البروفسور عباس مكي: إنسان التكنولوجيا فقد روحه البشرية وأصبح آلة بحد ذاته
حاورته نرجس عبيد
تتسم شخصيته الأكاديمية بشمولية علمية مميزة. فعندما تقرأ كتبه، تجد نفسك قارئاً معظم العلوم بطريقة منطقية متسلسلة ممنهجة، إذ لم يوفّر عِلماً من علوم الحياة إلا وبحث فيه ودرسه. ثم ربطه بالعلوم الأخرى انطلاقاً من قناعته بأن كل العلوم تصبّ في بحرٍ واحد منسجم ومتناغم في مكوّناته، ليطرح أفكاره العلمية التي تبرّر منطقية حدوث ظاهرة ما، أو تبرّر تكوّن تيارات أو مسارات فردية أو جماعية تستحقّ البحث.
إنه البروفسور عباس مكي، رئيس جمعية ممارسي النفس العلاجي والاستشارات النفسية، والمحاضِر الذي أشرف على مؤتمراتٍ عدة وكان آخرها تحت عنوان: «العمران والتكنولوجيا في الأزمنة المعاصرة… وجع أو رفاه؟». وألقى خلاله الكلمة الافتتاحية التي كانت مدخلاً لعنوان المؤتمر الرئيس، ولعناوين المحاضرات الفرعية التي تنبثق عنه. وعلى هامش المؤتمر، كان لنا معه اللقاء التالي.
ما هي مقدّمتك وتعريفك عن عنوان المؤتمر؟
غاية المؤتمر إظهار معالم العمران التكنولوجي الحديث ونتائجه، ولا أقصد هنا مجرد بناء بيت أو مؤسسة تكنولوجية، إنما المقصود أحدث اختراعات التواصل التكنولوجي المعاصر. وهو أفضل ما توصل إليه التقدّم العلمي. إلا أنه وعلى رغم كل فوائده ونتائجه الايجابية على حياتنا حالياً، والتي لم نعد قادرين على الاستغناء عنها بسبب «ريتم» الحياة السريع. إلا أن له آثاراً سلبية على حياة الفرد والمجتمع انعكست على الحالة النفسية ـ الاجتماعية.
ما هي العوامل التي دفعتك إلى البحث في هذا العنوان الكبير وما هي الآثار السلبية التي حفزتك؟
إن التقدم العلمي الكبير أدخل الفرد في مشكلات كبيرة جعلته يدخل في عزلة مع الآلة التي بدأت تحلّ محل الإنسان. واستطعت رصد ظاهرة نفسية في عيادتي، وحتى في الشارع، وأينما كان. تجلت هذه الظاهرة من خلال انقطاع التواصل بين المرء والمجتمع الحيّ بسبب انشغاله طوال الوقت بالهاتف الخلوي أو الـ«آي باد»، وعيشه لمدة طويلة مع الآلة متوحّداً في كل محاور حياته. ومن كثرة التصاقه بالآلة واندماجه معها، أصبح متطبعاً بها. أصبحت شريكته بكل مفاصل حياته. صار وإياها فريقاً واحداً، وكأنهما جسدين بروح واحدة، لدرجة أنها سيطرت عليه وعزلته عن كل العالم الخارجي الحيّ، وهكذا سرقته في لحظة لاوعي منه، من العلاقات الاجتماعية مع الآخرين، وسببت عائقاً في تواصل الناس في ما بينهم، وهذا ما يُشعر الفرد بالغربة والعزلة عن المجتمع، وبالتالي الشعور بالفراغ، والفراغ يؤدّي إلى الاكتئاب، وقِس على ذلك كثيراً من الاضطرابات النفسية العميقة هذا من جهة. ومن جهةٍ أخرى، فإن تعاظم الثورة التكنولوجية وصل إلى حدّ قدرتها على التعرف إلى كل المعلومات الشخصية عن حياة أي فرد، وهذا ما أشعَرَ المرء بالخوف والتوتّر لأنه أصبح مكشوفاً أمام الغير. وتفاصيل حياته مستباحة بشكل تلقائي، وهذا ما أدخل الفرد والمجتمع في أزمة أوصلتنا إلى موضوعنا الذي نبحث فيه اليوم. ألا وهو، من رفاهية التواصل إلى أزماته.
على أيّ مستوى تحدث الآثار السلبية بالنسبة إلى الفرد والجماعة، وما تأثيرتها على حركة التبادلات مع الآخر وعلى علم نفس المجتمع؟
أريد أن ألخّص الموضوع على ثلاث مستويات، إذ إن النمو النفسي والبنائي للإنسان يتأثر بالاضطرابات النفسية التي يعيشها. فأنا شخصياً أرى الموضوع على أربعة مستويات: الأول يظهر بالانتقال من جيل إلى جيل ويسمّى «العابر عبر الأجيال»، ويتجلى في «شجرة العائلة»، خصوصاً في الشرق الأوسط، حيث الحفاظ على العادات والتقاليد وتكوين العائلة، وهذا الجيل الحديث تكسرت علاقته مع الأجيال السابقة واعتبر أن الأجيال القديمة متخلّفة، ولم يستطع إدراك أن التطور الذي يعيشه هو، ليس سوى نتيجة تراكمية لتطوّر الآباء قبله، ولو لم يكن الآباء على درجة معينة من التطوّر، لما وصل الأحفاد إلى ما هم عليه الآن من تطور. لذلك، كانت نظرتهم قاصرة، إذ تنكروا بشدة لفضل الأجيال السابقة عليهم، وتجاهلوها، حتى أنهم فقدوا انتماءهم الطبيعي الاجتماعي نحوها، فأهملوا سبب وجودهم، وأغفلوا المصدر الحقيقي الذين جاؤوا منه من حيث الوجود البشري أولاً، ومن حيث التطور الحضاري الذي وصلوا إليه ثانياً. وبدلاً من أن يحادثوا آباءهم، اكتفوا بمحادثة الآلة، ففقدوا ذاكرتهم التاريخية أيضاً، وهكذا انكسرت علاقتهم مع الآباء والأجداد. حتى أن الجيل المستقبلي المقبل سيرفض نظرة هذا الحاضر المتطوّر حالياً.
الجيل الحالي فقد ذاكرته الحيوية، وصار يعتمد على الذاكرة التكنولوجية لتخزين لمعلومات، ذاكرة بلا طعم ولا رائحة.
إن الشرط الأساس لاستمرارنا في إنتاج حضارة مستقبلية، يتمثل في التواصل مع الماضي، لأن خطّ الزمن هو خطّ متواصل ومستمرّ لا ينفصل. الحاضر لحظة، وهو خلاصة الماضي الذاهب نحو المستقبل. التطوّر التكنولوجي المذهل والمتسارع سلب من البشر علاقاتهم الإنسانية في ما بينهم، وجعل كل فرد يهرب من هذا الجحيم الأرضي المؤذي والمؤلم، والذي يتّسم بالأنانية نحو «الجنّة» التي ينشدها في عالم إلكترونيّ افتراضي مجهولة عواقبه.
أما المستوى الثاني، فيكمن في العلاقة ما بين الناس والتبادل في سلوكهم. إنّ التطور التكنولوجي النوعي في الاتصالات، سهّل التواصل بين البشر واختصر المسافات والأمكنة، إلا أنه في الوقت نفسه، سبّب البعد والجفاء بين الأفراد، وكما يقول المثل: «البعيد عن العين بعيد عن القلب». فأن تتصل بشخص عبر الهاتف وتسمع صوته أمر غير كافٍ، وأن تتبادلا الرسائل أمر غير كافٍ أيضاً، والمعاشرة اليومية، والانفعالات الطيبة والإيجابية بتلقائية أمر ضروريّ جداً. وهذا البعد جسدياً ثمّ روحياً، انعكس سلباً على العلاقات الإنسانية، إذ أصبح الناس وحوشاً، وصارت الانفعالات وردود الفعل هي التي تحكم علاقاتهم، واختفت العلاقات الإنسانية في ظل عصر السرعة.
المستوى الثالث يتمحور حول الوسيط الآلي في التواصل بين الأفراد، إذ
إنّ التبادل يتمّ اليوم عبر الآلة التي تؤمّن الاتصال وسماع الصوت فقط، أو إرسال رسالة نصّية عبر «واتس آب» أو الـ«sms»، أو عن طريق البريد الإلكتروني. وهذا ما اسميه الحديث مع الغائب، الحديث مع شخص غير موجود فعلياً، لأن الحديث الفعلي يحصل مع الآلة التي حلّت محلّ الإنسان الطبيعي، وأصبحت تعوّض عن الشخص متلقّي الرسالة والشخص مرسل الرسالة أيضاً، وتشكل حاجزاً بينهما، لذلك أصبحنا غائبين عملياً.
كيف تتم هذه العملية، وكيف يمكن للاضطراب أن يتشكل من جرّاء ذلك؟
على سبيل المثال، جعلتنا التكنولوجيا نتحدّث مع شخص غير موجود فعلياً، غير موجود حيوياً، موجود من خلال الصوت والصورة فقط.
وإذا حدث أن تعرفت إلى هذا الشخص في الواقع، ستشعر بالغرابة والدهشة من المفاجأة التي تشكلت نتيجة الفرق ما بين صورة هذا الشخص في الواقع، وصورته في العالم الافتراضي. هذا ما نسميه انفصاماً في علم النفس. بالتالي، صار الناس من خلال التكنولوجيا يعيشون مع شخص غير موجود روحياً وحيوياً. موجود آلياً فقط، خالٍ من الروح، لدرجة أن شريحة كبيرة من الشباب صارت تشبه الآلات، خالية من الروح. ويظهر هذا جلياً من خلال لغة أجسادها وتصرّفاتها. ورصدت في عيادتي عدداً من الأشخاص يعانون من أمراض أو اضطرابات نفسية، نتجت عن عددٍ من القصص أو الروايات التي سمعتها من أشخاص أتوا إلى عيادتي طلباً لاستشارة نفسية، والذين كانت مشكلات الواحد منهم تدور حول ما قرأ في الرسالة المرسلة إليه نصياً أو صوتياً، أي أنه قرأ لي، أو بالأحرى ترجم لي مشكلته مع الشخص الآخر من خلال ما قرأ في الآلة فقط، في «فايسبوك» أو «واتس آب». ولاحظت عدم قدرته على فهم مشكلته مع الشخص الآخر لسوء الفهم الحاصل، فهو يعيش في غربة عن الشخص الآخر نتيجة وجود هذا الحاجز التكنولوجي الذي سبّب أزمة، وسبّب سوء الفهم.
وما الفرق بين الدول العربية والدول الغربية بالنسبة إلى هذه الحالة؟
أتحدث فقط عن الدول العربية والفرد العربي. فالعالم العربي المأزوم، الذي يعيش الماضي، ويعيش التكنولوجيا متناقضاً مع ذاته، وهو بذلك يسخّر التكنولوجيا لخدمة الماضي بدلاً من خدمة الحاضر والمستقبل، وبالتالي ألغى التطور والتقدم من استخدامه التكنولوجيا على أنواعها المدنية وغير المدنية.
ما تعريف الحضارة من وجهة نظرك؟
الحضارة تعني التطوّر، تعني إنتاج الجديد، وهي الحفاظ على منتوجات الماضي وتطويرها في الحاضر الحالي، ثم المحافظة عليها أيضاً إلى أن تفرز في المستقبل تطوراً جديداً… والتطور الجديد الذي تنتجه الحضارة الآن، يتمثل بالتكنولوجيا. وكأن التكنولوجيا هي الابن والحضارة هي الأم.
بلادنا منبع الحضارة، ومنها خرج ابن رشد وابن سينا وغيرهم ممن ما زالت كتبهم موجودة في أهم الجامعات في العالم. إلا أننا لم نحافظ على تراثنا العلمي والثقافي، بل استوردنا الغريب والأجنبي وسخّرناه في قوالب لا تناسب واقعنا وبيئتنا.
إن البريد الإلكتروني، و«آي باد» و«فايسبوك»، وغير ذلك من الوسائط، إنّما هي لتسيير الأعمال وتخفيف عبء الإجراءات الإدراية واختصار الزمن والمكان ولتنظيم برامج الأفراد، لكن عشوائية العرب وفوضويتهم وإساءة استخدامهم هذه الوسائط، زاد من فوضوية برامجهم الحياتية وعشوائيها، وجعل الأفراد بعيدين عن بعضهم.
ما تفسيرك لما يحصل الآن في العالم العربي؟
الثورات التي تحصل الآن في العالم العربي ليست إلا تدميراً لما بُني، وما كان يعدّ لبنائه، أو ما كنّا نعدّ لنصل من خلاله إلى مراحل متقدمة.
إلا أن الكثيرين من المخترعين العرب أظهروا إبداعاتهم وصدّروا اختراعاته للعالم؟
بالتأكيد، إلا أننا عندما ننتج، نصبح معرضين للاغتيال والتهديد والقتل، ولذلك قلت إنّ العرب منذ الأزل كانوا صانعي حضارة، لكن الإرادة العالمية حاصرت علماءنا ومخترعينا وهدّدت حياتهم وحياة عائلاتهم أيضاً. وهكذا فُرض على العرب واقع عدم التصالح مع التكنولوجيا وتسخيرها لخدمة النمو والتقدم في المجتمع، واستهلاكها فقط للسلاح أو الألعاب، أي استعمالها فقط في ما يتعلق بالقشور.
هذه العدوى التكنولوجية انتقلت إلى مجال العمران، فلا تبنى مدن في مناطقنا متكيّفة مع بيئتها ومناخنا، بل تبنى أبراج فارغة من الحياة في الدول الخليجية، كتقليد للأبراج في أميركا. فأخذوا التكنولوجيا والهندسة العمرانية كتقليد أعمى فقط، ونفذوها في بلادهم من دون أن يعوا إن كانت مناسبة لبيئتنا ومناطقنا أم لا.
ما النتائج الايجابية التي خلصت إليها عناوين المحاضرات وكيف نستطيع توظيفها خدمةً للفرد والمجتمع؟
بالتأكيد، بعد إلقاء الضوء على الظواهر التي رصدناها في المجتمع وتحدثنا عنها، استطعنا فهم دينامية كل محور، وآلية حدوثه ومسبباته، وسنوظّف هذه النتائج عبر طبع هذه المحاضرات في كتيّبات، وتوزيعها للاستفادة منها. أما على سبيل تطوير علم النفس عيادياً، فهذا ما يلفت نظر جميع العاملين في حقل علم النفس العلاجي لأن يستوعبوا هذه الظواهر في عياداتهم ليستطيعوا فهم الحالات في مسعى إلى تشخيص الاضطرابات بناءاً على السلوكيات. وهكذا نستطيع بناء فرضية تحتوي تصوّراً متكاملاً لعلاج حالات كهذه.
عندما نعرف أين تكون بؤرة المشكلة النفسية، نستطيع بالتالي معرفة الاتجاه الصحيح لنأخذ بيد صاحبها ونخرجه من المشكلة ونعالجه.
كمعالج نفسيّ، هل تؤمن بالعلاج بالطاقة أو ما يسمّى «ريكي»؟
لا أريد التعليق على ذلك، لأنّ ذلك لا يدخل في علم النفس، وهذه الأنواع من العلاجات يمكن أن تدخل في مجال العلاج بالـ«فيزيوتورابيك»، وأيضاً هناك العلاج باليوغا والاسترخاء، ويسمى أيضاً «بارسيكولوجي»، حتى أنني أرسل أحياناً مرضاي إلى ممارسة اليوغا من أجل العلاج.