«شهوة النهايات» لصباح الأنباري… تداعيات الاحتلال الأميركيّ في العراق
كتب قاسم ماضي: يحلم الكاتب العراقي صباح الأنباري بأن يؤدي رقصته على نغمته الخاصة به، عبر حوارات سردية مفعمة بالحياة وحب الوطن. يغوص في عوالمنا الإنسانية ليس نحن كعراقيين فحسب، بل للعالم أجمع، عبر شريط ذاكرة متصل بثلاث مسرحيات.
هذا الشريط الذي اشتغل عليه الأنباري ممزوج بمفردة فيها من الألم والحسرة على بيتنا العراقي الذي لامسه المحتل «وهم زناة الليل» حتى أوشكت دموعي تتساقط لهذه الحوارات التي كتبها الأنباري بصدق وحرارة، وهو يفجر مملكته اللغوية وينقب عنها كي يشعل النار التي أحرقت صدورنا في عراقنا الجديد الذي أخذ يتآكل يوماً بعد يوم. صدقاً قلمك أبكاني، لأنك تخوض معركة فنية في ظل هذا الهراء الممزوج بالدم والموت والتشظي لأجساد العراقيين.
هكذا خاطبته ُوأنا أكمل قراءة كتابه ُالذي أهداني أياه من أستراليا إلى ديترويت وعنوانه «شهوة النهايات»، صدر لدى «دار الشؤون الثقافية العامة» في 138 صفحة قطعاً وسطاً. يقال في العرف المسرحي حينما تجلس لتكتب مسرحية أي مسرحية عليك أولاً إعداد مقدمتك المنطقية «أي فكرتك الأساسية التي سوف تبنيها عليها، أو الغرض الذي تستهدفه من كتابتها، وهذا لا ينطبق في رأيي على الكاتب المبدع الأنباري لأنه عجن في روحه وعقله تلك الحوادث وهو صاحب القلم الشريف الباحث عن الجمال، مجسداً من خلال نصوصه الثلاث سمفونية الذات العراقية الرافضة كل الذل والمهانة لأبناء العراق، فكانت شخصية «صلاح العراقي» هي الضمير الحي والصادق في زمن الخنوع لدوائر الاستكبار العالمي الذي أدخلنا أتون الموت والدم والقتل على أيدي جلاوزة القرن الحادي والعشرين، وهو يغصُ، وهنا أعني الكاتب الأنباري المقيم في أستراليا «من مآسي ثقيلة على روحه وقلبه نتيجة ما أصاب أبناءنا من ظلم وتعسف بعد دخول المزنجرات إلى أرضنا الطاهرة، وهي أصلاً مشبعة بالدم نتيجة الحروب التي قادها النظام السابق وترك في أعماقنا التي صدأت من جراء هذه الأنظمة الشمولية التي تعمدت زرع لهيب الحرب لن يتوقف، واضعاً في هذه النصوص الثلاث «مقدمة من أجل شهوة النهايات نيازك متناثرة الوحش والكبش ونصب الحرية صرخات الوطن الجريح على حروفنا الوهاجة، تبلسم جرحه النازف، بضماد الكلمة الطيبة، وتداوي صرخاته بالسكينة، ومنذ الصف الأول كنا نخرج إلى الشارع كلما توقفت تظاهرة ما قرب مدرستنا، فتأخذنا حماس غير مفهومة لمساندة المتظاهرين.
كنا نكتفي أحياناً بالمشاهدة البريئة، لكن ما علق في ذاكرتنا وقبع في أغوارها القصية بملامحه القاسية الدامية، ذلك الخوف الكبير الذي كنا نشعر به، ونحن نرى بأم أعيننا تظاهرتين ما أن تشتبكا حتى يبدأ بينهما عراك دموي، ضرب بالهراوات، وطعن بأسياخ الكباب، ولَكْم بالقبضات الحديدية بوكس حديد وطعن بسكاكين مقصلية أم الياي . كل ما شاهده منذ نعومة أظافره جسده على صفحات هذا الكتاب الممتع والمفعم بالصور والحياة، والحوارات المركبة وفيها من الفلسفة والعمق، مختزلة ومعبرة، وفيها من الإيحاءات والدلالات الكثير الكثير.
لأنّ الأنباري كاتب وناقد وله خزين لغوي وجمالي في اللغة وفنونها ومشتقاتها الجمالية والمعبرة عن ذواتنا، فجر نفسه بحزام ناسف فتطايرت أشلاء الأحياء منا والأموات، وغطت لون الإسفلت حمرة الدم وقطع اللحم المتناثرة هنا وهناك، كانت قطع اللحم المتطايرة تشع لامعة مثل نيازك متناثرة، ثم ارتفع صوت الأنين ممزوجاً بشخير الدم النازف من عشرات الجرحى. أصابتني شظية في الساق، لكني مع ذلك كنت أحاول جرّ من جرحوا الى خارج بركة الدم.
أطلق على أشخاص اسم «محبطون» مثل شخصية «الرجل» أو «الفتى» أو «رجل 1» أو رجل 2، انطلاقاً من مفهوم موريه، أو مثلما ذكرهم المستشرق البريطاني إدوارد وليم لين في كتابه «أخلاق وعادات المصريين المحدثين»، إلاّ أن الكاتب المبدع الأنباري أعطى بصيص أمل في بعض الشخصيات كي لا يغلق علينا جميع النوافذ الموجودة في نصوصه وهي نصوص الحياة، وهو بالتالي يرصد واقع الاحتلال المرير عبر أجساد الممثلين وحوارارتهم الدالة على عسكرة هذا الواقع المتعب وإحيائه عبر الماضي في الحاضر أمام القراء للإقناع، وكذلك للنقد الاجتماعي وربما حتى الوعظي إذ نحتاج في هذه الأيام إلى النصح والحكمة، خاصة لما قدمه سياسيو العراق من وجبات الطائفية والبغض والقتل مساندة منهم إلى الاحتلال المعيب، وهذا التنقيب في ما يجري الآن من حوادث مؤلمة ودموية في عراقنا.
يقول عنه الناقد الكبير الراحل علي مزاحم عباس في كتابه «المسرح الصامت» إن عالم صباح الأنباري عالم عنيف وقاس، يجري في ظاهره وأعماقه صراع ضار لا هوادة فيه، ولا تتورع القوى الشريرة الغامضة عن ارتكاب أفظع الجرائم من اغتصاب وقتل في سبيل ترويض الأخبار، ولا يداني صباح الأنباري أي كاتب آخر، ينفرد بموقفه من الناس والأرض والأخلاق موقفاً صارماً حاداً، وقاسياً، لكن المرء يحس بأن المرارة التي تغلف مواضيعه فيها حلاوة الإدراك وعذوبة الحب، وتلك رسالة لم تبلغ إلاّ القلة، وعلينا أن نقول إن هذه المسرحيات الثلاث يجب أن تخرج إلى النور عبر تجسيدها على خشبة المسرح، وعلى دائرة السينما والمسرح أن توزعها على مخرجين ذوي كفاءة وباع في الإخراج المسرحي كي تقدم على المسرح الوطني، وهي دعوة إلى بقية الفرق العراقية والعربية.