دير الزور مثلما كانت… ومثلما ستعود

لبيب ناصيف

بتاريخ 10/02/2015 نشرنا نبذة تعريفية عن الحزب في «دير الزور»، استناداً الى الملف الذي قدمه منفذ عام دير الزور الأمين عبد الوهاب بعاج.

الرفيق الياس خليفة الذي كان غادر دير الزور الى بيروت وتابع فيها دراسته ثم درّس في الكثير من المعاهد في لبنان وخارجه، مستقراً من ثمّ في لبنان، كان له في الحزب حضوره الناشط، ثقافة وإذاعة وفنوناً مسرحية، كتب لنا عن «ليلة الرعب» التي عاشها صبياً في مدينته دير الزور فأحلناها على منفذ عام دير الزور 1 الذي كتب لنا تعليقاً عليها.

الواقع في «دير الزور»، كما يعرفه كل من المنفذ العام والرفيق الياس خليفة، هو الواقع الذي كانت تعيشه المدينة ومعظم مناطقنا في الشام، إن لم نقل كلها، قبل أن «تطل» «داعش» بكامل إجرامها وبشاعتها وعقدها وتشويهها للإسلام الحقيقي.

«ليلة الرعب»

« كان ذلك في ليلة من ليالي صيف عام 1943. أذكر أنني كنا نجلس وأهلي على حصيرة متلاصقين واجمين وقد ملك علينا الخوف والرعب مما ننتظر ومما قالته الشائعات من أن المسلمين سينقضون على بيوت النصارى فيقتلونهم وينهبون بيوتهم.

هجمت هذه الشائعة على بيوت المسيحيين وملأت قلوبهم رعباً وحيرة وترقباً لأبشع الصور. وكانت الشائعة يرددها المسيحيون بخوف نقلاً عن شخص فرنسي يعرفه الجميع ولا يجرؤ أحد على نفي ما يقول أو تكذيب الاشاعة. كاد الليل أن ينتصف ولم يقرع بابنا أحد ولم نسمع وقع قدم خارج جدار الحوش .

أذكر أن عمي كان يجلس على طرف الحصير حاملاً مسدساً محشواً… وبين الحين والآخر يشجعنا ويدعونا للصلاة وطلب الحماية من السماء. ثم نهض وقال: أنا ذاهب الى بيت الشيخ سعيد العرفي، مفتي دير الزور، لأخبره بما سمعنا وأسأله عن حقيقة الأمر وأستنصحه بما علينا أن نفعل، وكان بيت المفتي على مقربة من بيتنا، وبعد دقائق عاد عمي من دار الشيخ المفتي يحمل الاطمئنان الى قلوبنا. وأذكر مضمون ما قاله وهو، أن المسألة لا تتعدى كونها إشاعة كاذبة أراد منها مطلقوها أن يشوهوا حقيقة الواقع الوطني في سورية، والعلاقة اللأخوية بين سكان البلد، المسلمين والمسيحيين.

بعد دقائق انطلق صوت الشيخ المفتي من أعلى المئذنة حاملاً الى الناس عامة والمسيحيين خاصة عبارات الاطمئنان والأمان ويحذرهم من الأخذ بالشائعات المغرضة الباطلة، محرّماً على المسلمين إلحاق الأذى بإخوتهم وجيرانهم وأبناء وطنهم النصارى».

تعليقاً على «ليلة الرعب» كتب منفذ عام دير الزور الأمين عبد الوهاب بعاج،:

إن غالبية العوائل المسيحية بدير الزور من السريان، الذين وفدوا إليها هرباً من موطنهم في البلدات التي يحتلها الأتراك من سورية، بعدما وقع الآلاف من المسيحيين السوريين إضافة الى الأرمن ضحايا، وكان ملجأهم الجزيرة الفراتية ودير الزور، حيث وجدوا الأمن والطمأنينة وأقاموا مكرّمين، وخلال فترة قصيرة اندمجوا مع المكوّن الموجود من السكان، وأصبح منهم العامل والتاجر والصانع والموظف، دون تمييز أو تفريق.

أصبح للمسيحيين بمختلف طوائفهم مدارس خاصة، إنما هي خاصة بالإسم فقط. فطلبتُها من أبناء المدينة بمختلف أديانهم، وكذلك المدرّسون مما خلق علاقات متينة بين غالبية الشباب وارتباطاتهم البعيدة عن كل ما يفرّق.

كان كثير من المحمديين يدخلون الكنيسة في المناسبات الدينية صلاة الميلاد، رأس السنة، وأثناء الجنائز والتعازي .

ومن الحوادث التي أذكرها كشاهد عيان:

الشيخ محمد سعيد العرفي مفتي دير الزور ، رجل ازهري متنوّر. يسكن حوله عدد من العوائل المسيحية. ومن عادته خاصة أيام الصيف، بعد أن يؤدي صلاة الفجر، يجلس أمام بيته على حصيرة يمدها بعد أن يرطب الأرض تحتها وحولها، ويضع القهوة المرة أمامه، حيث يلتفّ حوله الجوار وأغلبه مسيحيون يستمعون الى أحاديثه، ويبادلونه الأخبار والأحوال، وهكذا الى أن تبدأ ساعة العمل الصباحي.

كان يسكن بجوار أهلي قس متزوج وله أولاد لم يكن يخطر لأحد منا أن يسأل عن الطائفة ولا المذهب .

جاء يطرق بابنا ليلاً ومعه زوجته باكية متألمة، فتحتُ الباب، فسألني عن والدي، فأدخلته الديوان الغرفة الكبيرة المجهزة لاستقبال الضيوف وناديت والدي الذي سأله عن القصد، فقال له إن زوجتي لدغتها عقرب فجئت إليك كان والدي يشفي هذه الإصابة بالقراءة الدينية فقال له الوالد: يا أبونا، الأمر متعلق بالتصديق والإيمان، فرد عليه القس لولا ذلك لما جئت!

فأمسك والدي مكان اللدغ وخلال دقائق من التلاوة، هدأت المرأة وسكن الألم وغادرت مع زوجها شاكرين.

في ذلك الزمن كانت أغلب بيوت دير الزور لا تعرف البلاط ولا الإسمنت للأرض ولا الزفت للطرق، وأن العقارب والحيات وما شاكلها أمر عادي ومنتشر.

أثناء الثورة السورية ضد الفرنسيين عام 1945، أخذت بعض المجموعات تلاحق العسكريين التابعين للفرنسيين، وغالبيتهم غير موجودين في بيوتهم بل متجمعون في الثكنات العسكرية. وكان بجوارنا عائلة أرمنية، الكبير فيها يعمل في مجال تبييض الأواني النحاسية.

وإذ هجمت باتجاه هذا البيت، وكان والدي قريباً، وقف أمام الباب شاهراً مسدسه، وناداهم: ماذا تريدون. قالوا: هذا بيت عسكري. فقال لهم لا يوجد عسكري، ومن يقرب هذا البيت يُقتل، فعادوا وسلِم الجار والبيت.

في فترة العمل القومي الاجتماعي، بعد استشهاد الزعيم، وانتشار الحزب في دير الزور حضر الى دير الزور عدد من المدرّسين من الساحل السوري وبينهم مدرّس للغة العربية، كان مشهوداً له بقوة الشخصية والقدرة العلمية، ويدعى محيي الدين ريشه.

هذا المدرّس القومي الاجتماعي أمضى عدة سنوات في دير الزور. وبيننا نحن القوميين. بعد سنتين من وجوده مدرّساً في مدرسة يوسف العظمة، جاءه مديرها الأستاذ سعد الدين عبود يفيده أن مدرّس الديانة الإسلامية للصف الرابع الابتدائي اضطر إلى الغياب عن المدرسة، ويسأله إذا كان يستطيع أن يحلّ محله في إعطاء الدرس.

فقال له: نعم أستطيع، ولكني من أجلك لا أفعل ذلك. فاستغرب المدير هذا الرد، وقال: كيف من أجلي لا تفعل ذلك وأنا من أطلبه منك! فقال له: كي لا يقال إن سعد الدين عبود كلف مسيحياً بتدريس الديانة الإسلامية. فرد مستغرباً، وهل أنت مسيحي؟ نحن، رفقاؤه، استغربنا ذلك أيضاً. كنا عرفناه منذ سنوات ولم نكن ندري ما هي هويته الدينية. هذا الرفيق اتهم في ما بعد مع مجموعة الشهيد يونس عبد الرحيم بالاشتراك في اغتيال العقيد عدنان المالكي، ولكنه بُرّىء من التهمة.

هذه «دير الزور» بمجتمعها المتنوع والمندمج، البعيد عن الطائفية والمذهبية الى أن حلّ أهل الكفر والتكفير.

رئيس لجنة تاريخ الحزب

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى