فلسطينيو الـ48 وقضية التجنيد ـ 2

البروفيسورة نهلة عبدو

«لسنا حراس حدود»

خرج الخطاب الفلسطيني المناهض لقضية التجنيد بأشكال متنوعة لكن المضمون بقي واحداً. فالخطاب الرسمي الفلسطيني والصادر عن القيادات العربية: الشعبية والجماهيرية وضمنها قيادات دينية محترمة وليست منتفعة كما ذكرنا سابقاً وكذلك قيادات حزبية ومؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني أقر بالمبادئ الأساسية لرفض الجماهيرهذة الحملة «الإسرائيلية» المسعورة. فقد ركز هذا الخطاب على القضايا الآتية:

ربط هذه الحملة بمحاولات المؤسسة الصهيونية طمس الهوية العربية للفلسطينيين عبر تشتيت النسيج الإجتماعي وتمزيقه.

القول بأن تجنيد المسيحيين جزء من سياسات «إسرائيل» لتجزئة الشعب الواحد.

ربط حملة التجنيد مع محاولة «إسرائيل» كسب الاعتراف بيهودية الدولة.

قضايا مهمة جداً للخطاب المناهض للتجنيد، لكن يبقى هذا الخطاب مبتوراً ما لم يتم التذكير بأن هذه الحملة ونواياها لم تأت بأي جديد بالنسبة إلى سياسات الدولة الصهيونية، ولم تكن إلاّ إستمراراً طبيعياً لنهج وسياسة الحركة الصهيونية الكولونيالية الاستعمارية التي تجلت بقيام دولة «إسرائيل». هنا لا بد أيضاً من التشديد على قضية العلاقة بين هذه الحملة ويهودية الدولة ليس من المنظار المحلي فحسب، بل كذلك في علاقته مع محيطه الإقليمي والدولي. إذ لم تكن مصادفة أن تصدر هذه الحملة وبتأييد شخصي من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الذي شجع على قيام «منتدى تجنيد الشباب المسيحي» ويعمل فيه المنتفع «الأب» نداف سنة 2012، ما أثار ضجة أكبر عام 2013. في هذه الفترة اشتعل المحيط العربي في حريق ما يسمى بـ»الربيع العربي» وظهور الإسلامويين السياسيين من «الإخوان المسلمين» على سدة الحكم وتحديداً في مصر وتونس وتظهير كنه هذه التنظيمات في حقيقتها المعادية للحرية والديمقراطية، وقمعها شعبها ومعاداتها الآخر، وافتعالها مشاكل وتخريب وقتل شعوب المنطقة مثل الهجوم على الأقباط والكنائس القبطية في مصر . وأكثر إيلاماً في هذه المنطقة وهذه الفترة كان الهجوم التكفيري والمموّل والمدرّب ليس من الغرب الاستعماري وحده، بل كذلك من دول خليجية إسلامية يمكن القول إنها غير معادية لـ»إسرائيل» … الهجوم على سورية، ومحاولة تمزيقها، وتفتيتها وإلغاء دورها المناطقي المقاوم. لا يخفى على أحد الدور المهم المباشر وغير المباشر لـ»إسرائيل» في تمزيق الأمة العربية وتفتيت نسيجها الإجتماعي ومؤازرتها العمليات الهمجية، فـ»إسرائيل» لم يهتز لها ضمير إذا كان أصلاً موجوداً لخراب أهم الكنائس في العالم وأقدمها، ولا لاختطاف مطارنة وراهبات وآخرين. بل على العكس، استغلت هذه الظواهر بشكل رخيص في دعايتها «الحفاظ على المسيحيين من العرب المسلمين» وهذا بحسب الرؤية «الإسرائيلية» يتم في تأييدهم للمؤسسة العسكرية «الإسرائيلية»، عبر إلغاء عروبتهم وصهرهم في الدولة اليهودية.

ففي الآونة الأخيرة خرج علينا أكثر من عضو برلمان أو سياسي ليقول لنا إن «المسيحيين ليسوا عرباً وهم أقرب لنا اليهود من المسلمين». ومن هنا وللتذكير فقط أودّ القول إن هذه التصريحات مثل تاريخ سياسات «إسرائيل» ليست حديثة العهد. ففي لحظات تاريخية عديدة وربما بعضها جرى في مجالات خاصة أكثر منها في مجالات عامة، كان الخطاب «الإسرائيلي» الرسمي يشدد على نزع الفلسطينيين المسيحيين من هويتهم وبيئتهم وثقافتهم العربية والإسلامية. أذكر مثالاً واحداً هنا. في دراستي الأخيرة عن المرأة الفلسطينية والمقاومة في سجون الإحتلال «الإسرائيلي» ظهرت هذه القضية بوضوح. توثيق هذه الدراسة بني على أرشيفات تاريخية ومقابلات معمقة مع نحو عشرين إمرأة مناضلة ممن شاركن في الكفاح المسلح بين أواخر ستينات القرن الماضي وحتى أواخر الثمانينات تحت النشر . ومن القضايا المطروقة أظهرت بعض النساء المعتقلات أنه وقت التحقيق معهن كان المحقّق اليهودي يصر على أنهن مسيحيات ولسن عربيات ويتساءل لماذا ينخرطن مع المسلمات في الأعمال الإرهابية. ورغم المعاملة الشرسة للمحققين مع هؤلاء النساء والتي لم تكن لتفرق بينهن وبين أخواتهن في المعتقل، إلاّ أن خطاب المحققين معهن كان يركز على أنهن مميزات كونهن لسن عربيات.

لا يستطيع أحداً ولا حتى السلطات «الإسرائيلية» إغفال الدور بل الأدوار القيادية التي كان مسيحيّو فلسطين ولا يزالون يتبوأونها في قيادة النضال الفلسطيني. ولا يستطيع أحد التغاضي عن دور رواد القومية العربية من مسيحيي الشرق ودورهم الأساسي في نشر الثقافة الوطنية والفكرية، التي ساهمت في رفع شأن الأمة العربية وشعوب المنطقة. وبكلمة واحدة، لا يسعنا إلاّ القول إن حملة التجنيد ليست إلاّ للتحريض العنصري ضدّ العرب والمسلمين.

أما في ما يتعلق بحملة التجنيد والهوية اليهودية للدولة على المستوى العالمي أو الدولي، لا بد من التذكير هنا بأن توقيت هذه الحملة تزامن مع المباحثات «الإسرائيلية» – الفلسطينية الهزيلة وإصرار البيت الأبيض، من خلال الزيارات المكوكية التي يقوم بها وزير الخارجية كيري للمنطقة ومن ركائزها إرغام الفلسطينيين بالإعتراف بيهودية الدولة. فسلخ مسيحييي فلسطين عن شعبهم الفلسطيني وبنود «الإتفاقية» التي تقضي بتبادل الأراضي و»الترانسفير» لقرى المثلث المأهولة بالسكان، والتهجير الممنهج لسكان القدس، واقتلاع أراضي النقب، وبناء المزيد من المستعمرات اليهودية يقلل ممن تعتبره الدولة «الخطر الديمغرافي» وتؤمن مساحة أكبر من أراضي فلسطين التاريخية للدولة الكولونيالية، وتسرّع في مشروعها لتثبيت الدولة اليهودية.

لكن مثلما قال شاعر المقاومة توفيق زياد في قصيدته هنا باقون:

كأنا عشرون مستحيل… في اللد والرملة والجليل!!

هنا… على صدوركم، باقون كالجدار

وفي حلوقكم كقطعة الزجاج، كالصبار

وفي عيونكم زوبعة من نار.

…….

نجوع نعرى، نتحدى، ننشد الأشعار.

ونملأ الشوارع الغضاب بالمظاهرات،

ونملأ السجون كبرياء

ونصنع الأطفال… جيلاً ثائراً..

وراء جيل

…….

فلتشربوا البحرا!!

…….

رغم فقداننا شاعرنا العظيم إلاّ أن كلماته ورسالتة لن تموت. فمن يراقب الاحتجاجات والتظاهرات الشعبية وتحديداً في الناصرة وباقي مدن وقرى الجليل لا يسعه إلاّ أن يلاحظ الإبداع والتجديد في الأساليب المستعملة من قبل الشبيبة من الذكور والإناث في حملاتهم النضالية ضد التجنيد. فهذا الجيل الجديد هو الذي بشر به شاعرنا توفيق زياد، إذ يستعمل ليس الساحات العامة والاجتماعات الشعبية فحسب بل يكرس كذلك نشاطه ومعرفته بأساليب الاتصالات الحديثة ومنها الشبكات العنكبوتية في توضيح موقفهم الرافض ونشر رسالتهم على المستوى العالمي. فالشعار الذي بدأت به الموضوع الأخير من هذه المقالة نحن نحرس أراضينا ولسنا حراس حدود كان مرفوعاً من قبل ثلاث شابات فلسطينيات في أحد النشاطات السياسية المناهضة للتجنيد. ومن المهم أن نذكر هنا أن الرسالة التي بعثها عمر سعد إبن السابعة عشرة إلى رئيس الوزراء «الإسرائيلي» وظهرت على «فيسبوك» كانت ترجمت إلى عدة لغات ووصلت إلى شباب في أميركا وروسيا وبلدان غربية أخرى. ورغم أن هذه الرسالة إنسانية وشخصية وتؤكد على حقوق الفرد الإنسانية إلا انها كانت كذلك سياسية وقومية بتميز. لن أعيد الرسالة هنا، إنما سأنقل بعض المقتطفات للتدليل على ذكاء هذه الرسالة وقوّتها وأسباب انتشارها ونجاحها في نشر القضية على المستوى العالمي.

يستهل الشاب عمر رسالته بالقول: «أرفض المثول لإجراء الفحوص لمعارضتي لقانون التجنيد المفروض على طائفتي الدرزية. أرفض لأني رجل سلام وأكره العنف وجميع أشكاله، وأعتقد أن المؤسسة العسكرية هي قمة العنف الجسدي والنفسي، ومنذ تسلّمي طلب المثول لإجراء الفحوص تغيَّرتْ حياتي، ازدادت عصبيتي وتَشتُّت تفكيري، تذكّرتُ ألوف الصور القاسية، ولم أتخيَّل نفسي مرتدياً الملابس العسكرية ومشاركاً في قمع شعبي الفلسطيني ومحاربة إخواني العرب.أعارض التجنيد للجيش «الإسرائيلي» ولأي جيش آخر لأسباب ضميرية وقومية…» وتابع عمررسالتة بقوله: «أكره الظلم وأعارض الاحتلال، أكره التعصب وتقييد الحريات.أكره مَن يعتقل الأطفال والشيوخ والنساء.أنا موسيقيّ، أعزف على آلة الفيولا، عزفت في عدة أماكن، لديّ أصدقاء موسيقيون من رام الله، أريحا، القدس، الخليل، نابلس، جنين، شفاعمرو، عيلبون، روما، أثينا، عمان، بيروت، دمشق، أوسلو، وجميعنا نعزف للحرية، للإنسانية وللسلام،…أنا من طائفة ظُلمت بقانون ظالم، فكيف يمكن أن نحارب أقرباءنا في فلسطين، سورية، الأردن ولبنان؟…كيف أكون سجَّانا لأبناء شعبي وانا أعرف أنّ غالبية المسجونين هم أسرى وطلاب حق وحرية؟ أنا أعزف للفرح، للحرية، للسلام العادل القائم على وقف الاستيطان وخروج المحتل من فلسطين وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، وإطلاق سراح جميع الأسرى في السجون وعودة اللاجئين المهجّرين الى ديارهم .»

يستنتج متتبع نضال عمر أن الشاب ينتمي إلى عائلة فنية مقاومة. ففي اجتماع شعبي في بلدة كفرياسيف الجليلية ألقت نهى سعد أم عمر كلمة أستهلتها بصوت أسمهاني رائع ورددت أغنية أسمهان: «يا ديرتي مالك علينا لوم/ لا تعتبي لومك على من خان/ حنا روينا سيوفنا من القوم/مثل العدو ما نرخصك بأثمان/ يا ياب/ يا مصبرني على بلواي». وكان لوقع صوت نهى وكلمات الأغنية تأثير كبير في الجماهير. وذكرت نهى بالصدى العالمي لرسالة ابنها عمر وبرسائل الدعم والتأييد التي وصلتها من أقطار العالم. فإذا كان لنضال عمر وأم عمر معنى ووقع فإن هذا الوقع هو ما يجسده الشباب والشابات العرب الفلسطينيون في حراكهم المقاوم والمتناقل من جيل إلى آخر. وهنا أختم هذه المقالة بترداد الشعار المقاوم ذاته: نحن عرب فلسطينيون، شاء من شاء، وأبى من أبى، ولن يكون انتماؤنا إلاّ لشعبنا وقضايانا.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى