الجغرافيا ومتغيّرات التاريخ محاضرة لموراليس في الدار البيضاء
استضاف فريق البحث في لغات وثقافات العالم الأيبيري والإيبيروأميركي وفريق البحث في ثقافات البحر الأبيض المتوسط، بالتعاون مع معهد ثيربانتيس في الدار البيضاء، المؤرخ الإسباني الخبير في العلاقات المغربية الإسبانية فيكتور ليسكانو موراليس، الذي قدم محاضرة في كلية الآداب تحت عنوان «مقاربة إسطوريوغرافية لدراسة العلاقات المغربية الإسبانية».
استهلت المحاضرة بمداخلة للدكتور الطيب بياض، أستاذ التعليم العالي في كلية عين الشق في الدار البيضاء، وركز في ورقته في البداية، حديثه عن الجغرافيا ومتغيرات التاريخ، الذي يرى فيهما دوراً مركزياً في رسم مسار علاقة مد وجزر بين الجارين المغربي والإسباني، فيضيف بياض في هذا الشأن، فقبل عبور طارق بن زياد نحو الأندلس كانت العلاقة بين ضفتي البوغاز تتفاوت بين النشاز والتوتر حيناً والهدوء وحسن الجوار أحياناً أخرى. ولما صار الوجود العربي الإسلامي في الأندلس حقيقة وواقعاً حضارياً وثقافياً وعمرانياً استمر التوتر في ظل التعايش، وما إن أفلت شمس الأندلس حتى صار الوجود الإسباني على الشواطئ المغربية واقعاً ملموساً بل ومستمراً إلى يومنا هذا، منذ احتلال سبتة سنة 1415.
حول العلاقة بين الضفتين يرى بياض أنه باستمرار عمليات التموج في هذه العلاقات بعد طرد المورسكيين واحتلال عدة ثغور، والتراجع عن بعضها بحسب الظروف والسياقات، مرت معركة واد المخازن سنة 1578 من دون تداعيات عميقة على هذه العلاقات، رغم أنها أتاحت للجار الإسباني إعادة تموقع جديد على الخريطة الإيبيرية، لكنها بالنسبة إلى المغرب في علاقتها مع هذا الجار يمكن وصفها بما وصف به فرنان بروديل معركة ليبانتي التي سبقتها بسبع سنوات، أي نصر من دون نتائج.
ثم يعرّج الدكتور بياض مرة اخرى في هذه العلاقات إلى حرب تطوان سنة 1859/1860 التي تؤكد فيها عمق التعقيدات في هذه العلاقات وتكرس تمثلاً سلبياً ونظرة دونية متبادلة بين الطرفين فأودونيل رأى، بحسب بياض، في «المورو» الشعب الأنسب لتفريغ أزمة إسبانيا الداخلية، والإخباريون المغاربة الذين نقلوا أخبار هذه الحرب رأوا أنه من غير المعقول أن يُهزم المغرب أمام الإسبان. ذاك كان انطباع صاحب «مخطوط مدريد» الوارد عن محمد داوود في تاريخ تطوان، وما أكده المشرفي في كتابه الحلل البهية إذ قال، مشبهاً هزيمة إسبانيا أمام المغرب في حرب تطوان برجل يتلقى صفعة على خده من امرأة، ونصر الحقير أشد وطأة … كما لو أن ذات سوار لطمتني.
مع بداية القرن العشرين، يرى الدكتور بياض أن المستويات استقامت بين الرباعي الأكثر اهتماما بالمغرب فرنسا، إسبانيا، إنكلترا، ألمانيا عبر محطات، واستقر شمال المغرب وجنوبه في ما يشبه التفويض لإسبانيا بمسميات وأشكال مختلفة للاحتلال بحسب المناطق، ويبقى عنوانه الأبرز المسمى حماية يحتاج إلى تدقيق.
الحصيلة بعد هذا المسار الطويل في علاقات الجوار على المستوى الاقتصادي، يرى الدكتور بياض أنه تمت حيازة مركز الشريك التجاري الأول للمغرب في ظل منافسة حادة على هذا الموقع مع فرنسا، وعلى مستوى الذاكرة جرح كيماوي لم يندمل بعد في الشمال، وعلى مستوى العلاقات الدولية ترنح لكيان انفصالي أراد أن يخرج قسراً من رحم الاستعمار الإسباني لجنوب المغرب.
أما على مستوى العلاقات الثنائية، فيرى بياض أن في العودة إلى ثوابت الجغرافيا ومتغيرات التاريخ التي حكمت العناصر السابقة وتحكمت في توجيه مسارها يفسر كيف أن الندية كانت الميسم الأساسي الذي وسم الوجود الفرنسي / الإسباني في المغرب، سواء قبل فترة الاستعمار أو خلالها أو بعدها. ففي السابق، يقول بياض، تحت الرعاية البريطانية، واليوم تحت المنظار الأميركي. فرهان أن تطأ قدم الرئيس المنتخب في كل من إسبانيا وفرنسا أول الأمر أرض المغرب لكسب حضور أقوى، بغض النظر عن القاطن في المونكلوا أو الإيلزي، أكان يمينياً أو يسارياً، يعني مركزية المغرب في العلاقة الخارجية لكلا البلدين، بل ونوع من الحساسية بينهما في ما يتعلق بالعلاقة معه. ألم يقل رئيس الحكومة الإسباني الأسبق خوسي ماريا أثنار في مذكراته، كلما وصلت العلاقات المغربية الفرنسية أوجها نشعر كأننا بين نارين أو بين فكي كماشة.
ثم أعطى الأستاذ الطيب بياض الكلمة للأستاذ المحتفى به الدكتور فيكتور ليسكانو موراليس، الذي انطلق في محاضرته من اختيار منهجي يروم تفسير هذه العلاقات ومسار تطورها وفهم تعقيداتها المختلفة، انطلاقاً من استحضار البعد الجغرافي وأهمية الجيوبوليتك في تفسير التاريخ، متقاطعاً مع أطروحات كل من فرنان بروديل وإيف لاكوست في كتابيهما حول البحر الأبيض المتوسط والعالم المتوسطي في عهد فليب الثاني وجيوبوليتك البحر الأبيض المتوسط. واختار نقطاً استدلالية في رسم جغرافية هذا التشابك والتفاعل التاريخي، أهمها جبل طارق وسبتة ومليلية وجزر الكناري، قبل أن يسافر عبر الزمن لفهم التفاعلات الحاصلة بين شبه الجزيرة الإيبيرية وشمال أفريقيا الغربي، مستحضراً تعقيدات العلاقة الدولية بين 1902 و 1912 في تحديد مسار المنحى الاستعماري الخاص بالمغرب .
لما كانت الجغرافيا مدخلاً أساسيا بالنسبة إلى الباحث في فهم الاهتمام الإسباني بالمغرب سواء في الشمال أو في الجنوب جزر الكناري ، متوقفاً عند دلالة انهيار الإمبراطوريات، خاصة الاسبانية منها، ومغزى هزائمها وانسحابها من القارة الأميركية، والسعي إلى إعادة التموقع إقليمياً على حساب الجار الجنوبي، مشيراً إلى تعقيدات ما بعد الانسحاب الإسباني من جنوب المغرب.