الاعتراف بالمخرَقة أخطر من الاعتراف بيهودية الدولة

د. إبراهيم علوش

برزت خلال السنوات الماضية ثلاثة اتجاهات عربية في التعامل مع «المحرقة» اليهودية، أوّلها يعترف بها ويروّج لها، وهو اتجاه الليبراليين العرب، والثاني يدعو إلى تجاهلها باعتبارها مسألة لا علاقة لنا بها، وهو اتجاه معظم أنصار القضية الفلسطينية في الغرب، أما الاتجاه الثالث فقد دعا إلى تفنيدها باعتبارها مجموعة من الأساطير المفبركة لأسباب سياسية وإيديولوجية تتصل مباشرة ً بالصراع العربي-الصهيوني وقوة اللوبي اليهودي العالمي.

لكن المشكلة في الاتجاه الذي يعترف بالمخرقة، سواء روّج لها بعد ذلك أو تجنّبها، هي أن أساطير المحرقة خارقة إلى درجة تتّفه كل معاناة سواها، فهي تدور حول فرادة المعاناة اليهودية، ما يجعل القضية الفلسطينية بعد القبول بها مجرد حادث عابر لا قيمة له أمام أهوال المحرقة التي لا مثيل لها والتي يتحمّل العالم كلّه مسؤوليتها بسبب «لا ساميته» المزعومة.

يقول إيلان بابي، المؤرخ «الإسرائيلي» الذي كشف فظائع العدو الصهيوني عشية قيام دولة «إسرائيل» عام 48: «إن المرء لا يجب، ولا يستطيع، ولا يجوز أن يساوي ما بين الإبادة الجماعية والتطهير العرقي. فكلاهما شيءٌ رهيب، ولكن الإبادة الجماعية جريمة أسوأ بالتأكيد من التطهير العرقي، ولذا لا يجوز أن يساوي المرء ما بين المحرقة والنكبة»!

مخرَقة، بمعنى كذِب واختلاق، هي المضمون الحقيقي لأساطير «المحرقة» اليهودية التي يحتفل بها الكيان الصهيوني هذه الأيام، والتي قدم رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس اعترافاً علنياً بها في تلك المناسبة لحاخام كان يزوره في المقاطعة. فالحروب تخاض، قبل السلاح، بالقناعات الفكرية والعقائدية. و»المحرقة» كعقيدة هي أخطر سلاح إيديولوجي وعقائدي تملكه الحركة الصهيونية لتطويع المجتمعات الغربية أولاً، ثم بقية العالم، لأن «المحرقة» ليست مجرد رواية تاريخية أو حدث وقع كغيره في الحرب العالمية الثانية، بل هي في الثقافة الغربية عامة أهم حدث في التاريخ البشري برمّته، وأخطر مجرزة مزعومة عرفها الإنسان، وهي عقدة الذنب المركزية التي كرّسها الصهاينة في الوجدان الغربي لتحقيق الأهداف الآتية بالتوازي:

تبرير نفوذ اللوبيات اليهودية في المجتمعات الغربية وسطوتها ورمي كل من ينتقدها بتهمة «معاداة السامية» على نمط النازيين الذين يفترض أنهم قاموا بتلك «المحرقة»،

تبرير حق الكيان الصهيوني بالوجود نظراً إلى حاجة اليهود الملحة دوماً إلى ملجأ من «لا سامية» هذا العالم، لكي لا تتكرر «المحرقة» مجدّداً، تحت شعار never again!

تبرير بقاء الكيان الصهيوني فوق أيّ قانون أو شرعة دولية أو دينية بذريعة الحاجة إلى ضمان أمن اليهود بأيّ طريقة مشروعة أو غير مشروعة، ومن هنا التسامح الغربي مع الترسانة النووية وغير التقليدية «الإسرائيلية» مقابل أي سلاح غير تقليدي في المنطقة.

تقوم «المحرقة»، كأسطورة، وكديانة وضعية معاصرة يعاقب من «يكفر» بها في عدد من الدول الغربية «الديموقراطية» بالسجن والغرامات والطرد من العمل، على ثلاثة أعمدة مركزية:

الزعم أن النازيين شنوا حملة إبادة جماعية ضد اليهود في ألمانيا والمناطق الأوروبية التي احتلوها.

الزعم أن ذلك أودى بحياة ستة ملايين يهودي في أوروبا.

الزعم أن ذلك تم تحديداً عبر قتل هؤلاء في غرف غاز خاصة.

العنصر الأهم في هذه المعادلة هو غرفة الغاز، لا عدد القتلى المزعومين كما يظن بعضنا. فليست المبالغة بعدد القتلى هي الأهم، بل غرفة الغاز، التي تعطي فرادةً للموت اليهودي، وتحوله إلى «محرقة» ذات أبعاد رمزية لخلاص العالم، أشبه بحرق الكبش كقربان في مذبح الهيكل فداءً للرب.

القصّة برمتها عبارة عن كذبة ملفّقة لأنّ:

السياسة النازية حيال اليهود في أوروبا، أو «الحلّ النهائي» كما يسمّونه، كان ترحيل اليهود من أوروبا، لا قتلهم، ولا يوجد أيّ دليل أو وثيقة، أو أمر موقع من هتلر أو غيره من المسؤولين النازيين الذين كانوا يوثقون أدق تفاصيل عملهم، يتعلق بإبادة اليهود، ولا ذكرت مثل تلك الإبادة بكلمة واحدة في مذكرات تشرشل أو ديغول أو غيرهم من زعماء الحرب العالمية الثانية،

لم يكن يوجد ستة ملايين يهودي تحت الحكم الألماني في الحرب العالمية الثانية، ناهيك عما يقارب مليون أو مليونين بقوا أحياء بعد زوال الاحتلال النازي.

لا يوجد حتى الآن أي دليل أو مخطط هندسي أو قديم أو حديث يوضح طريقة عمل غرف الغاز المزعومة. في الواقع، وهنا بيت القصيد، وأهم جزء ممّا يسمى «إنكار المحرقة»، لا يوجد يهودي واحد مات في غرف الغاز!

ماذا حدث إذن لليهود في الحرب العالمية الثانية؟ مات اليهود مثل آخرين من الجوع والمرض والقصف الخ… ومات بضع مئات الألوف بتلك الطريقة تحديداً من بين 55 مليوناً قضوا في الحرب العالمية الثانية.

إذن لا فرادة في موت اليهود، ولا حملة إبادة، ولا غرفة غاز، وهذا يعني أن العالم ليس مضطراً إلى تحمل عقدة ذنب إزاء اليهود بأي شكل، وأن ذرائع حاجة اليهود إلى معاملة خاصة لكي يتجنبوا «محرقة» أخرى تسقط بالجملة، وهذا هو جوهر «إنكار المحرقة»، التي يجب أن توضع بين مزدوجين دوماً، مثل «إسرائيل»، كناية عن عدم الاعتراف بها.

فالقبول بالأكذوبة يعني القبول بحق اليهود الصهاينة بـ»الأمن والآمان»، وبالتالي بنزع سلاح أعدائهم الاستراتيجي، وبضرورة تفكيك كل قوة مركزية في محيطهم، وبالحاجة الماسة إلى منع عودة اللاجئين إلى ديارهم خوفاً من أن يشكلوا خطراً عليهم، ولإلزامية التنسيق الأمني معهم، وبأن يصبح العالم بأسره مديناً لهم … وبحقهم، على الأقل، ليس بدولة يهودية فحسب، بل بيهودية الدولة!

«المحرقة» هراء. إن مثل هذا القول لا يجرؤ عليه إلاّ المقاومون الحقيقيون في مثل زماننا اليهودي. ألا فلتذهب المخرقة وكل من يروّج لها إلى الجحيم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى