مختصر مفيد شرق أوسط جديد
العناوين التي حكمت الشرق الأوسط قبيل حرب تموز عام 2006، شكّلت عبئاً على الولايات المتحدة الأميركية. جعلتها تفكر مليّاً بالكيفية التي يمكن من خلالها تغيير هذه العناوين. وفعلت كل ما تستطيع لأجل أن تحقق هذا التغيير. ولم تخف أنها وقفت وراء الحرب في تموز 2006 لإحداث هذا التغيير عندما جاهرت غونداليزا رايس، بأنّ الشرق الأوسط الجديد الذي ترضى عنه واشنطن هو ذلك الذي سيولد من رحم هذه الحرب، لا الذي كان قبلها.
ما قبل حرب تموز كان فشل أميركيّ في العراق، بإحكام السيطرة عليه وتحويله إلى قاعدة للنفوذ الأميركي وفقاً لخطة الحرب على العراق، وكذلك كان الأمر في أفغانستان، فكل شيء كان يقول إن واشنطن على رغم وجود صيغة حكم محليّ يقف على رأيها في التفاصيل اليومية لسياساته، ويصوغ الخطط بالتنسيق معها، فقد كان الحكم بصيغته القائمة غير قابل للاستمرار ما لم تُردَع سورية وإيران عن الحضانة التي يقدّمانها لقوى عراقية يتزايد نفوذها، وبالمقابل كان الوضع في فلسطين بعد الانسحاب «الإسرائيلي» من غزة عام 2005، يشهد انسداداً سياسياً في السعي إلى التسويات، وتصاعداً في المواجهات، والمزيد من علامات الضعف تظهر على مصادر القوة «الإسرائيلية» التي فقدت ركناً هاماً من أركان قوّتها بانسحابين متتاليين من جنوب لبنان وغزّة، بعد العجز عن حماية احتلالها لهما، على رغم كلّ ما لديها من عناصر التفوّق العسكري وقدرة الردع.
كانت خطة واشنطن في حرب تموز 2006 أن تؤدّي الحرب إلى سحق حزب الله، رأس حربة قوى المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، وتأديبه بصورة تتكفل بردع مباشر لتلك القوى ودعوتها إلى التحسب لمصير مشابه، وإلا فالحرب ستستكمَل نحوهم. وفي سياق أهم كانت الحرب، تستهدف كسر شوكة إيران وسورية، وتخفيض سقوف طموحاتهما، وصولاً إلى تفاهمات معهما وفقاً للمعادلات التي ستخلقها الحرب، فقوة سورية وإيران تستند في نسبة كبيرة منها للمكانة التي يمثلها حزب الله في التوازنات العسكرية، مع «إسرائيل»، التي تشكل القوة الأعظم في الحسابات الأميركية العسكرية في الشرق الأوسط، والأهم أنّ سورية وإيران ترتبطان بفلسطين التي تشكل مصر القيمة المعنوية لكل من يتبنى قضيتها بالقياس لكل من يتخلى عنها أو يساوم عليها، فكل شيء كان يقول أنه عندما تعود سورية سورية فقط، ولا تعود سورية المهتمة بفلسطين، وتعود إيران إيرانية ولا تعود إيران المنتمية لقضية فلسطين، يصير التصادم والاشتباك معهما، ممكنَين وميسّرَين ويمكن إدراجهما في التنازعات الثنائية.
خاضت واشنطن حرب تموز وفي يدها كامل عناصر القدرة «الإسرائيلية» ومن ورائها الحشدين الدبلوماسي والسياسي اللذين وفّرتهما واشنطن لحساب هذه الحرب. وجاءت النتيجة مخيّبة للآمال، وعكس التوقعات، وتولّدت معادلات زادت فيها فعالية توازن الرعب الذي نشأ بفقدان «إسرائيل» قدرة الردع الأحادية التي تمتعت بها على مدى أكثر من نصف قرن. وكانت الحرب بمثابة الاختبار الأهم لفعالية هذه القدرة، ومن بعدها لم يعد كما كان قبلها، وما باليد حيلة.
المعادلات الجديدة استدعت من واشنطن أن تتصرّف على نحو جديد. تقايض قبول مرارة بخيار مغامرة، فقرّرت الانخراط مع حليف جديد، هو سياسياً تنظيم الإخوان المسلمين بضمانة ورعاية من تركيا وقطر حيث مرجعية الإخوان، وأمنياً تفرعّات تنظيم «القاعدة»، بضمانة الاستخبارات السعودية، وضبط الاستخبارات التركية والأردنية، حيث ثقافة المجموعات الوافدة إلى المنطقة لإحداث التغيير المرتقب، وتمويلها وتموضعها.
قدّمت واشنطن في هذه المغامرة، الكثير من مصادر موقفها الأخلاقي، بالعداء للإرهاب على رغم كلامها المخالف. وتحميلها لاحقاً حلفاءها مسؤولية هذا التورّط، ويقينها بأنها مطالبة بالتعامل مع نمو الإرهاب كخطر لا يمكن التعايش معه بسبب عدم سقوط سورية وتجذّر التنظيمات الإرهابية بينها وبين العراق. واتخاذهما قاعدة انطلاق نحو الغرب، بصورة جعلت أمن البلاد الغربية في دائرة الخطر. كما قدّمت مخاطرة الرهان على صدقية تنظيم الإخوان المسلمين في تعهّدات تبدأ من ترويض فرعه الفلسطيني الذي تمثله حركة حماس، لجهة إدماجها في مشاريع للتسوية لا تمسّ الأمن «الإسرائيلي»، وتنتهي بالسيطرة على سورية إذا نالت الدعم اللازم للسيطرة على مصر وتونس، ودوراً هاماً في كل من اليمن وليبيا، كما غامرت بما اكتشفت لاحقاً أنه رهان خطير، عندما استجلبت، أو سمحت باستجلاب مقاتلي «القاعدة»، الذين تضعهم اليوم، في رأس أولويات التحدّيات التي يجب أن تتعهّد الحرب عليها.
ولد من رحم هذه الحروب التي قادتها واشنطن على التوالي لسحق حزب الله و«حماس» وإسقاط سورية، شرق أوسط جديد، غير الذي كان يزعجها، قبل حرب تموز 2006، شرق أوسط يتميز بسقوط الدول وكياناتها الوطنية في المنطقة كلها، وفي طليعتها تلك الدول التي كانت تحسب حليفاً للولايات المتحدة ألأميركية، بالفوضى، وتخلخل أجهزة الحكم المركزية لحساب صراعات عرقية وطائفية ومذهبية هيمنت على المنطقة كلها، وصارت الجيوش والأجهزة الأمنية لاعباً ثانوياً على ساحاتها. وفي قلب المشهد تحوّل الشرق الأوسط إلى مركز ثقل عالمي لاستقطاب المجموعات الإرهابية، ومصدر خطر على أمن الغرب كله، كما تميّز الشرق الأوسط الجديد باسترداد سورية عافيتها تدريجياً ومصادر قوّتها بعد صمودها في وجه الحرب الأميركية، بينما تعاظمت قوة حزب الله نوعاً وكمّاً وتعاظمت قدرته الردعية في وجه «إسرائيل» كما أظهرت عملية مزارع شبعا ردّاً على غارة القنيطرة التي أرادت رسم خط أحمر لحماية «إسرائيل» بحزام حدوديّ مع الجولان، وفي هذا الشرق الأوسط الجديد بدا أن حلفاء أميركا فقدوا الكثير من نفوذهم ومصادر قوّتهم. فالسعودية منهمكة باليمن الذي يقلقها، وتركيا فقدت نفوذها وعلاقاتها الطيبة مع إيران والعراق وسورية، و«إسرائيل» فقدت بقايا صورة الدرع التي بقيت لها، وتحوّلت إيران في المقابل إلى الدولة العظمى الوحيدة في الشرق الأوسط، إيران التي تكافئ مكانة الدول العظمى الكبرى، بما فيها أميركا نفسها، حتى صار البحث عن التفاهم مع إيران والاعتراف بقوّتها، وبتعاظم دورها ودور حلفائها، طريقاً وحيدةً لمكافحة الإرهاب وحفظ الاستقرار.
تخوض واشنطن حواراً ينتهي إلى مراحله الأخيرة من التفاهم مع إيران، وتبدي نيّة التفاوض مع الرئيس السوري، وتحذف إيران وحزب الله عن لوائح الإرهاب، وتعلن استعدادها للاعتراف بدولة فلسطين، وتسوء العلاقة الأميركية ـ «الإسرائيلية»، بينما يسيطر الشك على العلاقات الأميركية ـ السعودية، ويحكم التنافر والاتهام بالخداع العلاقة الأميركية ـ التركية.
شرق أوسط جديد يولد من رحم الحربين الأميركيتين اللتين استهدفتا المقاومة وسورية. لكنه شرق أوسط أكثر تسبباً بالصداع لواشنطن من الذي كان قبل حرب تموز 2006، ويعاكس الصورة التي رسمتها لنتائج الحربين. شرق أوسط يشكل السير في حرب ضدّ الإرهاب فيه، سبباً كافياً لتجد واشنطن نفسها شيئاً فشيئاً تقترب من إيران وحلفائها، وتبتعد عن حلفائها السابقين.
شرق أوسط جديد لحلف المقاومة في اليد العليا، يولد من رحم الحروب الكبرى التي قادتها واشنطن.