مسرحيّته «العُمي» تُعرض على الخشبات الفرنسيّة… موريس ماترلينك يستكشف مناطق النفس الأشدّ ظلمة
يدرج اسم البلجيكي موريس ماترلينك 1862- 1949 غالبا ضمن أنصار التيار الرمزي، سواء في أشعاره مثل «براثن حامية» حيث الأجواء الساحرة والخطاب المبني على مستويين، أو في مسرحياته مثل «الأميرة مالين» المفعمة بالغرابة والصمت وتقطّع الخطاب وغياب الروابط المنطقية بين الجمل، أو مثل «العُمْي» التي عرضت حديثاً في مركز «مئة وأربعة» في باريس.
رغم فوز موريس ماترلينك بجائزة نوبل عام 1911 هو البلجيكي الوحيد الذي حصل عليها حتى الآن ، لم يكتب له الانتشار الذي يستحقه عن مسرحه، وله من الأعمال ما دفع بعض نقاد تلك الفترة أوكتاف ميربو مثلا ، إلى تشبيهه بشكسبير في خلق عوالم محدّدة تأخذ المرء إلى مناطق الروح الأشدّ عتمة ووحشة، فترى زوابع غريبة مما يصعب نطقه والتعبير عنه، ومخاوف قديمة كما في الحكايات الشعبية، والسبب بحسب البعض نجاحه في الأوبرا، خاصة في »بيلّياس ومليزاند».
مسرحية «العُمْي» التي أعدّها دانيال جانّوتو في البداية للمسرح الاستوديو الذي يديره في ضاحية فيتري سور سين، قبل عرضها حديثاً في مركز «مئة وأربعة» في باريس تعكس فن ماترلينك في رمزية لغته وقوة إيحائه. وتروي مأزق مجموعة من العمي في حالة انتظار على جزيرة لا تسمى وفي غابة غير محدّدة تقع على مسافة غير معلومة من مأوى، وفي وقت ما بين قدّاس العصر عند المسيحيين وغروب الشمس. وأخرجهم من المأوى أحد الرهبان، لأن الشمس، على ما يبدو، كانت مشرقة. لكن مع هبوط الليل بدأ البرد يزحف والجوع يعتصر الأمعاء. لا بدّ للراهب من أن يعيدهم من حيث أتوا، لكنه ذهب بحثاً عن الماء وتأخر. وفي انتظار عودته لم يبق للعمي إلاّ أن يعتمدوا على بعض الأصداء البعيدة لناقوس، وزقزقة عصافير، وروائح بعض الأزهار للاستعلام، أو على طفل مبصر لم يتعلم الكلام بعدُ، يستشعرون من بكائه أن شيئا يحدث. غير أن الراهب هلك بينهم. أي أن حل العقدة يقدّم منذ الوهلة الأولى للمتفرج، المبصر، في غفلة من العمي، فهم تائهون ولا يعلمون أنهم تائهون.
في هذا النص الشاعري الذي يحمل رغم بساطته الظاهرة رؤية فلسفية عميقة، يكمن الفعل الوحيد في اكتشاف تلك المجموعة من البشر الذين يعيشون الأحاسيس نفسها، أنهم عزّلٌ في عالم لا يفهمونه، وأنهم يوشكون على الهلاك. حقيقة مرعبة تُطلق في لحظة عارية صادمة من دون أن تلقى جوابا، كمثَل من يصرّح لشخص آخر «ستموت»، هذا كل ما في الأمر.
من خلال هذه المسرحية يمكن أن نستدل على خصائص ثلاث تميّز كتابة ماترلينك: أولاها الاقتصاد في الحدث، فالمسرحية يمكن إختزالها ببضع كلمات، والمتفرج يوضع مباشرة في صميم الحدث، وليس للشخوص الذين يبشرون في وجه من الوجوه بأبطال بيكيت لهم سوى الانتظار. بذلك لا تكتسي المسرحية أهميتها من تعاقب الحوادث بل من خلق عالم غير مسبوق على تخوم الحلم والواقع. وثانيتها خلق مناخ، فالمسرحية تزاوج بين الانغلاق الجغرافي في جزيرة والانحباس السيكولوجي الذي يسببه العَمَى، على نحو ينعكس في اللغة نفسها، إذ فقدت دورها كمحرّك للحوادث، وأضحت وصفية، خيالية، إذ ينبعث الحرف من أعماق الكائن في ثوب استعارة، تحاول أن تقترح ما لا يمكن تسميته، وينأى الحوار عن الحديث المتناسق الذي يستند فيه الردّ عادة إلى كلام سابق ضمن السياق نفسه. وثالثة تلك الخصائص، النظرة التأمّلية التي تتكشف في لغة شاعرية من دون أن تقع في التجريد، ما يجعل المسرحية، رغم غياب الحدث وتماثل سمات أبطالها، قادرة على طرح السؤال عن جوهر الحياة نفسه، كما في قول أحدهم: «عبثًا جَسَسْنا الجدرانَ والنوافذ، نحن لا نعلم أين نعيش».
يحوي نص المسرحية كلاماً متبادلاً بين مكفوفين، ما يفرض الاستئناس بوصف الأشياء الملموسة، والتساؤل الدائم، والتعبير الشفوي البحت عن القلق والحيرة وجميع الأحاسيس التي لا يمكنهم نقلها بالإشارات والمواقف. ومجمل الحوارات تكوّن وحدة متجانسة خاصة بعالم المكفوفين، ما يجعل العتمة وحتى الظلمة أفضل طريقة لإخراج المسرحية، كي يجد المتفرج نفسه في وضعهم، فيتحسس بدوره ما يتحسسون، ويطرح الأسئلة التي يطرحون ليتحد معهم في تراجيديتهم، وتنتفي بذلك مسألة التغريب، وتمسي المسرحية نصاً ينظر إليه من الداخل لا من الخارج.
اختار دانيال جانّوتو ألا يعالج أيّ شيء مرئي، لا الأزياء ولا الأضواء ولا الديكور، فالخشبة غارقة في غسق أغبش، والممثلون يخالطون الجمهور، والأصوات مجهولة المصدر، تندّ من هنا وهناك، لتستثير في المتفرج المغمض العينين فهمه لسلوك فئة من البشر، بلا هوية وبلا تاريخ، تسعى في سيرورة العالم، وسط الطبيعة، بلا غاية، لتلقى مصيراً لم تختره.