مكتبة «البناء»

ضمن مقارباته المعرفية، يقدم الدكتور حسن حميد في كتابه «أقمار حاضرة البحر» المنفى العبقري والإبداع حثيث الخطى نحو المعرفة، ليتساقط لباب الأدب من سماء الخيمة، وصولاً إلى سماء الإنسانية، متناولاً لمجموعة كتاب فلسطينيين ومنبئاً برسل الأدب والشعر والمسرح والفكر، مشعلاً نار المقاومة المكلّلة بالفكر والواعية الطريق الوطني الشريف والهدف القومي النبيل، لتوقد رسالتهم أفئدة الجماهير وتفكك تقرنات عقولهم على حد تعبيره.

يعتبر حميد إن المسرح محرض مهم للوعي ومؤجج للهمم وأداة تنويرية للجماهير، ومع تنبه المحتل الصهيوني لخطورته ومحاولاته للحد من انتشاره وطي رسالته التنويرية والحَجْر على فعالياته، إلاّ أنّه لم يستطع أن يوقف الأدباء الفلسطينيين عن الكتابة المسرحية وموضوعها فلسطين والمأساة الإنسانية التي أوجدها هذا المحتل. ويلفت إلى أن النشأة المسرحية قبل نكبة عام 1948 تشبه النهضة في بعض الدول العربية مثل سورية ومصر ولبنان والعراق، موضحاً أن وجود المسارح الملحقة بالكنائس ساهم في أن يكون للمسرح الفلسطيني كتّاب وممثلون وباحثون. ويرى أن مواضيع المسرح الفلسطيني قبل عام1948 كانت اجتماعية ودينية، فالطروحات الدينية كانت بادية في المسارح الكنسية ذات المعطى الاجتماعي التعليمي لافتاً الى أن بين الأسماء التي يمكن الإشارة إليها من كتاب المسرح الفلسطيني آنذاك يوسف الأسير مؤلف مسرحيتي «عاقبة سوء» و «التربية وحكم سليمان». وخلال الانتداب البريطاني في فلسطين وتدفق الهجرات الصهيونية على أرضها بات الموضوع الوطني، بما فيه الحرص على هوية المكان والانتماء، يتجسد في المسرحيات العربية والفلسطينية.

بعد نكبة 1948، بحسب الكتاب، أمسى الكاتب المسرحي الفلسطيني يقدم الأعمال البطولية والوطنية والتاريخية التي تحضّ على العزة والكرامة والثأر والفداء والتضحية، شأنه في ذلك شان الكتاب العرب. ويرى الدكتور حميد أن الأديب الفلسطيني أحمد توفيق عوض من أعلام المسرحيين العرب الفلسطينيين جسّد في عمله المسرحي «الأمريكي» الذي يستعيد الماضي تاريخاً وبشراً وأعلاماً وقادة الواقع العربي بأمسه وحاضره المتشابهين لناحية التذرع بقوة العدو والعجز عن مواجهته، مبيّناً أن ذلك ليس صحيحا ومنافياً للواقع، فمهما بلغت قوة العدو وأياً تكن درجات الضعف فإنّ التاريخ خير شاهد على أن الحق منتصر مهما طال الزمن. ويعتبر أن الفكرة الأبرز في المسرحية هي الاستسلام وقبول المحتل الصهيوني، اعترافاً بجغرافية العدو ووجوده والتطبيع معه، من دون الالتفات إلى الماضي بما فيه من دماء ونكبات وتهجير واغتصاب للأرض والإنسان.

يقف الدكتور حسن حميد في رحلته العقلية باحثاً في الفكر والفلسفة والأدب بمساحات جغرافية عريضة الإبداع، ليحط رحاله في رحاب التجربة الأدبية للأديب الفلسطيني جبرا ابراهيم جبرا، منتصراً في النهاية على مخاوفه وهواجسه التي زرعتها وصايا بعدم الاقتراب من هذا الأديب الموصوف من بعضهم بالخواجة، لكونه منحدراً من طبقة برجوازية في صالونات راقصة الأضواء كثيرة البهرجة. بقراءته هذا الأديب يؤكد على ضرورة القراءة الواعية والابتعاد عن التفكير المسبق، إذ يصطدم بحالة أدبية غنية وفريدة نقلته إلى عالم أدبي مميّز، ساحر المناخ، فقرأ له العديد من رواياته وبينها «كصراخ في ليل طويل» و «صيادون في شارع ضيق» إلى مجموعته القصصية «عرق» وقصص أخرى كتبها عام 1956، فقصة «الغراموفون» وهي مبنية على ثلاث شخوص تحكي صراعاً بينها وتكشف نمطاً اجتماعياً متعدد الاتجاه والرأس والغاية، وتبحث في معيشة أهل القاع ومعاناتهم وأشكال التواصل في ما بينهم.

في كتاب حسن حميد مقاربات معرفية أخرى لكتاب وشعراء وأدباء آخرين مثل يوسف يوسف وحسام الخطيب ورشاد أبو شاور الذين طلعوا أقماراً من القضية الفلسطينية وخلقوا حضوراً عالمياً لهم. والروائي والقاص حسن حميد أحد أبرز الكتاب الفلسطينيين، شغل العديد من المناصب في اتحاد الكتاب العرب، فضلاً عن إدارة الصحف والدوريات، فكان عضواً في المكتب التنفيذي ورئيساً لمكتب النشاط الثقافي لسنوات عديدة. ومن مؤلفاته في القصة القصيرة «طار الحمام» و «دوي الموتى» و«العودة إلى البيت» و«قرنفل أحمر لأجلها»، ومن رواياته «السواد» و«جسر بنات يعقوب» و«أنين القصب»، ومن دراساته الأدبية «البقع الأرجوانية» و«ألف ليلة وليلة» و«الأدب العبري»، وبلغت مؤلفاته أكثر من خمسة وعشرين كتاباً.

آن تايلر تكتب روائيّاً أحزاناً تمزّق الروابط الأسريّة الأميركيّة

آن تايلر كاتبة أميركية مرشّحة باستمرار لنوبل الآداب وتحمل جائزة بوليتزر عام 1988 عن روايتها «دروس في التنفس». ولدت عام 1941 في ولاية مينيسوتا ودرست الأدب الروسي في جامعة كولومبيا. عضو في الأكاديمية الأميركية للفن، كتبت روايتها في عمر الثالثة والعشرين تحت عنوان «عشاء في مطعم المشتاقين للأهل»، نقلها إلى العربية أمين العيوطي وصدرت لدى «دار الأهرام» ، وبلغت تايلر أرفع أمجادها يوم قيل عنها إنها أعظم الكاتبات باللغة الأنكليزية.

يدور موضوع رواية «عشاء في مطعم المشتاقين للأهل»، لتايلر حول ما يحدث من مشاكل داخل العائلات بين أربعة جدران، ويقول الكاتب الأميركي المشهور جون إبدايك «تؤمن تايلر بأن ثمة متعة وغنى داخل كل عائلة». كل واحدة من العائلات التي حكت قصتها في رواياتها العشرين تعتقد الكاتبة أنها حالة مميزة واستثنائية، وأن مشكلتها لا تشبه ما يحدث داخل العائلات الأخرى.

تفترش تايلر مكاناً ما في الظل داخل البيت، مستعرضة شعور أفراد العائلة باستثنائياتهم. تنبش وتستخرج جوهر تلك الشخوص من خلال ضوضائها داخل البيت، وأسلوبها في عرض وجهات نظرهم، المرتبطة بمصالحها الصغيرة وعلاقاتها المتداخلة، باحترافية عالية لمحلل نفسي، كاشفة عن المختبئ وراء السلوك الظاهري. ويقول ليو روبسون الناقد الأدبي في مجلة «نيوستيتسمان«: «إن كان هناك من يقول بوجود تراجع في صناعة الرواية فإن آن تايلر وتوني موريسون وفيليب روث ومارلين روبنسون يكذّبون هذا الزعم إنهم الرأسمال الأدبي والمادي للقراء ودور النشر على حدّ سواء».

ترسم آن تايلر في جميع رواياتها مسيرة الزمن وتأثيره في مصير العائلة التي يجاهد كل فرد فيها، رغم صلة الرحم، على تحسين موقعه على حساب بقية أفراد العائلة. نحن الأشخاص عينهم ساعة جئنا إلى هذه الدنيا، نعيش بالأسماء ذاتها حتى شيخوختنا، لكن الزمن هو الذي يجعلنا متنافرين.

كلام عاديّ وبسيط لكن فيه استثنائية وفرادة، ولا يسع أياً كان كشف تعقيدات تلك البديهية. الكاتبة الحاذقة وحدها تسمع الموسيقى التصويرية وتكتشف أنها تنذر بوقوع حدث غامض. إنّه جوهر الكتابة لديها: الارتقاء بالعادي البسيط إلى الذروة من خلال إدراك أهميته بأدوات تحليل تشبه ما يكشف بها عن الجرائم المختبئة تحت السطح.

هي حوادث مكرورة بالنسبة إلينا نحن الأشخاص العاديين، سبق لنا مشاهدتها في الكثير من المسلسلات. لكن تايلر، من خلال حوار قوي ومؤثر وميلودرامية عالية، قادرة على كشف الدوافع النفسية والتعرجات السرية الدفينة لأفراد غير قادرين، بسبب مصالحهم، على حشر أنفسهم داخل ثوب العائلة الذي يحاول الأب والأم الإبقاء عليه سليماً بلا رتق.

سرعان ما يفطن قارئ تايلر إلى أنها تنهل مصادرها من إرث روائي عظيم وضع أسسه الفرنسيون والروس مثل إميل زولا ودوستويفسكي اللذين حوّلا الرواية إلى كاميرا تصوّر الشخصية، راسمين بأبعاد أربعة مجسماً للفرد في جوانب حياته كافة.

ما يميّز آن تايلر، بخاصة، أنها أدخلت بعداً رابعاً هو الزمن، حينما تُظهر شخصيتي «الأب والأم» وقد لحق بهما الهرم والمرض، مثلما حدث في روايتها الجديدة الصادرة هذا العام تحت عنوان «كبة الخيوط البيضاء»، لدى دار «تشاتو ووندس» في 386 صفحة، وتنسج الكاتبة حوادثها بطريقة تشبه خيطاً أبيض لفّه عامل ماهر على خشبة إسناد الخيط بطريقة متقنة، جاعلة انفلاته أمراً مستحيلاً، فبأناملها المدرّبة جيّداً تسحب الخيط بدربة لا يعرفها سوى من لفّه، وبطريقة لا مثيل لها إلا لدى زولا ودوستويفسكي.

تدور القصة حول عائلة «وستشانك»، الأب «آبي» الذي يقع في حب الفتاة «ريد»، تتذكر الزوجة بعد زواجهما كيف تحابّا وكانا يسكنان الحي نفسه في مدينة بالتيمور عام 1959، وكيف عاشا في البيت نفسه الذي بناه والد الزوج الذي كان يعمل بنّاء، بكدّه المتواصل أيام الكساد الكبير كي يورّثه لعائلة ابنه الذي كان يتمنى له ممارسة مهنة الحقوق كي يصبح محامياً وترتفع مرتبته في السلم الاجتماعي أعلى من والده، لكنه يمارس الآن مهنة والده ذاتها. ولدى الزوجين موهبة رائعة هي إيهام نفسيهما أنهما يعيشان حياة راضية إن لم تكن رائعة، وتنجب العائلة ولدين وبنتين هم «ديني» و«ستيم» و«جين» و«أماندا».

هكذا تؤرخ الرواية لحقب ثلاثة أجيال بمآسيها وأفراحها وأسرارها، وفي كل مرحلة الكثير حول كيف كانت العائلة مجتمعة تجاهد لتحسين قدرها وموقعها في عالم ليس فيه يسر كبير.

تُرسم الحوادث على خلفية شخصيات مختلفة تملأ الكاتبة باختلافاتها جوّ الرواية ولا تترك واحدة لا توليها اعتناءً خاصاً: الأم الحنون التي لا اهتمام لديها خارج حدود البيت، والزوج المكافح الذي رهن أمور البيت لزوجته لإيمانه بقدرتها على إدارة شؤونه بكفاءة، والأولاد الذين يعيشون معاً. لكن المصالح الشخصية تضيّق الخناق على أواصر الأخوة فتسرع الخلافات في التسلل إليهم حتى وهم يعيشون معاً. وبعد ستة وثلاثين عاماً، شاب الأب وهرمت الأم فاجتمعت العائلة خلال لقاء يمثل البؤرة المركزية في الرواية. تتلخص المشكلة الآن في أن الوالدين لم يدخلا مرحلة الهرم فحسب، بل ما هو أسوأ: أصيبت الأم بالخرف والأب بالصمم وبمرض القلب. يعلن الأب والأم معه أنهما يملكان البيت ولكنهما في حاجة إلى الرعاية. بلى، الرعاية وهما يدركان أن لكل شيء ثمناً، وليس لديهما ما يقدمانه سوى الدار التي ستكون من نصيب الذي سيرعاهما. يدرك الأولاد أن الدار ستشكل ليس دعماً مادياً لمن يقرّ بـ«التضحية» فحسب، بل ستشكل أيضاً حرجاً لأنه أشبه بثمن يحصل عليه من يقرر «العمل» لقاء هذا الثمن.

ذاك ما يقرره الابن الكبير عندما «يتطوّع في عمل ظاهره برّ الوالدين، وجوهره الحصول على منفعة لا فرق فيها بين غريب وقريب، رواية تتضمّن الواقع ممزوجاً بالسخرية والمرارة. فأيّ دفء سيبثه الإبن في عمل له حافز مادي وليس تعبيراً عن عرفان؟ لربما سيقول، هذا الذي يُطلق عليه اسم فلذة الكبد، إن أفضل خدمة يقدمّها إليّ والداي أن يسرعا في الموت.

تكشف الرواية حقيقة نوعيّة حول العلاقات بين الناس في أميركا، على نحو يجعلها تاريخاً للأحزان العائلية.

«أفق يتباعد» لأماني أبو رحمة يقرع باب الأدب السايبيريّ

البحث في ظاهرة ما بعد الحداثة من المواضيع الشائكة والمعقدة جداً، لأسباب تتعلق باتساع هذه الظاهرة وتداخل حدودها مع الحداثة والضبابية التي تسود مفاهيمها، خاصة مع تعدّد الآراء التي تتناولها. إلاّ أن الباحثة والمترجمة الفلسطينية أماني أبورحمة تقدم في كتابها «أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة»، الصادر لدى «دار نينوى»، صورة غنيّة وعميقة لأبرز الأفكار والمفاهيم التي تتناولها في ما بعد الحداثة.

يحتوي كتاب «أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة»، لأماني أبورحمة على عدة دراسات أنجزتها الباحثة وترجمات أهمها إعلان السايبورغ لدونا هاراوي. ومن الصعب الإحاطة بالأفكار التي يحويها الكتاب، إذ يجمع العديد من المواقف والتيارات لمؤلفين عديدين، بعيداً عن العادية التي نراها مأخوذة من فرنسوا ليوتار أو جان بورديار، إذ يطرح مفاهيم ما بعد الحداثة وتطبيقاتها في التحليل النفسي، وفي الدراسات النسويّة، وفي الفن، كما يركز على الوضع في ما بعد الحداثي والتداخلات الكثيرة التي أدّت إلى تغيّر شكل المجتمعات وتداخلها، لتبشر بانهيار الحداثة والتأسيس للمجتمعات التي تقف فيها التكنولوجيا والإنسان والحيوان جنباً إلى جنب، ما أدّى إلى تغيّر المصطلحات والمفاهيم المتعلقة بالإنسان والعلم والمعرفة وهيمنة ثقافة الصورة. ويمكن اعتبار أن بداية ما بعد الحداثة كانت في الستينات، ورغم من التقويض الذي خضعت لها السرديات الكبرى في تلك المرحلة وتفتيت المركزية الأوروبية ومركزية الرجل الأبيض وإعادة إحياء الهوامش، إلاّ أنّ ما بعد الحداثة حافظت على مركزين أساسين يتمثلان في ما بعد الحداثة نفسها و«الهولوكوست»، فالأخير جعل من الرجل الأوروبي نفسه ضحية وجلاداً، بحيث انعكس منطق الضحية الذي من المفترض أن يكون مهمشاً، وأصبح الضحية أبيض أيضاً ولا بدّ من وصول صوته. هنا تطرح أبورحمة عدداً من الدراسات التي تناقش الأدب «الهولوكوستي»، واستعادة صوت الضحية، وتتطرق إلى مسألة فلسطين التي حوّلت البشرية كلها إلى مذنبة في حق الشعب «اليهودي» رغم أنها لم تشارك في ما حصل، خاصة الشعب الفلسطيني الذي تمّ اجتثّ من أرضه.

تتطرق المؤلفة أماني أبورحمة إلى الأساليب السردية الجيدة، خاصة تلك المتعلقة بالرواية، وترى أن تقنية «ما وراء القص» هي الشكل المعبّر عن السرديات الجديدة بكونها رواية تحاكم الرواية نفسها، إذ تتداخل المسافة بين الواقعي والمتخيل، وتستخدم أساليب المقاربة التهكمية وتشتت المعنى، واللامنطق والتناص مع روايات أخرى وتدخّل الكاتب نفسه لمساءلة الشخوص والرواية، بحيث يختبر هذا النوع من الروايات تقنية السرد نفسها، ويستدعي ذلك مفهوم «ما وراء القص التاريخي» إذ يستعيد هذا النوع من القص الحوادث التاريخية ويعيد سردها بأساليب جديدة وأشكال روائية تضع الحدث التاريخي موضع المساءلة. وفي ذلك اقتراب من تقنية بريشت في التغريب، إلا أن بريشت كان يعتمد على سردية كبرى متماسكة لتفسير أعماله الشيوعيّة، في حين أن رواية ما بعد الحداثة لا تتمسك بأيّ سردية كبرى، بل ترى أن هناك ثمة حوادث تفسّر وفق منطقها الخاص بالتركيز في ذلك على الفردانية، والتصور الخاص، كما تستدعي مفاهيم التناص واتساعه إذ ترى تقنية «ما وراء القص» التي ترى أن لا نصّ أصيلاً، فكل نص يستدعي آخر في صورة لا نهائية، ما يفتح مجال التأويل على نحو لا نهائيّ في تجاوز لجهود أومبيرتو أيكو في ضبط عملية التأويل هذه.

تتناول أبورحمة الشكل الجديد من الأدب الذي يكون فيه القارئ والكاتب على مستوى واحد، فكلاهما يساهم في تشكيل المعنى عبر أسلوب القراءة المرتبط باستخدام تقنيات الكمبيوتر والإنترنت والوسائط المتعددة، أي ما يعرف بالأدب السايبري. وتشير الباحثة إلى الدراسات النقدية في هذا المجال والآراء المتعددة حيال هذا النوع من النصوص، بالإضافة إلى استعراض المحاولات لإيجاد الجماليات الجديدة المرتبطة بتلك النصوص البعيدة عن النص التقليدي المرتبط بالكتاب والورق.

ترفق الباحثة مع الكتاب عدّة ترجمات، أهمها إعلان السايبورغ 1989 الذي يؤسس لتصور جديد للإنسان وعلاقته مع الآلة، فنقف أمام نموذج بشري يستثمر الآلة بصورة تتجاوز المفهوم التقليدي، لتتحول الميتافيزيقا التقليدية- الأوديبية إلى ميتافيزيقا ما بعد حداثوية ترتبط بالآلة وقدرتها على التغلغل «العضوي أحياناً» في حياة الإنسان، فضلاً عن أنها تختتم الكتاب بمناقشة المفاهيم الأخلاقية المرتبطة بالتطور العلمي والعمل الطبي والإشكاليات التي ترتبط بالعلاقة بين المريض والطبيب والمجتمع في ظل انهيار الخصوصية، خاصة في ما يتعلق بمواضيع زرع الأعضاء.

يقدّم الكتاب رؤية وافية عن أبرز التيارات والأفكار التي تتناول ما بعد الحداثة والتصورات المرتبطة بها، خاصة الحركات التي تتجاوزها كالأدائيّة أو»بعد ما بعد الحداثة» التي يصفها راؤول إيشلمان بـ«الحقبة التي بدأ فيها التنافس المباشر بين المفهوم الموحد للعلامة واستراتيجيات الغلق من ناحية، والمفهوم المتشظّي للعلامة واستراتيجيات انتهاك الحدود المميّز لما بعد الحداثة من ناحية أخرى».

«تحت راية العقاب» لهادي يحمد يفكّ شيفرة العالم الخفيّ للجهاديّين التونسيّين

بأسلوب قصصي شائق يوحي أننا نتابع فيلماً وثائقياً، يبدأ الكاتب التونسي هادي يحمد كتابه بسرد تفاصيل اغتيال السياسي اليساري شكري بلعيد قبل عامين على يد مسلحين إسلاميين، مقتحماً من هذه البوابة عالم الجماعات السلفية الجهادية التونسية في بلد كان ينظر إليه على أنه من قلاع العلمانية في العالم العربي. ويقدم كتاب «تحت راية العقاب… سلفيون جهاديون تونسيون» تفاصيل مثيرة حول نشأة الجهاديين التونسيين ونموها، محاولاً تفسير أسباب انتشارها بسرعة جنونية حتى غدت تونس أول مصدر للمقاتلين الذين يشاركون في الحرب في سورية والعراق. والكتاب ثمرة تحقيقات للكاتب منذ ثلاثة عقود عن الجهاديين التونسيين، راسماً ملامحهم وعقيدتهم وسلوكهم المتبع للالتحاق بما يسمونه «أراضي الجهاد».

الكتاب في 243 صفحة، عبارة عن رحلة شائقة وخطيرة بين عدة مدن في العالم. ويحاول يحمد في كتابه الإجابة عن سؤال مؤرق: ما الذي يدفع ألوف من التونسيين إلى الانخراط في القتل واختيار مسالك مماثلة في بلد لطالما عرف بنمط عيش متحرر قريب أحياناً كثيرة من النمط الغربي. وتظهر إحصائيات حكومية أن نحو ثلاثة آلاف تونسي يقاتلون في صفوف جماعات متشددة، بينها «تنظيم الدولة الإسلامية» ضد الجيش العربي السوري. وأعلن مسؤولون في وقت سابق أن قوات الأمن التونسية اعتقلت مئات المتشددين الإسلاميين المتورطين في قتل جنود من الجيش أو الشرطة أو التحضير لهجمات، وإن عدداً كبيراً منهم عاد من ساحات القتال في سورياً والعراق وليبيا.

منذ الانتفاضة التي أطاحت الرئيس السابق زين العابدين بن علي قبل أربع سنوات برز نفوذ جماعات إسلامية، بينها «أنصار الشريعة»، بعد عقود من القمع والسجن والنفي في حكم بن علي. وصنفت تونس «أنصار الشريعة» تنظيماً إرهابياً بعد اغتيال اثنين من زعماء اليسار التونسي وهجوم على سفارة الولايات المتحدة في 2013.

لا يكتفي هادي يحمد في كتابه بدراسة الظاهرة الشائكة في السنوات الأربع الماضية، بل إن كتابه عبارة عن رحلة زمنية بدأت من أواخر تسعينات القرن الماضي إلى العام 2015. ويبدأ يحمد السرد بتفاصيل اغتيال بلعيد إذ كانت زلزالاً سياسياً حقيقياً في تونس أشعل الضوء الأحمر ونبه إلى جدية تهديدات الجهاديين للديمقراطية الناشئة في تونس، وظلوا قبل ذلك يرددون أن تونس «أرض دعوة» وليست «أرض جهاد». لكن الرحلة في عالم الجهاديين ليست مرتبة زمنياً، فبعد الإشارة إلى اغتيال بلعيد في 2013، يعود الكاتب ليذكر بخروج «الجهاديين» إلى العلن إثر الانتفاضة في أول مؤتمر لهم في تونس عام 2011، قبل أن يعود بعقارب الساعة إلى حكم بن علي ويصور كيف نما هذا الجنين الجهادي في سجون بن علي مستفيداً من امتلاء السجون بقيادات كبيرة غادرت أفغانستان والعراق وغوانتانامو. ويكشف يحمد أن هذه القيادات كانت تبث خطبها في السجون حيثما وجدت تربة خصبة لتفريخ مئات من مشاريع الجهاديين الجدد الذين باتوا ينتظرون خروجهم من السجون كي يتحولوا إلى قنابل موقوتة قد تنفجر في تونس أو خارجها في أي لحظة. ويعود الكاتب أكثر إلى الوراء ليكشف الكثير من أسرار جهاديين ضمن ما يعرف بخلايا أوروبا، مستعيناً بحوارات معهم ونبذ عن كثير منهم ممن سافروا للقتال في الصومال والعراق. وتتوالى في الكتاب الشهادات والقصص المؤثرة والقوية لمقاتلين تونسيين خرجوا من البلاد ولقي أحدهم مصيراً مختلفاً عن الآخر من الاغتيال، أو الاعتقال أو الترحيل وأحيانا الضياع في غابات السافانا الكثيفة على الحدود الصومالية الكينية.

إنّه أول كتاب في تونس يتطرق إلى هذا الموضوع الشائك. ولعل التحقيقات الصحافية التي أنجزها للكاتب، وعمله على مثل هذه المواضيع منذ نهاية تسعينات القرن الماضي، ساعدته في اقتحام عالم ظل غامضاً لعقود. وهادي يحمد صحافي متخصص في شؤون الحركات الإسلامية والأقليات، عرف بتحقيقاته الصحافية ذات الطابع الاجتماعي والسياسي. وأحرز يحمد -وهو مدير ورئيس تحرير مجلة «حقائق أونلاين» – العديد من الجوائز، من بينها جائزة أفضل تحقيق صحافي من جمعية الصحافيين التونسيين عن تحقيقه حول «المحكوم عليهم بالإعدام في تونس». وتضمن الكتاب عديداً من الحوارات المهمة، بينها حوار مع زعيم تنظيم أنصار الشريعة سيف الله بن حسين المعروف باسم أبي عياض وهو المطلوب رقم واحد للسلطات التونسية ويعتقد أنه فر إلى ليبيا. ويقول يحمد إنه أراد إلقاء الضوء على ظاهرة مقلقة وخطيرة وقرّر تناولها بأسلوب قصصي شائق لكي تكون الرحلة هادئة ومريحة، متمكناً من فك بعض رموز ظاهرة شديدة التعقيد اجتاحت بلداً متحرراً. ويري المؤلف أن كتابه قد يفتح نافذة لمعالجة الظاهرة، لكنه يشدد على أن المعالجات الأمنية غير كافية، مطالباً بأن يكون التعامل اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً أيضاً، لعله يساهم في دفع بعض المتشددين إلى مراجعة مواقفهم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى