مأزق السلطة الفلسطينية والخيارات الشجاعة…!
سومر منير صالح
القضية الفلسطينية تاريخٌ كتب بالدم العربي المشترك، تآمر عليها بعض العرب، كما تآمر عليها أكثر الغرب، استمدّت جذوتها من اجتماع العرب على مركزيتها، وأضعفها تشرذم المسارات التفاوضية العربية، وتحوّلت إلى صراعٍ على شكل السلطة الفلسطينية، بعدما كانت نضالاً لاسترجاع الأرض الفلسطينية المحتلة وحقوق شعبها في الشتات والمهاجر.
ولمن لا يتذكر نشأت السلطة الفلسطينية الراهنة بموجب إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الموقت في العام 1993، ولكن بحلول 4 حزيران 1999 نشأت حالة من الفراغ القانوني نتيجة لما تنص عليه «اتفاقيات أوسلو» ذاتها من أنّ مؤسسات الحكم الذاتي المجلس التشريعي والسلطة التنفيذية واللجان المشتركة ينتهي أجلها القانوني بانتهاء الفترة الانتقالية في هذا التاريخ، إلا أنّ الطرفين الفلسطينيّ و«الإسرائيليّ» تجاهلا هذه الحالة واستمرّت المؤسسات في عملها، وتبنّت السلطة الفلسطينية طرح «حلّ الدولتين» بتوصيةٍ أميركية عبر أسلوب المفاوضات الماراتونية عديمة الجدوى الحقيقة، كأسلوب عملٍ في مواجهة التعنت «الإسرائيلي» وسلب الحقوق الفلسطينية، وهو ما أدّى في النهاية إلى تراجع في مركزية القضية الفلسطينية على المستويين العربيّ والدوليّ.
فاقم هذا التراجع اندلاع أحداث «الخريف العربي»، ليأتي نجاح نتنياهو في الانتخابات الأخيرة 17 آذار 2015 ليضع نهايةً لأوهام سياسة المفاوضات تلك، فيعلن صراحة أنّه لا يريد «حلّ الدولتين»، وأنّه متمسكٌ بإعلان «الدولة اليهودية الإسرائيلية»، في مقابل عدم الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ورغم الخلاف الظاهر مع إدارة الرئيس اوباما، إلا أنّ نتنياهو ليس بهذا الغباء، فهو يعلم تماماً أنّ الولايات المتحدة هي الحليف الاستراتيجي لـ«إسرائيل»، إلا أنّه يعوّل كثيراً على موقف الجمهوريين في سياساته تجاه الفلسطينيين والإقليم العربي، ويعوّل على نجاحهم في انتخابات الرئاسة الأميركية العام المقبل.
نتيجة هذه الظروف الاستثنائية اجتمع المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية في 5 آذار 2015 وأوصى بوقف التنسيق الأمني بين قوات الأمن الوطني الفلسطيني وبين «إسرائيل»… وكانت لهذا الحدث مقدّماتٌ وهواجس، تمثلت في تعثر التوجه الفلسطينيّ إلى مجلس الأمن لإنهاء الاحتلال «الإسرائيليّ» لأراضي العام 1967، بينما شكّل احتمال فوز نتنياهو في الانتخابات المبكرة، أحد أبرز الهواجس، وهو ما تحقق فعلاً، الأمر الذي يحمل معه مخاطر تتعلق بإقرار «مشروع قانون يهودية الدولة في إسرائيل»، بما يعرّض القضية والدّولة الفلسطينية إلى مأزقٍ تاريخيٍّ، هنا يمكن طرح عدة خطوات من شأنها إعادة القيادة الفلسطينية إلى طريق النضال الوطنيّ مجدداً، تعود معها القضية الفلسطينية إلى مركز اجتماع العرب رغم خلافاتهم، وبوصلة لمن أضلّ الطريق، لتعيد رسم سياسات ممالكهم التي أعماها البترودولار وأنهكها التآمر على بقية العرب، تبدأ هذه الخطوات بتعليق كلّ الاتفاقات الموقعة مع الجانب «الإسرائيليّ»، وذلك استكمالاً لخطوة وقف كافة أشكال التنسيق الأمنيّ مع «إسرائيل» بتاريخ 5/3 /2015، بما يضع «إسرائيل» في مأزقٍ أمنيّ، ويعجّل في اندلاع انتفاضةٍ فلسطينيةٍ ثالثةٍ، تعيد إلى القضية الفلسطينية زخمها الشعبيّ والدوليّ.
ثانياً: إعادة بناء استراتيجيةٍ وطنيةٍ فلسطينيةٍ تتضمّن استعادة الحركة الوطنية الفلسطينية منظمة تحرير، سلطة وطنية، أحزاب وحركات مقاومة… لطابعها بوصفها حركة تحرّرٍ وطنيٍّ، والمزاوجة بين تيار المقاومة العسكرية والتيار السياسيّ كأسلوبٍ مستجدّ في العمل الوطنيّ الفلسطينيّ.
ثالثاً: على السلطة الفلسطينية بصيغتها الراهنة أن تتجاوز الضغوط الدوليّة، والإسراع في سياسة الانضمام إلى المنظمات والاتفاقيات الدوليّة لوضع حدّ للانتهاكات «الإسرائيلية» لحقوق الفلسطينيّين، وفي مقدّمها: الانضمام إلى البروتوكول الملحق باتفاقية مناهضة التعذيب والتي تؤمّن آلياتٍ دوليةٍ عمليةٍ لتأكيد انطباق الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب وحظره، والتوقيع على البروتوكول الأول الملحق بالعهد الدوليّ للحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966، والذي سيؤمّن حق الأفراد والجماعات الفلسطينية اللجوء إلى الوسائل الدولية لوقف الانتهاكات «الإسرائيلية» لهذه الاتفاقية…
رابعاً: وكنتيجة للنهج العدائيّ المستمر للولايات المتحدة الأميركية تجاه الحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطينيّ، رغم تبني الرئيس أوباوما خيار الدولتين، ضرورة إعادة النظر في صيغة الرباعية الدولية المشرفة على عملية السّلام بين الفلسطينيين و«الإسرائيليين»، وإشراك أطرافٍ دوليةٍ فاعلةٍ تستطيع ممارسة ضغوط جدّيةٍ على الطرف «الإسرائيليّ»، كمنظمة دول «بريكس» مثلاً…
وإذا لم تفلح هذه الخطوات في استعادة القضية الفلسطينية كأجندةٍ أولى إقليمياً ودولياً، تمهيداً لمسار نهائي جدّي يعيد الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينيّ، يتوجب على السلطة الفلسطينية القائمة التلويح بورقة حلّ السلطة لأنّها ستكون سلاحاً فعّالاً لاستعادة الزخم الدوليّ لهذه القضية، فالجميع يخشى الفراغ في السلطة الفلسطينية، واتجاه الوضع الفلسطينيّ نحو الانفجار الكامل ضدّ «إسرائيل»، نظراً إلى غياب البدائل والرؤية السّياسية عن شكل السّلطة الحاليّ.
يبقى تذكير الرئيس أبو مازن بأنّ الرئيس الراحل ياسر عرفات استشهد وهو محاصر في قصره الرئاسيّ، إلا أنّ حصار القيادة الفلسطينية زاد من شعبيتها حيث مثلت المسيرات والتظاهرات التي شهدتها مدن وقرى ومخيمات فلسطين استفتاءً للقيادة الفلسطينية، ووجهت صفعةً قويةً لحكومة شارون العام 2002، فإذا ما أقدمت القيادة الفلسطينية على خطوةٍ مشابهةٍ وجرى حلّ السلطة الفلسطينية في مقابل تنبنّي استراتيجية حركة التحرّر الوطني مجسّدةً بمنظمة التحرير الفلسطينية بعد إجراء تعديلات على بنيتها التنظيمية والعسكرية، ستحقق تلك القيادة جملةً من المكاسب الاستراتيجية أهمها :التخلص نهائياً من أكبال وقيود اتفاقيات أوسلو والتي أضرّت بالقضية الفلسطينية، وفرض وقائع جديدة ميدانيةً وسياسيةً، تكون أرضيةً قويةً وصلبة في حال قرّرت «إسرائيل» الرضوخ نتيجة الآثار المحتملة لحلّ السلطة واندلاع الانتفاضة الثالثة.
وعلى القيادة الفلسطينية أنّ تحسم أمرها وأن تقود شعبها للنضال مجدّداً، فالانتفاضة الثالثة قادمةُ لا محالة، وستكون أولى تداعياتها حل السّلطة الفلسطينية الراهنة، لأنّها انتفاضةٌ ضدّ عدوّ ظالم اعتدى على الأرض وانتهك المقدسات، وانتفاضةٌ ضدّ نهجٍ تفاوضيٍّ هزليٍّ عديم الجدوى الحقيقية.
أخيراً… ليس من قبيل المصادفة إسقاط أنظمة تونس وليبيا ومصر واليمن ومحاولة إسقاط سورية والجزائر والعراق مع بقاء ممالك عربية غرقت في التطبيع السريّ والعلنيّ مع «إسرائيل»، وهنا لا ندافع عن أحد، فهنالك مطالب شعبيةٌ محقةٌ لشعوب تلك الدول، لكن إنْ فعلتها القيادة الفلسطينية ستعرّي الحكام الجدد، وتفضح المؤامرة على القضية الفلسطينية، وستنتصر لقوى المقاومة التي دعمت القضية الفلسطينية، فتاريخ القضية الفلسطينية كتب في دمشق والقاهرة وبيروت وتونس ولم يكتب في الرياض أو الدوحة…
باحث بدرجة الدكتوراه