاستراتيجية» لروستو، كان في الواقع خبراً ساراً. بعد أن وعد ـ بإصرار ـ على إعطاء الأميركيين ميزة على المتمرّدين.

المفتاح للنصر النهائي، كتب هنتنغتون، «كان مشروعاً قسرياً للتحضّر والتحديث ينقل البلاد من حركة الثورة الريفية إلى توليد قوة كافية للوصول إلى السلطة». استطاعت الولايات المتحدة كسب الحرب من خلال إفراغ الأرياف. «إن الأرياف التي قد تبدو رهيبة بالنسبة إلى الطبقة المتوسطة من الأميركيين، قد توفّر فرص عمل وآفاق مستقبلية واسعة وحياة أفضل للكثير من الفييتناميين». قد تكون اللغة مظهراً في كثير من الأحيان. في وقت لاحق، وبعد عقود مضت، الادّعاءات التي أُطلقت مرة مع بادني، روستو، وهنتنغتون ـ أي المثقفين الفاعلين في المقام الأول ـ تبدو منافية للعقل. إنهم يهينون ذكاءنا الاستخباراتي، يتركوننا متعجبين حول الأحكام التي روّجوا لها أكثر من أيّ وقت مضى.

كيف كان كان تأثير ممارسة أفكار سيئة كهذه في فييتنام؟ لماذا كانت هذه الأفكار منيعةً وغير قابلة للطعن؟ لماذا كان صعباً على الأميركيين الاعتراف بفظاعة الهراء الذي كانوا يمارسونه؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى