«مسيو» أُنطوان بُلبُليان
جورج كرم
لم يتسنّ لمعظم سكان شعبنا في «لبنان» أن يفهم موضوع «بيروت» hgphg، التي كانت عليها في أوّج عزّها مثلما يصفها لهم اليوم الجيل الأكبر سناً، فحين يأتون على ذكر بيروت ما قبل الحرب وما لها من صفات ينتشي لها أبناؤها وسكان البلاد عامة، مثل باريس الشرق أو سويسرا الشرق، يبدون لي كأنهم يتكلمون عن مدينة أتلنتيس الأسطورية التي يقال إنها غرقت نتيجة زلزال في ألفية من الألفيات الغابرة ولا إثبات علمياً على صحة أسطورة أتلنتيس وحقيقة وجودها. هكذا الأمر بالنسبة إلى بيروت أيضاً، فلا إثبات فعلياً قط على وجود بيروت بصورتها وأحاسيسها السابقة وقتذاك، مثلما يصفونها لنا اليوم في الأحاديث والكتب. هناك الصور الفوتوغرافية القديمة وأفلام الفيديو وأرشيف حركة المطار واكتظاظه، وكلها أدلة حسية بالطبع على وفرة طاقة الحياة التي كانت تملأ زوايا المدينة، لكن ليس في إمكان هذه المعلومات والمدوّنات والأرقام مجتمعة أن توفّر لنا صورة حسية لما كانت عليه المدينة، أو صورة قلبية دافئة على ذلك. وكنت صغيراً عندما حلت علينا الحرب الأهلية، وكان المشوار من الجبل إلى بيروت رحلة بكل ما للكلمة من معنى، رغم أن كثراً كانوا يذهبون يومياً إلى بيروت للعمل وكان المشوار إليها حدثاً يحكى عنه في اليوم التالي وعما رأى الإنسان هناك من صرعات وعجائب، كما يحكى عن «بارات» المدينة ومطاعمها التي لا تتفوّق عليها أي حانة أو مقهى خارجها. وكان مشروع الذهاب إلى بيروت يستلزم بعض التخطيط في اليوم السابق والاتصال ببعض الذين عيّنوا أنفسهم «خبراء محنكين» في موضوع المدينة، لسؤالهم عن أفضل الطرق الواجب سلوكها. وأمسى موضوع بيروت وطرقها لاحقاً متصلاً عضوياً بالبرامج اليومية للقناصة الذين كانوا يقنصون الأبرياء على المفارق، في زمن انحسار وهج المدينة وتدميرها الممنهج. هل كان ذلك كلّه لأجل أن يبنوا مشروع «سوليدير» مثلاً؟ هل كان مخططاً له منذ ذلك الحين؟ أضع السؤال هذا برسم جماعة «نظرية المؤامرة»، وفي بلادنا الكثير منهم.
ما برح تعبير «نزل عبيروت» كجواب لسؤالنا عن مكان أحدهم يحمل الكثير من عز بيروت القديمة وجبروتها في نبرته، وجارنا يقولها عن ابنه لدى سؤاله عن الأخير فيقول «نزل عبيروت»، بابتسامة لا تخلو من التعالي وبعض الخبث، كأنّ ابنه «نزل» ليشطر الذرّة مثلاً أو لإتمام مشروع سيطنّ صداه في أرجاء العالم. وأنا في صغري ذهبت مرات معدودة إلى بيروت ما قبل الحرب، وكانت هذه الزيارات، باستثناء الرحلتين اللتين رافقت عمي فيهما لمشاهدة أفلام «البطل بروس لي»، رحلات تختزل كلها في زيارات دورية لطبيب الأطفال وغالباً ما تتضمن الزيارات هذه إبرة أو إبرتين في «العضل» لكي تؤتي الرحلة ثمارها بالنسبة إلى الأهل. أما رحلاتي الأخرى إلى بيروت فكانت في معظمها زيارات للمرضى من الأقارب وأصحاب الصداقة والنفوذ في المستشفيات، أو الذهاب إلى المطار لاستقبال أحد المحظوظين المسافرين والتمتع ببوظة «ميري كريم» الطرية التي ما كانت تباع إلا هناك. ولا أنسى بالطبع الزيارة السنوية لمحال الألبسة في شارع المقدسي لابتياع بدلة الشعانين وما يتخلل ذلك من بكاء واعتراض على الألوان والقصات المختلفة وديكتاتورية الأهل في حسم الخيارات.
تسنى لي التعرف أيام اليفاع إلى شخص اسمه أنطوان بلبليان أتى من إيران بعد حياة من العمل الشاق حاملاً معه ثروة محترمة، في عرف تلك الأيام، إذ كان صفّى أعماله في بلاده ورسم خطة تقاعده في لبنان. ولنختزل لبنان «مسيو أنطوان»، كما تحلو لنا الإشارة إليه، بكلمة «بيروت» حفاظاً على السياق. أقام السيد أنطوان في فندق كان يملكه جدي وسرعان ما أضحى فرداً من العائلة بعدما قبله جدي زبوناً في أيام الشتاء التي يقفل «الأوتيل» فيها أبوابه عادة، ومُنح «مسيو» أنطوان غرفة في الجناح العائلي الشتوي، وكان واسع الاطلاع، طويل الباع في الكثير من نواحي الحياة، كريماً يغمره أمل كبير. وكان سمع «مسيو أنطوان» عن بيروت وعظمتها عهدذاك وأتى ليكون جزءاً منها، ولم يتسن له ذلك بسبب الحرب، وكان ذا موقف سياسي عنادي مؤيّد للاتحاد السوفياتي والمنظومة الإشتراكية إلى درجة الحماسة الشديدة التي قد يراها البعض نوعاً من التفاهة، أو «التزريك»، كان يقول مثلاً إن صناعة السيارات الروسية أكثر تطوّ راً منافساتها الغربية، ولم نكن سمعنا بأي سيارات روسية في العالم سوى نوع واحد دون المعدل لناحية المستوى. كأن قدوم السيد أنطوان إلى البلاد تزامن تماماً مع بدء الحرب، وسرعان ما زاد التوتر وحصل القصف وحلت الفاشية في ربوع بلدتنا الجبلية وفُرض عليها مركز «كتائب» وأصبح الرأي الحر مكلفاً وكلفته تتراوح بين نسف سيارة ونسف محل تجاري واعتداء جسدي بحسب التهمة ونسبة تكرارها… في اختصار، لم تعد آراء «مسيو أنطوان» الإشتراكية مرحباً بها في المنطقة. فهم أنطوان دوره سريعاً آنذاك، خاصة بعدما أضحى شاهداً على مجازر الكتائب وفظائعهم في مخيم تل الزعتر القريبة. لكن بعد وقت قليل لم يعد حياد «مسيو أنطوان» مقبولاً وبدأ جهاز أمن الفاشيين المستحدث «يعرّب» ويصنّف «الغرباء»، وكان «مسيو أنطوان» واحداً منهم، ومثلهم كان أيضاً فارس الموقف واكتشف لنفسه أقارب في القرية بسرعة مذهلة وخفة، تبنى «مسيو أنطوان» مصطلح «جماعتنا» ليشير به إلى الكتائب والأحرار كأنه من أهل البيت وليس من الغرباء، فانتقل إلى المبادرة، ولم يأت إليه مصطلح الإنقاذ بلا كلفة، وسرعان ما بدأ أقاربه يتوافدون إليه طلباً للمعونة المادية، وما إلى ذلك من اسكتشات وانفعالات مبالغ فيها في حديقة الفندق الأمامية لإضافة التأثير الدرامي على طلب المال، إلى حدّ أننا نظمنا الألحان صغاراً على كلمات توسل إبنة الأخت وتمثيلياتها طلباً للمال.
غادر «مسيو أنطوان» البلاد مع انتهاء حرب السنتين، بعدما خسر ثروته كلّها وفقد الأمل الذي جلبه حاملاً جنى عمره إلى بلاد سمع عنها. وتبقى مسيرته البائسة بالنسبة إليّ أفضل صورة معبرة عن بهاء بيروت ما قبل الحرب، إذ أتيح لي أن أرى أملاً كبيراً يساوي بيروت أيام ذروتها وكان موجوداً في عيني هذا الرجل واختفى. كان حجم الأمل الكبير بحجم خسارة «مسيو أنطوان» الكبيرة التي عايشت مراحلها، وحلولها التدريجي عليه.
هل كانت بيروت الأمس شعلة أمل انطفأت اليوم؟ فلنسأل آل الحريري!
أبو أليسار، كاتب سوري من جبل لبنان،
موقعه على الإنترنت www.gkaram.com