عشر سنوات على «ثورة الأرز» اللبنانية… أو ما تبقّى منها ٢

إعداد وترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق

تناولت الحلقة الأولى من هذا التقرير المترجم، أسماء أشخاص أشارت إليهم كاتبة المقال شارمين نارواني، والذين كان لهم دور بارز في تجييش المواطنين اللبنانيين للنزول إلى الشارع ضمن تظاهرات قوى «14 آذار»، إن كان عبر الشعارات، أو عبر… الدولارات.

أما الحلقة الثانية والأخيرة، ففيها شرحٌ مفصّل لما كان يقوم به هؤلاء، إضافةً إلى آخرين، من لبنان ومن خارجه. نعم، إذ احتاج جهابذة «14 آذار» إلى مدرّبين على كيفية التظاهر، أو ما اصطلح على تسميته في الغرب على أنه نمط «الثورات الملوّنة» الساعية إلى «مطاردة الديمقراطية». ومن مصممي إسقاط الأنظمة في أوروبا الشرقية الذين عرضوا خدماتهم لبلوغ هذه الأهداف… «منظّمة CANVAS» ، التي عملت مع المنشقين في كلّ بلد تقريباً من بلدان الشرق الأوسط. فهي تشجع الشباب الثائر وتحمّسه على الانقلاب على حكوماته خدمةً لمصالح الغرب، كما تعلّمه كيفية استخدام العلامات التجارية، والأعمال الجيدة والتحايل لخلق «تصورات» من شأنها أن تعيد توجيه مشاعر الرأي العام بعيداً من «الوسط الصامت». وأخيراً، تجهّز الأرضية الملائمة لتخريب الشعور القومي، ودعم التمرّد الذي يقود إلى «تغيير النظام». وكان مدرّبو «CANVAS» يصلون إلى بيروت في أوقاتٍ كثيرة من احتجاجات 2005 لتعليم اللبنانيين كيفية الاستئثار باهتمام وسائل الإعلام فضلاً عن حملات إطلاق الثورات وتنظيمها.

وتنقل شارمين نارواني عن الموسيقي اللبنانيّ ميشال ألفترياديس قوله إنّه استطاع الاجتماع بإيفان ماروفيتش مدرب في CANVAS في بيروت، وإنّ المدرّبين أعطوا الخاضعين لورش العمل تلك لائحة من الشعارات التي يجب أن تظهر على شاشات التلفزة الغربية. وأخبروهم أين يجب وضعها، وتوقيت رفعها، حتى أنهم فرضوا شروط حجمها وقياسها.

كما تنقل عن شيرين عبد الله، المساعدة السابقة لجبران تويني تأكيدها أن رجال «CANVAS» قدموا إلى لبنان وقاموا بالدورات التدريبية قبل «14 آذار»، وقبل انسحاب القوات السورية من لبنان.

وتخلص شارمين نارواني إلى نتيجة مفادها، أن على اللبنانيين أن يوبخوا أنفسهم على حملهم الشعارات الملوّنة بالأبيض والأحمر وعلى رفعهم لافتات «الحرية والديقراطية»، وعلى الغرور الذي أصابهم نتيجة بثّ أكثر من ألف محطة تلفزيونية عبر السنة احتجاجاتهم الرائعة تلك. وأنّ ما من ثورة يمكن أن تقوم من دون وجود قائد، رؤية أو برنامج حقيقي للتنمية الوطنية. فهذه أمور تتطلّب الكدّ والاستغراق والعمل والتعب. ويبدو أن هذه الصفات ما من مكان لها في ثوابت القرن الحادي والعشرين.

وفي ما يلي، النص الكامل لترجمة الجزء الثاني من مقال شارمين نارواني:

الأيادي الأجنبية

وفي الوقت الذي تطوّرت فيه أحداث احتجاجات «14 آذار» إلى حدّ كبير، كان هناك عدد من الأجندات الخارجية المرسومة بوضوح، وجاهزة لأن تُطبّق. بعضها موالٍ للغرب ومرغوب فيه جدّاً، والبعض الآخر مناهض لسورية المعارضة. كذلك، فإن فكّ الرباط بين حركة «14 آذار» والعماد عون كان يتردّد صداه بقوة في واشنطن. وقد نصّت إحدى وثائق «ويكيليكس» على «أنّ السفير الأميركي في لبنان آنذاك جيفري فيلتمان قد وصف العماد عون بالشخص الذي لا يمكن التنبؤ بردود فعله أو السيطرة عليها» ـ كما وتعترف السياسة السابقة لقوى «14 آذار»، بأنها تعمّدت إقصاء عون وجعله غير ذي صلة بأيّ من قراراتها وأنشطتها.

وما لبثت أن برزت المحاولات الأميركية لـ«تأطير» هذه الحركة في الداخل اللبناني بما يتلاءم مع سياساتها، مركّزةً بشكل واضح على تقويض الهيمنة السورية وتعزيز الروايات الداعمة لـ«تعزيز ديمقراطية بوش».

وفي مؤتمر صحافي عُقِد في 28 شباط حول دعم الموقع التجاري الرائد لمدينة بيروت، صرّحت وكيلة وزارة الخارجية للشؤون العالمية بولا دوبريانسكي: «إننا نرى في لبنان زخماً متزايداً لثورة الأرز التي توحّد اللبنانيين بجميع أطيافهم من أجل قضية الديمقراطية الحقيقية والتحرّر من النفوذ الأجنبي. فقد انعكست بشائر الأمل في كافة أنحاء الكرة الأرضية، وما من شكٍ في أن السنوات المقبلة ستكون عظيمة جداً لبلوغ أهداف قضية الحرية».

وبعد أسبوعين فقط على تعليقاتها تلك، وفي 8 آذار، نزل أكثر من نصف مليون متظاهر لبناني إلى الشوراع لمعارضة هذا الاتجاه ولـ«شكر سورية» على دورها الريادي في لبنان. لم يعترض المتظاهرون على الخروج السوري من لبنان، بل تركّزت جهودهم الجيوسياسية في مصلحة دور سورية الإقليمي. كما أنهم طالبوا أيضاً بضرورة جلاء «الحقيقة»، ولوّحوا بالأعلام اللبنانية البيضاء والحمراء. فضلاً عن أنهم حملوا لافتات كتب عليها «لا للتدخل الأميركي»، ما لم يعجب عدداً من وسائل الإعلام الغربية ولم يتناسب مع مصالحها الحكومية.

وقد كتبت صحيفة «إيكونوميست» بعد تظاهرة المليون شخص في 14 آذار: «إذا كان هناك واحد من كلّ اثنين من اللبنانيين يسعى إلى التغيير، فإنها نتيجة جيدة، لكن ما من شك في أن وسائل الإعلام قد عملت على تضخيم هذه الميزة». وبرز هذا التضخيم في وسائل الإعلام اللبنانية والخارجية. وكتبت اللبنانية لينا الخطيب عن «تأثير محطات التلفزيون على عدد من عناصر التعبئة على طول الطرقات المؤدية إلى ساحات التظاهر، والتي سعت إلى جلب الجماهير إلى الساحات وخلق شعور الجماعة في ما بينها».

فقد حشدت محطات التلفزيون الجماهير وعملت على تلبية مطالبهم، وهؤلاء بدروهم ساعدوا في إنجاح عمل هذه المحطات التلفزيونية. ومن الطبيعي أن يتمّ تضخيم مثل هذا النوع من الأحداث، لإظهار «قوة الدفع» على أنها أصبحت تتزايد تدريجياً بشكل تصاعدي مع مرور الوقت. ما اصطلح على تسميته في الغرب على أنه نمط «الثورات الملوّنة» الساعية إلى «مطاردة الديمقراطية». وكان أن وظف مصممو إسقاط الأنظمة في أوروبا الشرقية خدماتهم لبلوغ هذه الأهداف: عملت «CANVAS» مع المنشقين في كلّ بلد تقريباً من بلدان الشرق الأوسط المنطقة التي تتضمن أحد أهمّ نجاحات الـ«CANVAS» هذه ، المتمثلة بلبنان، وكذلك أبرز خيباتها، المتمثلة بإيران.

وهكذا، يمكننا أن نستنتج التالي: الـ«CANVAS» هي التي تشجع الشباب الثائر وتحمّسه على الانقلاب على حكوماته خدمةً لمصالح الغرب، كما تعلّمه كيفية استخدام العلامات التجارية، والأعمال الجيدة والتحايل لخلق «تصورات» من شأنها أن تعيد توجيه مشاعر الرأي العام بعيداً من «الوسط الصامت». وأخيراً، تجهّز الأرضية الملائمة لتخريب الشعور القومي، ودعم التمرّد الذي يقود إلى «تغيير النظام».

«غالباً ما يُنظر إلى الثورات على أنها تأتي عفوية»، يقول لصحيفة «Foreign Policy»، إيفان ماروفيتش، وهو مدرّب سابق في «CANVAS»، ويتابع: «يبدو للمراقب أن الناس قد نزلوا للتوّ إلى الشارع. لكن ما نراه، هو نتيجة شهور وسنوات من التحضيرات. إنه لأمرٌ مملّ ومتعب للغاية قبل البدء في استثمار النتائج، أي مرحلة تنظيم التظاهرات الحاشدة أو تنفيذ الإضرابات. واذا كان الإعداد لذلك جيداً وكاملاً، فستظهر نتائجه العملية بعد أسابيع قليلة فقط».

وكان مدرّبو «CANVAS» يصلون إلى بيروت في أوقاتٍ كثيرة من احتجاجات 2005 لتعليم اللبنانيين كيفية الاستئثار باهتمام وسائل الإعلام فضلاً عن حملات إطلاق الثورات وتنظيمها.

وقد قال لي ميشال ألفترياديس، وهو موسيقيّ ومنتج لبناني معروف، وناشط سياسي مؤيد للتيار الوطني الحرّ، وأحد أبرز الناشطين في ساحة الشهداء: «دعاني جبران تويني وطلب منّي ضرورة المشاركة في تنظيم عمل هؤلاء المدرّبين الصرب القادمين لمساعدتنا، يبدو أنهم محترفون للغاية. وبالفعل استطعنا رؤية لمساتهم في كلّ شيء من حولنا، كانوا متخصصين في تصنيع الثورات الملوّنة».

ويقول ألفترياديس إنه استطاع الاجتماع بإيفان ماروفيتش في بيروت، وأنه نقل له الأجواء عن الاحتجاجات اللبنانية منذ بدايتها. «بدأوا يقولون لنا ما يتوجب علينا فعله وما علينا الامتناع عن القيام به. اشتركتُ معهم في اللقاءات الإعلامية وكانت جيمعها لقاءات دولية كانوا هم ينسقون مع أفرادها. كانوا يعرفون بعضهم جيداً. وأصرّوا ـ منذ اليوم الأول ـ على أنه لا يُفترض بنا أن نسمي هذا بانتفاضة الأرز، لأن الغرب لن تعجبه كلمة انتفاضة. وقالوا إن الرأي العربي لن يقدّم أو يؤخر إنه الرأي الغربي الذي نهتم لأمره! ثمّ أخبروا الصحافيين بالامتناع عن استخدام كلمة انتفاضة».

ويكمل ألفترياديس: «أعطونا لائحة من الشعارات التي يجب أن تظهر على شاشات التلفزة الغربية. أخبرونا أين يجب أن نضعها، ومتى نرفعها، حتى أنهم فرضوا شروط حجمها وقياسها. فعلى سبيل المثال، طلبوا من الصحافيين ضرورة تأمين أوقات بثّ مباشرة، في الوقت الذي نكون نحن جاهزين لرفع شعارات معينة عند الثالثة والدقيقة الخامسة مثلاً، كانت العملية برمّتها مدروسة بشكل دقيق».

وهذا هو السبب الذي حدا بألفترياديس إلى عدم المتابعة في عمله مع «CANVAS».

إن ادّعاء «CANVAS» بفضلها في إنجاح الاحتجاجات تلك، يؤرّق شيرين عبد الله، المساعدة السابقة لجبران تويني. فرئيسها، ورئيس جريدة النهار، كان هو وراء وصول رجال «CANVAS» إلى لبنان في نهاية المطاف:

تصرّح عبد الله بسخط: «الزخم كان موجوداً منذ البداية، استقدمنا رجال CANVAS للمساعدة في إبقاء وتيرة ذلك الزخم بالقوة نفسها التي نريدها». فهي تتذكر تويني يجلس مع فرنسيس أبو زيد من «بيت الحرّية» الذي سبق والتقيته شخصياً في مؤتمر «دافوس»، وكان الإثنان يراقبان جموع المحتجين الغفيرة من نافذة المكتب: «قال فرنسيس لتويني علينا الإبقاء على هذه اللحظة من الحماسة والدفق، علينا تدريب هذه الجموع على كيفية القيام بذلك».

تقول عبد الله إن تويني عقد ورشتَي عمل في مكاتبه في دار النهار مع رجال «CANVAS» على مرحلتين في عطلة الأسبوع. لكن الأولى كانت مع إيفان ماروفيتش، الذي اجتمع بالقادة الشباب في خيم الاعتصام، وقد أُحيطت هذه الجلسة بالسريّة التامة لأن الأمن العام كان قد استجوب إيفان واختصر من فترة إقامته في لبنان. «ففي اليوم الأول، درّبهم إيفان على كيفية الإبقاء على الزخم والحماسة، وعلى كيفية المداومة على قرع أجراس عقول الجماهير لإبقاء مثل هذه الأمور في أذهانهم».

تؤكد عبد الله أن رجال «CANVAS» قدموا إلى لبنان وقاموا بالدورات التدريبية قبل «14 آذار»، وقبل انسحاب القوات السورية من لبنان، لكن ألفترياديس يؤكد أنه التقى إيفان قبل ذلك التاريخ بوقت طويل.

لم يُجب أعضاء «CANVAS» على أسئلة كثيرة وجهّتها إليهم عبر البريد الإلكتروني، ويبدو أن إيفان نفسه قد نسي كلّ ما يرتبط بعمله في لبنان. فلدى سؤاله في كانون الأول 2013 عبر «تويتر» عن نشاطه في لبنان عام 2005، وعمّا إذا كان قد تورّط في التدريب على الديمقراطية هنا، أجاب: «لا تدريبات، كانت مجرّد زيارة. كنتُ ضيفاً لدى جبران تويني، التقيتُ أناساً في ساحة الشهداء». واستتبع هذا الاعتراف بتغريدة: «كانت تلك الزيارة اتصالي الوحيد مع لبنان، لم أتورّط في أيّ تدريبات ولا أعرف عن أيّ تدريبات يتحدّثون».

تقول أسما أندراوس: «كانت كلّ المجموعة الأميركية المؤيدة للديمقراطية واحدة على الأرض. علّموا الشباب كيفية التحرّك، إبقاءهم منشغلين ومتحمسين». لكن إيلي خوري لم يكن يرى أن هذا ضروريّ للاحتجاج: «مجموعات دولية كثيرة قدمت للمساعدة. اعتقدوا أنهم كانوا قادمين إلى بلد مثل اليمن فوجدوا جعبتهم فارغة ورحلوا. وCANVAS واحدة من هؤلاء».

النتيجة

قال لي مسؤول كبير في وزارة الخارجية البريطانية قبل بضع سنوات: «المحكمة هي وسيلة مفيدة لإبقاء الإيرانيين على الخط. إذ ليس لدينا الكثير من الأدوات للقيام بذلك».

وهو يقصد بالمحكمة هنا، تلك المحكمة الخاصة بلبنان التي ترعاها الأمم المتحدة والتي تسعى من خلالها إلى محاكمة أولئك الذي اغتالوا الحريري وآخرين مثل سمير قصير وجبران تويني.

وكانت مسألة «العدالة» هذه قد علقت في أذهان اللبنانيين، على رغم عثراتها المختلفة، والتسريبات والاتهامات الباطلة التي طاولتها على مرّ السنين.

والأكثر أهمية من هذا كلّه، عدم توجيه أيّ اتهام للحكومة السورية أو لمواطنين سوريين في قضية اغتيال رفيق الحريري. وعلاوةً على ذلك، وُضع أربعة جنرالات لبنانيين في السجن، ليتبيّن في ما بعد أنهم أبرياء من التهم التي كانت موجّهة ضدّهم في هذه القضية.

ووُجهت الحكومة واستقال رئيس وزرائها أما رئيس الجمهورية فقد ازدراه فريق من السياسيين فتح لبنان أبوابه على مصراعيها لانتزاع تدخل قانوني من القوى الأجنبية الأميركية وتلك المساندة للأميركيين بشكل لم يسبق له مثيل سعى «الإسرائيليون» إلى تدمير بنية المقاومة اللبنانية من خلال الاعتداء العسكري على لبنان في تموز 2006. كان كلّ ذلك غيضاً من فيض وعود بوش بـ«خريطة شرق أوسطية جديدة» فرضت الهيمنة الغربية نفسها بقوة على المسرح اللبناني المتفلّت، من دون وجود أيّ رادع عربي يمنع حدوث ذلك.

والمفارقة، أن نظام 14 آذار الجديد والمؤلف من سياسيين وشخصيات سياسية لم يحدث لها أن قاومت الاحتلال السوري للبنان، وقفت الآن لتركب موجة المطالبة بـ«الحرية والسيادة والاستقلال».

ويقول الصحافي جان عزيز، وهو عضو سابق في الجناح اليمين لـ«القوات اللبنانية»، وناشط فاعل خلال أحداث 14 آذار: «إن الأشخاص الذين بالغوا في إظهار كراهيتهم وعدائيتهم لسورية، كانوا هم أنفسهم من أبرز مؤيدي هذا الوجود السوري وهيمنته على لبنان. يكفي أن نقرأ خطبهم البرلمانية لنتأكد مما نقول. أما الوحيد الذي كان قاسياً في خطابه ضدّ سورية، فهو جبران تويني».

أما الأسوأ في هذا السيناريو الذي نستعرضه، دخول لبنان في نفق الاستقطاب الطائفي القاتل، إذ برز الانقسام العمودي الواضح في البلد بين السنّة والشيعة. وكان «مركز بيروت للأبحاث واستطلاع المعلومات والآراء» قد نشر في صحيفة السفير اللبنانية في عددها الصادر يوم 16 آذار ـ والذي كشف عن بعض الآراء ووجهات النظر المختلفة حول أحداث الساعة ـ طرحاً يشمل مجموعة من الأسئلة المتعلقة بالتدخل الأميركي ـ الفرنسي: اغتيال الحريري المقاومة وغيرها من القضايا السياسية الساخنة. والجدير ذكره، أن المسيحيين والدروز جاءت إجاباتهم متقاربة إلى حدّ بعيد، بينما التقت الإجابات السنية والشيعية على المقلب الآخر للتوجهات. أما اليوم، فقد تراجع هذا التوافق إلى مراحل ضاربة بعيداً في عمق الانقسام التاريخي.

عملت الأدبيات الخاصة بكلّ فريق في السنوات الماضية، على تعميق الشرخ وزيادة الكراهية بين الأطراف السنيّة والشيعية. ليس فقط في لبنان، بل في كافة أنحاء الشرق الأوسط.

يذكّرني هذا الواقع، باستطلاع فرنسيّ أُجري مباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وردّاً على سؤال حول الأمة التي يُعتقد بأنها هي التي تسببت بهزيمة ألمانيا عام 1945، اختار 57 في المئة من الفرنسيين الاتحاد السوفياتي، و20 في المئة فقط قالوا إنها الولايات المتحدة، في مقابل 12 في المئة لبريطانيا العظمى. وبعد مرور سبعين سنة على تلك الأحداث ـ تخلّلها جرعات هوليوودية كبيرة ـ سئل الفرنسيون السؤال عينه. فكانت النتيجة أن قرّر الرأي العام الفرنسي عام 2014، أن الولايات المتحدة كانت السبب المباشر وراء هزيمة الألمان في الحرب العالمية الثانية بنسبة 57 في المئة، ومن بعدها يأتي الاتحاد السوفياتي بنسبة 20 في المئة فقط، و12 في المئة للبريطانيين.

انغمس لبنان في هذه الحسابات الخبيثة والمؤذية بعد مقتل الحريري ـ الذي سعى هو نفسه إلى نزع فتيلها خلال حياته ـ وقد جاء هذا الانغماس في مصلحة الولايات المتحدة وفرنسا، اللتان تحاولان إعادة رسم المنطقة وتشكيلها مع حدّ أدنى من أيّ وجود مقاوِم فيها.

وبعد مرور عشر سنوات على أحداث «14 آذار»، يبقى السؤال الوجيه والدقيق الذي يطرح نفسه هنا: هل أن لبنان هو حقاً أكثر حرية واستقلالية، أكثر ديمقراطية، وحقيقة وعدالة من أيّ وقت مضى؟ هل بقي ذلك التكتّل الذي شهدناه ذاك اليوم في ساحة الشهداء، ولو لساعات قليلة فقط بعد انسحاب القوات السورية من البلاد على قيد الحياة؟

رفض العونيون وغيرهم من المؤيدين لهم ترك الخيم في ساحة الشهداء، بعدما حزم الجميع أمتعتهم وغادروا في اليوم التالي لخروج السوريين من لبنان. يقول إيلي الفرزلي، النائب السابق لرئيس مجلس النواب: «ترك عون حركة 14 آذار، كذلك فعل جنبلاط من بعده. انسحبت سورية من لبنان. واليوم عاد مليون ونصف مليون سوريّ ودخلوا الأراضي اللبنانية بعضهم إرهابيون من داعش وجبهة النصرة. تتدخل كلّ دول العالم في الشؤون الداخلية اللبنانية. فأين 14 آذار اليوم؟».

بينما تسأل نورا جنبلاط: «هل أنا راضية؟ ربما على المستوى الشخصي فقط، لكن ليس على المستوى السياسي. إذ لا أعتقد أننا استطعنا تحقيق ما كنا نطمح إليه ـ أي بناء دولة ديمقراطية وليبرالية حرّة. لم يتغير النظام. ربما نكون قد خُدعنا لأن السياسة عادت وغاصت في زواريبها السايسية الضيقة».

أما إيلي خوري فيقول: «حققنا جزءاً من هدفنا. وللأسف، كان علينا أن نبقي بعض المسائل في أيدي السياسيين، والسياسيون يبقون… سياسيين. كانوا ساذجين في بعض الأحيان وانتهازيين في أحيان أخرى».

كذلك يؤكد خضر الغضبان: «بعد 14 آذار، كان التركيز على إبقاء هذا الزخم موجوداً حتى الخروج السوري من لبنان. وعندما رحل هؤلاء، خسرنا تلك اللحظة لأننا فشلنا في رسم رؤية استراتيجية مشتركة».

ويقول ميشال ألفترياديس: «أردتُ الخروج السوريّ من لبنان، لكنني لم أكن أريد أن تُستبدل هيمنتهم بأخرى أميركية أو غربية، أو أن ينجرف لبنان إلى أتون الصراع في سورية».

وتقول أسما أندراوس: «كانت موجة وركبناها، حققنا أهدافنا، ضغطنا في الأماكن المناسبة، ثم غاردنا… حتى تبخّر كلّ شيء مع الخروج السوري من لبنان. أصبح الخطاب السياسي في اليوم التالي حزبياً خالصاً».

سأل كثيرون من اللبنانيين أنفسهم، غداة انطلاقة «الربيع العربي» عام 2011: «هل كنا نحن حقاً بلد الربيع العربي؟».

أعتقد، نعم. كان لبنان الدولة الأولى في العالم العربي المتحضر الذي أمِل أن يكون شعبه من الجنود الأوائل في مسيرة المطالبة بالحرية والديمقراطية، غير أن إعادة التوجيه بتأثير من النخبة السياسية، ومن القوى الخارجية، التي لم تُعِر اهتماماً يُذكر بمستقبل اللبنانيين، كان السبب الرئيس وراء تغيير بوصلة هذا الشعب.

نعم، على اللبنانيين أن يوبخوا أنفسهم على حملهم الشعارات الملوّنة بالأبيض والأحمر وعلى رفعهم لافتات «الحرية والديقراطية»، وعلى الغرور الذي أصابهم نتيجة بثّ أكثر من ألف محطة تلفزيونية عبر السنة احتجاجاتهم الرائعة تلك.

هل سيفعلها لبنان مجدّداً؟ آمل ألا يفكر بالقيام بذلك. إذ ما من ثورة يمكن أن تقوم من دون وجود قائد، رؤية أو برنامج حقيقي للتنمية الوطنية. فهذه أمور تتطلّب الكدّ والاستغراق والعمل والتعب. ويبدو أن هذه الصفات ما من مكان لها في ثوابت القرن الحادي والعشرين.

منظمة سياسية صربية، أصبحت وحدة فيدرالية في يوغوسلافيا، وشحذت همّة اليوغوسلافيين على الثورة ضدّ سلوبودان ميلوزوفيتش، ثمّ امتهن عناصرها تعليم الشعوب كيفية «القيام بثورات».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى