في جدليّة الكتابة… المعنى المتحرّك والمحدّد الثابت والخاصّ والعامّ

نصار إبراهيم

الخافية في النص الإبداعي تمارس حضورها بصورة الغياب أحياناً، وأحيانا بصورة الحضور الكثيف والمركز، إنها روح تحوم في فضاء العمل فتعطيه لوناً وطعماً وروحا ًونبضاً لا يكون من دونها… جرّبوا ذلك… أو لاحظوا تطوّر نصوصكم ، ولكنّها لا تحضر مباشرة إلاّ في حالات نادرة، ذلك لأنّ حضورها الملموس والمباشر والدائم يفقدها طبيعتها وبالتالي دورها، بل ويؤّدي بها إلى الهلاك، فالواقع الملموس بقوانينه وقيوده سيواجهها بلا رحمة وسيبيدها، وهذه كارثة. كما أنّ استهلاكها وإغراقها في المباشر سيحوّلها إلى ملموس وبالتالي عليها أن تدفع الثمن، وهذا يفقد الكاتب والعمل الإبداعي أحد أهم ركائز الإبداع وعناصره. ولذلك من الخطأ المميت للنص أو العمل الإبداعي أن يكون موجهاً إلى الخافية، بل يجب أن يبقى موجهاً إلى الناس، بل وعلى الكاتب أن يجاهد لكي يحيط خافياته بذلك الغموض الأخّاذ. هكذا ستلعب دورها في الارتقاء بالعمل الإبداعي بصورة مدهشة. إذن الخافية الأدبية هي قوة دافعة تعطي العمل عمقاً وجمالاً، ولكنها ليست الجهة التي يخاطبها العمل، بل هي القوة أو اللمسة السحرية التي تدفع نحو الكمال وتحرّر المبدع. هكذا بكل بساطة وأناقة. ولذا على الكاتب ألاّ يحاصر خافياته، بل عليه أن يجاهد ويحرص لكي يبقيها حرة طليقة تعطي أجمل ما لديها بعفوية تامة.

في هذا السياق الملزم، على القارئ أن يستنطق النص، وليس مطلوباً من النص أن يستنطق القارئ.

هنا، أي في سياقات هذه العملية المركبة والمعقدة والمتداخلة، تأتي إشكالية المعنى، فالمعنى يولد ويتحرك من خلال حركة الكاتب وخياله وعمق ثقافته وتجربته. إنّه يتطور وفق تطور الكاتب، وأيضاً في ضوء حركة الواقع، ولذلك فهو مفتوح ومنفتح ويجب أن يبقى كذلك على جميع الاحتمالات. إنّ حركة المعنى هي المؤشر الحاسم إلى قدرة الكاتب على مراقصة المعادلات وتحريك المعنى بمهارة إذ يربط بين مجرات النص البعيدة، ومن خلال ذلك يتم اكتشاف الأكوان والربط مع الأبعاد الكونية والإنسانية والشخصية فيكون الانتقال من كاتب ضيق الأفق محصور ومقيد بذاته وهمومه بأفراحه وأحزانه ليحول ذلك كلّه إلى نص إنساني منفتح، من دون أن يفقد خصوصيته. بل هنا يصبح الإبداع جميلاً ورائعاً، ففي سياق حركة المعنى نعيد تفعيل المحدد ونعيد تغذية الخافيات بكامل جلالها وحضورها الغائب. والكاتب/المبدع يقوم بذلك من خلال علاقته بالمحدّد، من دون أن يربكه أو يسيء إليه أو يستفزه، أي أنه يعطي المحدد، ويذهب إلى المحدّد من زاوية نبيلة وجميلة فيعطيه معاني لا يتوقعها ولا يفكر فيها.

تحدث هذه العملية وتجري ويقوم بها الكاتب/المبدع في كثير من الأحيان من غير أن يكون للمحدد علم بذلك. بل الأفضل والأصعب ألاّ يقحم المحدد في النص، فإقحامه يعني تحويل النص إلى حالة شخصية ومباشرة، ما يفقده قوة التأثير والوصول إلى مدياته القصوى، أي يصبح العمل أو النص عملاً محلياً أو شخصيّاً تماماً. وهذه تماماً مشكلة الكتاب في مراحل البداية. إنهم يريدون أن يقطعوا الرحلة بخطوة واحدة. وتحت هذا الوهم لا يجد المبدع بين يديه سوى ذاته وعلاقاته ومحدّده ومفرداته فيدفع بها إلى حقل الاشتباك فيحترق وتحترق كعود ثقاب ثم ينطفئ.

في سياق عملية كهذه نضج وأبدع محمود درويش، أي عندما استجاب وتهيّأ لخوض الرحلة والتجربة حتى أتقن وامتلك وبإبداع مهارة السيطرة على حركة المعنى الهائلة في سياقات المحدد الفلسطيني بحيث ارتقى بقضيته وألمه من قضية خاصة إلى قضية كونية يجد فيها كل مقهور ذاته.

في سياق هذه العملية الارتقائية المتحركة في صيرورة الزمان والمكان والذات والمحيط تتجلى ظلال المعنى، فهي تلك الأبعاد والمعاني التي يكتشفها القارئ سواء كان يقصدها الكاتب أو لا، وهي تتموضع في تلك المساحات السديمية التي تشكل مناطق الحدود الملتبسة حيث يتداخل المحدّد مع المعنى مع الخافيات الأدبية.

هنا يأتي التحدي الأخطر والامتحان الهائل لأيّ كاتب، بمعنى: كيف سيتمكن من تحريك المعنى وجعله يزهر معاني جديدة مفتوحة على المدى وهي تتكئ على محدد قد لا يعلم أصلاً بهذه العملية. وفي الوقت ذاته أن يحافظ الكاتب في النص على فعل الخافية وغموضها بحيث تبقى تحوم كروح مقدسة ما إن تتبدى حتى تغيب… وفي الوقت ذاته ألاّ يغادر النص ظلال معناه، فوظيفته أصلاً هي المواجهة أحياناً مع محيطه وظلاله بهدف التغيير أو بث الأمل والضوء.

الذهاب في هذه التجربة مشروط بالطبع بضرورة امتلاك المهارات اللازمة للعمل الإبداعي وفق خصوصيات كل حقل، مثل مهارة اللغة والنحت والرسم والتصوير والمسرح وغير ذلك.

بعد ولادة العمل الإبداعي وإعلانه لا تعود للكاتب أي قدرة في السيطرة عليه أو ضبطه. إنه يصبح ملك الحقل العام، يتحول إلى مشاع. هنا يأتي دور سوسيولوجيا الأدب والنقد، ومدارس الأدب والتحليل الاجتماعي والنفسي. وهنا ليس مطلوباً من الكاتب في هذا الاشتباك أن يبرّر نصه، بل عليه أن يتفاعل مع محيطه إنما ليست له سلطة في فرض رأيه. فلكلّ قارئ الحق في استجواب العمل وإعادة تحميله بالمعاني الجديدة، وهذا جوهر تطور الرمز واللغة في حركة الواقع الاجتماعي والأدبي، أي أن المتلقي ومن خلال التفاعل الجدي مع النص يعيد اكتشافه بل ويعيد إنتاجه من جديد. إنّه الأساس الذي يعطي لقراءات ومقاربات كل عمل إبداعي إضاءات ومعاني بلا نهاية لها وفق نقطة الارتكاز وزاوية كل قارئ ووعيه وتجربته وهمومه.

في هذه المرحلة تماماً، تصبح حركة ظلال المعنى وحضورها بمثابة الضرورة. بما أن كل عمل إبداعي أو نص هو وليد شرعي لمنظومة «البيولوجيا الاجتماعية» التي نشأ في حاضناتها ورضع من حليبها بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

في هذا المعنى، كانت الكتابة الإبداعية لدى محمود درويش فعلاً وتفاعلاً شاملاً مع الذات،الواقع، الفضاء، اللغة، الوعي، المعنى، المحدد، الزمن، كانت دوماً عملية تغري بالمشاكسة، حالة خلق وولادة مستمرين، بقدر ما كانت تبتعد عن الواقع، كانت تحتفظ، بأناقة بحبلها السُّري معه، يقول درويش: «لا شيء يأتي من بياض… والقصيدة بلا موضوع لا تكون هشة فقط بل مشغولة بالتحديق بنفسها».

ضمن هذه المقاربة يمكن القول إن محمود درويش هو شاعرالانضباط للسياقات، وفي اللحظة ذاتها صعلوك في التمرد عليها، يملك براعة فائقة الحيوية ومبهرة في إطلاق المعاني الجديدة في السياقات المحددة، مولع بإعادة اكتشاف المعاني في التباساتها ومراوغاتها الإنسانية في حركة الزمان والمكان، يذهب إلى النهايات ليعيد وعي البدايات، ويذهب إلى البدايات ليعيد صوغ النهايات، إنه شاعر الاحتمالات المفتوحة، أو لنقل شاعر النصّ المفاجئ، وبهذا المعنى يقول: «الكلمة الواحدة تحمل معاني عدة وتكرارها وتغيير حركة واحدة فيها قد يخلقان معاني مضادة.. هذه الإمكانية تحرض أحياناً على رقص مجاني في القصيدة. جميل أن نرقص قليلاً…».

من أجمل ما أشار إليه في خصوص محاولات حصر النص الأدبي في الملموس قوله: «… أنا أنزعج من شيء واحد، أن تعرف بطاقتي الشعرية بالبعد السياسي… نحن نعيش في مناطق متوترة ومتأزمة أصبحنا فيها رقباء على أنفسنا، فكثرة التعامل مع الرقابة والإدمان عليها قد تحول الشخص إلى رقيب على نفسه، لكن في الشعر يبدو أن الإحساس بوجود رقيب قد يطور جماليات الشعر، وأنا في رأيي إن أي قصيدة يفهمها الرقيب ويمنعها يكون العيب في القصيدة وليس في الرقيب، على القصيدة أن تكون أذكى وأكثر جمالية وحرية، ملتبسة على فهم الرقيب المباشر لها، فالشعر الجميل والشعر الحقيقي هو الذي يعتمد على حركة المعنى وليس المحدد، والذي يتناول الأشياء تناولاً غير مباشر، يستعصي على الرقيب، وربما يحبب الرقيب بالعمل» درويش، الفضائية اللبنانية، 1997 ، والرقيب هنا لا يقتصر على البعد الأمني بل يتخطاه إلى مستوى الخضوع لرقابة السياسي على الثقافي أو القيود الاجتماعية، ما يجرد الأخير من سائر خيارات التجريب والإبداع والنقد الذي يشمل أيضاً تعاسات السياسة وبؤس الواقع الاجتماعي.

صفحة الكاتب: https://www.facebook.com/pages/Nassar-Ibrahim/267544203407374

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى