آخر الكلام الدولة الافتراضيّة

نسيب أبو ضرغم

الأمر الأكيد أنّ ما من متابع، إلاّ ويسأل نفسه: تُرى ما هو سرّ هذه «الدولة اللبنانية»؟ كيف يمكن لها أن تستمر وهي من دون رأس على مدى عشرة أشهر ومن غير أن يلوح في الأفق موعدٌ نهائيّ لهذا الفراغ الرسمي؟!

بقدر ما هو تساؤل منطقي، ينبغي بالقدر نفسه البحث في ماهية هذه الدولة وشروط تركيبها، سواء من الناحية التاريخية أو من الناحية السياسية ـ الاجتماعية.

الباحث في الكينونة اللبنانية لا يرى أنها ذات وجود منفصل عضويّاً عن محيطها الطبيعي على مدى التاريخ. فهي في الحقبة الفينيقية جزء من امتداد فينيقي شاطئي، يبدأ من شمال الساحل السوري ـ رأس شمرا ـ حتى مشارف رفح. كذلك في الحقبات التالية، لم تكن إلاّ جغرافيا جبلية قصدها كثر بينهم من هو مضطهد مثل الموارنة، وبينهم مَن هو نازح لأسباب أخرى.

صارت الرقعة الجبلية اللبنانية مع ساحلها الضيق نطاقاً لوجود عدد من الطوائف التي تقاربت حيناً وتنافرت أحياناً، ولم تنصهر أو تلتحم مرة واحدة. مجاميع طائفية ومذهبية، شكلت بطبيعتها المذهبية معبراً لسياسات الغرب الأوروبي في أربعينات القرن التاسع عشر، معبرٌ أمّن لهذه السياسات طريقاً لعبور مصالحها التي لم تكن الأهداف اليهودية بعيدة عنها، إلى داخل هذه الكينونة.

أُدخلت المجاميع الطائفية في لبنان في رقصة الدم عام 1860، وباتت هذه الرقصة قاعدة وخلفية لكل ما حصل بعدها من ترتيبات وسياسات، بدءاً بالقائمقاميتين، ومروراً بالمتصرفية، وصولاً إلى فترة الانتداب الفرنسي.

وكان الانتداب، وكانت المرحلة التأسيسية ـ الدستورية، المرحلة التي جاءت لتحاكي «سايكس ـ بيكو» بكامل أبعادها القومية والاجتماعيّة لناحية تمزيق وحدة التراب القومي ووحدة المجتمع القومي.

أرست فرنسا الانتداب، «دولة» لبنانية أرادتها شبيهة بدولة جمهوريتها الثالثة، لكنها في الأساس وفي الواقع لم تكن سوى افتراض دستوري، فما نص عليه الدستوري باستثناء المادة 95 منه لم يكن ذا علاقة بالواقع الطائفي ـ السياسي القائم على الأرض، بل، ولنكن أكثر دقّة، نقول، إن المادة 95 وجدت لتثبت غلبة الواقع الطائفي ـ المذهبي على روح دستور الجمهورية الثالثة الفرنسية، فاستطاعت هذه المادة الوحيدة أن تنسج مواد الدستور كافة، بل مختلف ميادين الحياة السياسية في لبنان.

ما كان قبل الدستور ترسّخ بعده، طوائف لها شخصيتها الثقافية المتمايزة جامعة الحكمة ـ الجامعة اليسوعية ـ الجامعة الأميركية ـ الجامعة العربية ـ المقاصد الإسلامية ـ المدارس العاملية ـ جامعة البلمند ـ المدارس الكاثوليكية ـ مدارس العرفان التوحيدية… .

طوائف ذات كيان ثقافي وإعلامي وسياسي، ولكل طائفة حزبها بل أحزابها ومشاريعها واقتصادها وعلاقاتها الدولية، وهذا هو الأخطر في الأمر. على هذه الطوائف كانت محاولة تركيب دولة واحدة سميت بالدولة اللبنانية وجمهورية لبنانية. عند هذه الإشكالية تبدأ التراجيديا اللبنانية.

كي تكون هناك دولة بالمعنى السياسي ـ العلمي ـ التاريخي ـ يجب أن تكون هي التعبير السياسي الأرقى عن مصالح شعب وليس طوائف، فالدولة هي أرقى تعبير عن مصالح الشعب وليس عن مصالح الطوائف، فالطوائف وببساطة تامة لم تتنازل عن سيادتها لمصلحة الدولة، مثلما يتنازل الأفراد المواطنون عن سيادتهم لمصلحة الدولة. ولأن الدولة حالة فوق طوائف لها هذه الاستقلالية كلها، فهي افتراضية أكثر مما هي واقعية.

تلك هي حال الدولة في لبنان، تحاول أن ترعى شؤون جمهوريات لبنانية، عددها عدد المذاهب اللبنانية 18 جمهورية . دولة عاجزة عن فرض قانونها في وجه الجمهوريات المتمردة، وإذا حصل أن فرضت القانون فإنّما يتمّ ذلك بقرار من هذه الجمهوريات تُكلّف به شكلاً.

ولأن الطوائف عناصر مستقلة وتأسيسية فإنّها ألغَتْ إمكانية تكوين شعب لبنان. ما يُسمى بـ«شعب لبنان»، ليس في الواقع إلاّ مجموع هذه المذاهب، ويستحيل أن يكوّن مجموع المذاهب شعباً، وبناءً على ذلك يصبح القول باستحالة أن تكوّن 18 جمهورية جمهورية لبنانية واحدة أكثر من صحيح.

نحن لسنا شعباً في المعنى العلمي ـ السياسي. نحن مذاهب. نحن لسنا جمهورية واحدة. نحن من الوجهة الواقعية السياسية ـ التاريخية ثماني عشرة جمهورية.

نحن لسنا دولة، بل تجمع سلطات، تمثل ثماني عشرة طائفة.

ويستحيل جمع ثماني عشرة سلطة لتكون دولة.

لاحظوا كيف يصدر كل فترة عدد من الكتب التي تتكلم عن تاريخ طائفة ما، وعن أعلام ورجال من هذه الطائفة، والأمر لا يتوقف عند طائفة بعينها، فالمؤرخون الطوائفيون والطائفيون نشيطون ومدعومون في جميع الأحوال، لأن الهدف هو أن نظهر للعالم المتحضّر أننا ما زلنا مذاهب وطوائف تختلف على كل شيء، ولم نصل حتى الساعة إلى مستوى أن نكون شعباً.

في الوقت عينه، لم نستطع حتى الآن أن نتفق على كتاب تاريخ واحد للبنان، ولن نتفق. إن حالة عدم الاتفاق، منطقية لمن يدرك حقيقة التركيب السوسيوـ سياسي لهذا المجموع اللبناني. أن تكتب تاريخاً للبنان ينبغي أن يكون ثمة شعب لبنان واحد موحد عبر مرحلة التاريخ المقصودة، وهذا الأمر لم يتوافر يوماً. فكيف يمكن كتابة تاريخ لشعب هو أيضاً في المعنى الواقعي شعب افتراضي تماماً مثل دولته.

ربما من خلال هذا العرض، نقع على الإجابة الصحيحة حول التساؤل الوارد في مقدمة المقالة. فأن يشغر موقع رئاسة الجمهورية اللبنانية طوال هذه المدة، وتبقى الأمور تسير بشكل طبيعي، يعني أن الفراغ غير واقعي، لأنه فراغ افتراضي لرئاسة دولة افتراضية.

هل يُعقل أن يقع مثل هذا الفراغ في زعامة أي طائفة؟ الجواب كلا بالتأكيد، ولم يحصل ذلك البتة، ولن يحصل، طالما أننا تجمع طوائف ومذاهب.

أفترض أن يُمعن مسؤولو الطائفة المارونية في درس ظاهرة الفراغ الرئاسي، فربما يخرجون بقناعة تعاكس الموروث الثقافي ـ السياسي كلّه الذي تراكم منذ ما قبل العام 1920. قناعة تقول بأن ضمان المجموعات الطائفية والمذهبية ليست بالمواقع الرسمية، وإن تكن بمستوى رئاسة الجمهورية، إنما الضمانة الحقيقية لجميع الناس من دون استثناء هي المواطن نفسه و…:

1 ـ أن نصير شعباً ونكفّ عن أن نكون مذاهب.

2 ـ أن نبني دولة على أنقاض سلطات مذهبية أثبتت عجزها.

3 ـ أن نلغي الجمهوريات الثماني عشرة، ونبني الجمهورية اللبنانية الواحدة.

4 ـ أن نحدّد موقع هذه الجمهورية من مشرقها المقدس.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى