كيري… ومهازل التصريحات الأميركية؟

د. تركي صقر

أضحت مهزلة التصريحات الأميركية المتناقضة والمتضاربة مدعاة للتندّر والاستهزاء، فما أن يصدر التصريح من مسؤول أميركي حتى «يلحسه» تصريح آخر أو يكذّبه مسؤول آخر من الجهة ذاتها. ولعلّ تصريح وزير الخارجية جون كيري لفضائية «سي بي أس» الأميركية حول اضطرار إدارته للتفاوض مع الرئيس السوري بشار الأسد ونقض هذا التصريح من قبل الناطقة باسم الخارجية الأميركية بعد ساعات قليلة، خير دليل على مهازل التصريحات الأميركية وافتقادها إلى أية مصداقية أو احترام.

ومع ذلك، يوحي تصريح كيري العلني، وبهذه الصورة، لأول مرة بأنّ إدارة باراك أوباما لم تجد بدّاً ممّا لا بدّ منه، فسارع رأس الديبلوماسية الأميركية جون كيري، وفي حشرجة واضحة لا يحسد عليها، إلى «بقّ البحصة»، كما يقال، ونطق بالحقيقة التي حاولت واشنطن التهرب منها طيلة السنوات الأربع الماضية، حيث كان المسؤولون الغربيون، على مختلف مستوياتهم، يردّدون كالببغاء أسطوانة مشروخة حول تنحي الرئيس بشار الأسد. أسطوانة ملّ الناس سماعها وباتت مدعاة للسخرية والتندّر في ظلّ ثبات الدولة السورية ومؤسساتها، وفي ظلّ تراكم البطولات الأسطورية الخارقة لجيشها الوطني الذي أحرز تقدماً باهراً في مواجهة التنظيمات الإرهابية المدعومة، مالياً وعسكرياً ولوجستياً، من عشرات الدول والجهات في العالم، بدفع من الولايات المتحدة، لشنّ حرب عدوانية إرهابية كونية على سورية، لتدميرها وبناء شرق أوسط جديد على أنقاضها.

بالتأكيد، لم تدخر إدارة أوباما جهداً إلا وبذلته لإلحاق الهزيمة بسورية. جربت كلّ الوسائل والأساليب السرية والعلنية لتحقيق هدفها هذا، لكنها فشلت ولم تتمكن من تحقيقه.

كان تصريح كيري الأخير بمثابة إعلان إفلاس لخطط بلاده وفشل جميع محاولاتها، وإقرار بأن لا مناص من التفاوض مع الرئيس الأسد في نهاية المطاف. ورغم ما تبعه من تصريحات متناقضة وتعديلات وتراجعات، فإنّ ذلك لا يغير من جوهر التصريح، وهذه التناقضات، إنْ دلّت على شيء، فهي تدلّ على تخبط وارتباك في السياسة الأميركية لم يسبق له مثيل، كما أنّ المواقف التي صدرت عن الحكومة البريطانية العاجزة والفرنسية المنافقة لا تشكل أية قيمة لأنّها لم تعد ذات وزن في القرار الدولي، ولا تحسب لها أميركا أي حساب منذ زمن، إذا ما وجدت مصالحها في مكان آخر، وقد نعت وزير الدفاع الأميركي الأسبق دونالد رامسفيلد أوروبا بالقارة العجوز التي لا يحقّ لها الاعتراض على السياسة الأميركية، مهما كانت، وذلك عندما اعترضت بعض دولها على غزو أميركا للعراق. حتى أنّ رئيس الحكومة التركية أحمد داوود أوغلو، رغم أنه ليس أكثر من ذيل للسياسة الغربية، «استوطى حيط أوروبا»، كما يقول المثل، وشبّهها بالرجل المريض، تماماً كما كانت حال الإمبراطورية العثمانية في أواخر أيامها.

جاء تصريح كيري صاعقاً لأتباع أميركا ومعارضتها «المعتدلة» بعد سلسلة من المواقف كان أبرزها تصريح مدير وكالة الاستخبارات الأميركية جون بريتان أمام مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، بأنّ الولايات المتحدة لا ترغب في انهيار نظام بشار الأسد، وكانت وسائل إعلام غربية وأميركية عديدة قد دأبت في الأشهر الماضية على حثّ إدارة أوباما والحكومات الأوروبية على تغيير سياساتها إزاء سورية والابتعاد عن لغة تنحي الرئيس الأسد وإسقاط النظام التي ثبت عقمها، ودعت علناً إلى التنسيق مع دمشق لمحاربة «داعش» والتنظيمات الإرهابية الأخرى، مؤكدة أنّ التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن لا يمكن أن يحقق أية نتائج، على صعيد القضاء على الإرهاب، من دون التعاون مع القيادة السورية. وفي السياق نفسه، كان تصريح دي ميستورا أيضاً بأنّ الأسد جزء من الحلّ، وبعده سارعت وفود برلمانية إلى زيارة دمشق وفي مقدمتها الوفد البرلماني الفرنسي، وجرت اتصالات، ولا تزال، من وراء ستار لإقامة علاقات على الصعيد الأمني، لكنّ دمشق بقيت ثابتة على موقفها تربط أية علاقات أمنية معها بعودة العلاقات الديبلوماسية وفتح السفارات.

ولا تخرج المواقف المتناقضة للإدارة الأميركية وحلفائها الفرنسيين والبريطانيين وردود الفعل المتصادمة مع تصريح كيري المثبت بالصوت والصورة، عن لعبة توزيع الأدوار المعروفة وإخفاء المواقف الحقيقية، بسترها وتمويهها بدخان كثيف من التصريحات المتضاربة، لأنّ أطراف الحلف الواحد قد وصلت أخيراً إلى قناعة تامّة باستحالة إسقاط الدولة السورية ونظامها، وأدركت أنّه آن الأوان، بعد أن دخل العدوان الإرهابي الدولي على سورية عامه الخامس، للانسحاب، ولو تدريجياً أو ببطء شديد، من لعبة خاسرة بانتهاج أسلوب الغموض البنّاء الذي طالما تمّ استخدامه لحفظ ماء الوجه.

tu.saqr gmail .com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى