أيّ دولة للخبز والأمن وحكم القانون؟

د. عصام نعمان

الخبز والأمن مطلبان شعبيان، بل لعلّهما، حالياً، الأكثر إلحاحاً وشعبية في عالم العرب. فالاضطرابات والفتن والحروب وبالتالي الفوضى التي عصفت وتعصف بمعظم البلدان العربية، مذّ تفجّرت انتفاضات ما يُسمّى «الربيع العربي»، خلّفت آثاراً مدمّرة في النسيج الاجتماعي والبنى الاقتصادية والسياسية للأنظمة الحاكمة، أدّت إلى اندلاع موجات متعاقبة من التهجير والتشريد والنزوح، وتسبّبت باختلالات ديموغرافية واجتماعية واسعة أنتجت بدورها عوزاً وضائقة معيشية وتسيّباً وفوضى.

إذ يصبح الخبز والأمن أولوية مطلقة، ينهض سؤال: كيف تكون الاستجابة لهذا التحدّي؟

الاستجابة تبدأ من الدولة. ذلك أنها، افتراضاً، المؤسسة الأكبر والأقوى والأغنى في المجتمع، وبالتالي المسؤولة عن توفير المعالجة اللازمة ووسائلها البشرية والمادية. لكن الافتراض شيء والواقع شيء آخر. فالدولة غير موجودة في لبنان ومعظم البلدان العربية. ما عندنا ليس دولة بل نظام سياسي. النظام عبارة عن آلية mechanism لتقاسم السلطة والنفوذ والمغانم بين أفراد طبقةٍ، والأصحّ شبكة، من متزعّمين في طوائف وعشائر، ورجال أعمال وأموال، ومتنفذين في أجهزة الأمن والقوات المسلحة.

لعلّ مصر الاستثناء الوحيد من التركيبة السياسية التي تسود عالم العرب. ذلك أنّ اعتمادها، منذ فجر التاريخ، على نهر النيل استلزم وجود سلطة مركزية لإدارة عملية توزيع المياه. هذه السلطة تطوّرت عبر العصور إلى دولة مركزية قوية بل إلى دولة عميقة الجذور والتأثير وقائدة للمجتمع إلى درجة يمكن معها القول إنّ مصر هي هبة النيل والدولة العميقة معاً.

هذا التوصيف كان سارياً وسائداً إلى أن قامت انتفاضة 25 كانون الثاني 2011 وما أعقبها من اضطربات سياسية وأمنية بلغت ذروتها في ثورة 30 حزيران 2013 التي أودت بحكم الرئيس محمد مرسي و«الإخوان المسلمين»، وخلّفت حالاً سياسية واجتماعية متفجرة، ولا سيما بعد اندلاع العمليات الإرهابية في سيناء وانتقالها إلى القاهرة وسائر المدن الكبرى. ومع شيوع الإرهاب والاختلال الأمني والفوضى، فقدت الدولة في مصر الكثير من هيبتها وفعاليتها.

غياب الدولة أو تغييبها في لبنان ومعظم البلدان العربية يجعل الوفاء بمطلبي الخبز والأمن، ناهيك عن مطلب حكم القانون، أمراً بالغ الصعوبة. تزداد الأزمة تعقيداً مع انهيار المجتمع. ذلك أن النسيج الاجتماعي في بلادنا العربية المطبوع بتعددية قَبَلية ومذهبية واثنية عميقة تعرّضَ على مرّ التاريخ لتدخلات قوى خارجية أمعنت فيه تمزيقاً وتجزيئاً على نحوٍ أنتج ظاهرة لافتة هي خضوع العرب على امتداد ألف سنة من تاريخهم لسلطة حكّام أجانب راجع كتاب شارل عيساوي: تأملات في التاريخ العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1991 .

لم يكن حكّام العرب «الوطنيون» أرحم بهم من حكامهم الأجانب، إذ استخدموا أيضاً العصبيات القبلية والمذهبية والإثنية وسائلَ للتمزيق والتفريق والتحكّم والاستغلال. وليس أدلّ على اعتمادهم هذا النهج من حال الانشقاق السني- الشيعي وتداعياته السياسية والاجتماعية القاسية على مجتمعاتنا كافة، وصعود حركات الإسلام السياسي المتطرف والتنظيمات الإرهابية المعتمدة نهج إدارة التوحّش.

هكذا يجد العرب أنفسهم اليوم، ولا سيما عرب المشرق ووادي النيل، أمام تحديّين بالغي الخطورة: التحدي الصهيوني وتحدي الإرهاب. واللافت أن التحديين كليهما يحظيان بدعم قوي ومستدام من دول كبرى كما من قوى سياسية وشرائح اجتماعية واسعة داخل بلادنا.

ما العمل؟

صحيح أنّ للخبز والأمن أولوية مطلقة في حاضرنا، لكن ثمة حاجة أخرى ترتقي أيضاً إلى مرتبة الأولوية هي ضرورة المقاومة والنهضة. يقول ديكارت: أنا أفكر، إذاً أنا موجود. على القوى الحية في أمتنا، أفراداً وجماعات، أن يقول واحِدُها: أنا اقاوم، إذاً أنا موجود. أجل، وجودنا أصبح مشروطاً بمقاومتنا للتحديين الصهيوني والإرهابي. بل إن نهضتنا مشروطة بقدرتنا على مقاومة الفكر الماضوي، بما يحمله من حركات إسلاموية تكفيرية وإرهابية، والانفتاح على ثقافة العقل والحرية والشورى والديمقراطية والعلم والتنمية.

بالمقاومة والنهضة نستطيع أن نحرر أنفسنا من جاهلية معاصرة تحتل حياتنا ومن عبودية للماضي تقتل براعم حاضرنا وتعتقل أحلام مستقبلنا.

من دون الحرية والعقلانية والعلم لا نستطيع أن نعيد بناء مجتمعنا ونؤسس دولتنا. ذلك أن المجتمع الحر المتماسك شرط أساس لبناء الدولة بما هي الإطار الحقوقي والسياسي والاقتصادي والثقافي لإدارة المجتمع وحمايته وإنمائه.

لا أمن وبالتالي لا حكم بالقانون، أو حكم القانون، إلّا بوجود الدولة ومن خلالها. علينا، حتى ونحن في معمعة مقاومة التحديين الصهيوني والإرهابي، أن نباشر بعقلانية وعلم وتخطيط والتزام عمليةَ تأسيس الدولة وبنائها. وإن لم نفعل نكون قد استمرأنا البقاء في ما نحن فيه من ركود وجمود لا ينتجان إلا سلطة قهرية تفرض الأمن بالقمع وتستعيض عن حكم القانون بأهواء الحاكم بأمره.

الدولة المطلوب تأسيسها وبناؤها هي الدولة المدنية الديمقراطية. لماذا؟ لأن مجتمعاتنا العربية تعددية، فلا يعقل أن تكون قيادتها بيد أحد مكوّنات المجتمع دون غيره. ذلك يؤدي إلى اندلاع صراعات فئوية بين المكوّنات المتنافسة، وأحيانا المتقاتلة، على السلطة والثروة والنفوذ. إلى ذلك، فإن جوهر الديمقراطية مساواةُ المواطنين أمام القانون. فهل تصحّ المساواة إذا ما تحوّلت السلطة أداةَ محاصصةٍ وسبيلَ استغلالٍ وفساد؟ فوق ذلك، فإن الديمقراطية، بما هي المساواة أمام القانون، لا تصحّ إلّا بين مواطنين في دولة لا بين رعايا في قبائل وطوائف. فالمواطنة شرط لازم لوحدة الدولة وسيادتها كما لوحدة المجتمع وتماسكه في وجه التحديات الخارجية.

قد يقول قائل إن نهج المقاومة والنهضة مسار طويل، فهل ننتظر استكمال بناء الدولة المدنية الديمقراطية لفرض الأمن وحكم القانون؟

لا شك في أن الأمن وحكم القانون استحقاقان معجلّا الأداء. لذلك يقتضي النهوض للوفاء به أياً كانت حال النظام السياسي. فالسلطة القائمة مدعوة، بقدْر ما تستطيع وتطيق، إلى فرض الأمن واحترام القوانين النافذة وتطبيقها دونما محاباة. ولضمان ذلك يقتضي أن تسهر القوى الحية، حتى وهي في معمعة المقاومة والنهضة، على مراقبة أداء السلطة في مجال فرض الأمن وحكم القانون، حتى إذا وجدت فيه تقصيراً أو انحرافاً، بادرت إلى كشفه للرأي العام وقامت بالضغط على أهل السلطة بكل الوسائل المشروعة لحملها على استدراك التقصير وسدّ النقص وتصحيح الأخطاء. فبناء الدولة المدنية الديمقراطية، شأن المقاومة والنهضة، مسار لا مجرد قرار، بل هو مسار واحد يتسع لنشاط كل القوى الحية ونضالها من أجل تحقيق جملة أهداف أساسية في شتى الميادين.

هل ثمة نهج آخر أجدى وأفعل؟

وزير سابق

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى