الاستيلاء على «الإخوان المسلمين»… بين قوانين ماركس وابن تيمية
نارام سرجون
عندما كنا نقرأ في الديالكتيك الماركسي قوانين التحوّل الاجتماعي كنا نعتقد أنّ النظرية الماركسية تدرس المجتمع الذي يتحوّل بحتمية تاريخية نحو الاشتراكية والشيوعية الأممية كقدر لا يُردّ لأنّ للتحوّلات الاجتماعية قوانينها الصارمة مثل قوانين الفيزياء والكيمياء… ولم يكن يخطر في بالنا أننا سنستعين يوماً ببعض… اللوحات والقوانين الماركسية في دراسة أقدار «الإخوان المسلمين» كحزب وكحركة اجتماعية ثيولوجية… فكلما تأمّلت في صيرورة «الإخوان المسلمين» تذكرت قانوناً ماركسياً ذهبياً هو قانون اقتران التحوّلات الكمية بتحوّلات نوعية وهو مبدأ مشتق من الفيزياء… أيّ مثلاً كلما زادت درجة حرارة السائل زادت إمكانية تحوّله من حالة سائلة الى غازية أيّ تحوّل الماء الى بخار بزيادة درجة حرارته الى أن تصل الى الغليان … والمجتمع يشبه سائلاً يتعرّض لضغوط سياسية وظروف اقتصادية تتسبّب في تحوّله وانقلابه الى مجتمع آخر بايديولوجية جديدة… وكان الماركسيون اللينينيون يرون أنّ كلّ التغيّرات الرأسمالية تجبر المجتمع في النهاية على أن يتحوّل تلقائياً الى الشيوعية… حيث هي نهاية التاريخ البشري بوصول الإنسان الى السعادة الاشتراكية والعدالة الشيوعية! لكن نظرية ماركس تحطمت وبدلاً من ذلك تحوّل البخار البروليتاري المتصاعد الى ماء بارد… ووصل التاريخ الى نهاية مغايرة تماماً لما توقعته الماركسية… وأصرّ فوكوياما على أنه رأى تلك النهاية المغايرة التي تتجلى بالوصول الى السعادة الليبرالية الديمقراطية الغربية النموذج… وكأنّ فوكوياما كان يسخر من ماركس بإعلانه نهاية التاريخ في الاتجاه المعاكس تماماً… واياكم أن تتخيلوا أن ماركس وفوكوياما كانا يتجادلان حول نهاية التاريخ في برنامج «الاتجاه المعاكس» للمهرّج فيصل القاسم، لأننا نتحدّث عن نظريتين عملاقتين وليس عن كبشين أو ديكين أو راقصتين تتعاركان أو قبضايات حارة الضبع… ولأننا نتحدث عن عقلين جبارين وليس عن مشفى للمجانين العرب يبث حوارات المجانين على الهواء مباشرة بإشراف مهرج المجانين…
ولكن قانون ترافق التغيّرات الكمية بتغيّرات نوعية هو ما بدأ ينطبق على حركة «الإخوان المسلمين» التي تتعرّض لضغوط شديدة نتيجة إخفاقات شديدة دراماتيكية، حيث يبدو «الإخوان المسلمون» في أسوأ أيامهم… وهم لذلك سيطرأ عليهم تغيّر نوعي شاؤوا أم أبوا… فقد خسروا أكبر رهاناتهم وصفقاتهم التاريخية على الإطلاق… فهم خرجوا من تاريخ مصر السياسي وقاموسها الاجتماعي الى غير رجعة… وتدحرجوا في تونس الى الزوايا المظلمة حيث بدأت عمليات التحنيط لهم… وغنيّ عن القول إنهم في سورية لم تعد لهم خبزة ولا أمل في مستقبل السوريين الى الأبد… بل انّ المجتمع الحاضن لهم في سورية قد تسبّبوا بكارثة اجتماعية له، حيث تشتت بين المنافي والمخيمات والمناطق المحاصرة والتي تموت تدريجياً من ناحية النشاط السكاني الحيوي وحرمان أبناء تلك المناطق من التعليم الذي كان سيشكل رافعة لقواهم الاجتماعية مستقبلاً… ولم يبق لـ«الإخوان المسلمين» سوى قاعدة في تركيا تتعرّض نفسها لظروف قاسية وتحديات عنيفة في العمق لا يبدو انّ المستقبل القريب سيحمل أخباراً طيبة لها…
«الإخوان»… ولحن النهاية
ولذلك تأتي اعترافات «الإخواني» أحمد منصور بترهّل الحركة، واتهامها بالاختراق من قبل «سي أي آي» ليس من قبيل إعلان التوبة، ولكنها محاولة سخيفة يائسة لإعادة تعويم الإخوان بعد غرقهم في الفوضى الخلاقة… وكلامه مجرّد حركة دعائية لتنظيف التنظيم مما علق به من كوارث وفضائح ومحاولة لرتق الثقوب في ثوب الحركة «الإخوانية» الممزّق الذي يكشف أعضاءها الحميمة التي لم تعد عذراء ومليئة ببقايا الرذيلة… وهي كذلك محاولة لإنقاذ سمعتها بالقول انّ كلّ الكوارث التي تسبّبت بها كان بسبب اختراقها بمؤامرة وليس بسبب سوء طبعها وطباعها وأخلاقها الدموية اللصوصية… ولكن لا شيء يغيّر من الواقع الذي يقول بأنّ «الإخوان المسلمين» حركة تعزف لحن النهاية بالشكل الذي اعتدنا عليه لعقود… إلا أنها نتيجة التحوّلات الكمية الهائلة التي تعرّضت لها فإنها في بنيتها بدأت تبحث عن تغيّرات نوعية… وهنا يمكن فهم التقارب السعودي التركي… والإصرار السعودي على التقارب مع مصر…
فهناك من يريد أن يرث حركة «الإخوان المسلمين» المنهكة التي تشبه مشروعاً مفلساً لكن رأسماله لا يزال مثيراً لشهية المستثمرين في المزادات العلنية للسياسة… والحركة لا تمانع في انتقال التركة إلى مالك جديد وراع جديد وسيد جديد، الا أنها تفضل أن تبيع نفسها للمالك الجديد وفق صفقة تبادل منافع… ولكن من سيكون أفضل من الراعي السعودي؟
السعودية وبرسم صهيوني ماكر دخلت سابقاً الى العراق واستولت على حزب البعث العراقي بعد سقوط بغداد… فقد تنبّهت الصهيونية الى أنّ سقوط البعث عن الشجرة في بغداد لا يعني موته بل سقوطه في سلة أخرى… والخوف كان أنّ هذه السلة ستكون السلة البعثية السورية لقربها الايديولوجي منه وهو خيار إجباري طبيعي، وقد تجلى باحتضان يونس الأحمد الشخصية البعثية العراقية من قبل البعث السوري… لذلك كان لا بدّ من تلقف البعث العراقي في السلة السعودية الوهابية عبر استمالة عزت الدوري الى الرعاية السعودية، رغم ان مملكة آل سعود هي التي سهّلت إسقاط البعث العراقي وحكم السنة… ثم تلا ذلك التلقف للبعث العراقي التدفق الى المثلث السني بالمال السعودي الكثيف وحركة التبشير والوعظ والاستفادة القصوى من الاحتقان الذي تسبّب به اعدام الرئيس صدام حسين، وظهور الشيعة على انهم يستولون على حق السنة في الحكم دون أيّ ظهير أو سند في العالم سوى السعودية الأم الرؤوم للعالم السني المظلوم… وهنا ظهرت قوة قوانين ماركس الاجتماعية بأنّ التحوّلات الكمية تترافق بتغيّرات نوعية… فزيادة كمية التحوّلات في كلّ الحياة السياسية والاجتماعية العراقية رافقها تحوّل كبير في نوعية الايديولجيا السائدة في الأنبار معقل حزب البعث والرئيس العراقي الراحل صدام حسين… فتحوّل البعثيون الى سلفيين بسرعة كبيرة… وهو ممرّ إجباري نحو الوهابية… التي انتهت الى «داعش» الحالية…
والسعودية قامت بنفس السيناريو في لبنان سابقاً عند زرعها لمرحلة رفيق الحريري الذي قام بعملية تحويل الطاقة الإسلامية السنية في لبنان الى فرع وهابي يوازن التيارات الأخرى ويعتبر ذراعاً سعودياً في لبنان تمّ استثماره فوراً عند الطلب…
اليوم سقط الإخوان في مصر… وهم لا يزالون قوة كامنة ما في المجتمع… ولذلك تجد السعودية في ذلك فرصة ناردة لها لأنها ستستطيع وبسبب الظرف «الإخواني» الصعب في مصر أن تقوم بعملية استيلاء على الحركة وامتصاص طاقاتها لضمّها الى الحركة الوهابية… وتكوين ذراع سعودي وهابي عبر ابتلاع «الإخوان المسلمين» في المعدة الوهابية وتحويلهم الى تيار سلفي يشاطر الحكم الحالي السياسة عبر تيار «مستقبل» وحريري مصري سيظهر رويداً رويداً… لأنّ محاربة «الإخوان» من قبل الدولة المصرية لا تعني محاربة السلفيين… كما انّ حرج السيسي من تحديد النشاط الديني السلفي في مصر سيكون واضحاً وهو الذي يطلب من ممالك النفط فيعطى…
رسائل تهديد للسيسي
التحرك السعودي تجاه مصر ليس قادراً على استدراج قادتها الحاليين الى معارك السعوديين مع إيران أو مع اليمن رغم رسائل التهديد الواضحة للسيسي في ذبح المصريين الأقباط في ليبيا ورغم الابتزاز الاقتصادي للمصريين… فالعملية كانت لإرهاب السيسي من انّ ميله نحو المحور الآخر سيعني إرسال «داعش» اليه في قلب مصر وأنّ عليه الاستجابة لشروطهم… ولكن السعوديين يدركون أنّ السيسي يعرف يقيناً أنه لا يستطيع على الإطلاق التوجه الى اليمن إلا بشكل رمزي… ودرس عبد الناصر لا يزال ماثلاً أمامه… فعبد الناصر لا يزال يُلام على تورّطه المباشر في المشكلة اليمينة عسكرياً… كما انّ السيسي يدرك انّ ثورته على محمد مرسي قامت على خطأ قاتل لمرسي بإعلانه النية في التورّط في النزاع في سورية وخوض الحرب نيابة عن الآخرين… ولذلك لا يبدو ايّ سياسي مصري قادراً بعد اليوم على ان يأخذ جندياً مصرياً واحداً خارج حدود مصر للقتال نيابة عن أحد أو من أجل معارك الآخرين… ومن هنا يستطيع كلّ مراقب أن يستنتج أنّ السيسي لا يستطيع حتى أن يحارب في الخليج ضدّ خطر إيراني مزعوم، ليس لأنه لا يوجد ايّ احتمال لغزو إيران للخليج فقط… بل لأنه لا يقدر علناً على بيع دماء جنوده من أجل أيّ ثمن وإلا فانه سيسقط معنوياً… لكنه قادر على تصدير الكثير من الكلام السياسي والمواقف التي لا تلزمه بأيّ شيء مهما حاول إظهار مشاركته في الصراعات التي تخوضها السعودية… ومع هذا فإنّ الخطر الكامن هو أنّ السعودية تنفق كلامه داخل مصر وليس خارجها…
فمن يتابع الإعلام المصري يجد أنّ هناك توجيهاً للرأي العام المصري على أنّ هناك خطراً إيرانياً على مصر نفسها… ففي كلّ يوم يطلع علينا لقاء أو تصريحات أو محللون يصورون إيران تحاصر مصر وتتسلل اليها عبر السياحة وعبر الزيارات المدنية والمشاريع، مع نسيان «إسرائيل» نهائياً وخروجها من خريطة الأمن القومي المصري… وهذه لا تدلّ إلا على رائحة إعلام سعودي، خاصة انه بدأ يتحدث من جديد عن خطر شيعي مزعوم حتى أنّ توفيق عكاشة الذي كان يهاجم «الإخوان» بدأ ودون سابق إنذار بمهاجمة السيد حسن نصرالله بعنف والتحريض على الشيعة، فيما شارك الأزهر بحملات تحريض بحجة أنّ أهل تكريت يتعرّضون للقتل رغم أنّ «داعش» هي التي تحتلّ تكريت وكان حريّاً بالأزهر منطقياً أن يشجع على استئصال «داعش» وهو الذي ثار لذبح «داعش» للمصريين الأقباط في ليبيا… لكن الغاية النهائية من هذا التسلل السعودي الإعلامي تحت سمع السيسي وبصره هي الاستيلاء خلسة – ودون انتباه الدولة المصرية – على تيار «الإخوان المسلمين» المصريين الذين سيتسرّبون بسرعة الى التيارات السلفية الوهابية كملاذ آمن مسموح به رسمياً خاصة أنّ الخطاب المذهبي عموماً سيجذب هذه التيارات بسرعة وهي التي تبحث عن معركة تفرغ فيها احتقانها وتعوّض فشلها في الانضمام الى معركة تحرز فيها انتصارات… وهذه التيارات السلفية ستحوّل ايران عدو السعودية بسرعة الى العدو الأول لمصر… ومن هنا نجد توفير السعودية الغطاء الواقي لقطر ضدّ مصر في مجلس التعاون الخليجي رغم انّ قطر هي عش «الإخوان المسلمين» المعادين لمصر… وفي هذا إشارة تعاطف… وتحاول التقارب مع تركيا كإشارة غزل لـ«الإخوان المسلمين»، لأنّ تركيا هي ايقونة «الإخوان المسلمين»… وكذلك ظهرت ميوعة الموقف السعودي في عدم تحمّس السعودية لضرب «الإخوان» الليبيين من قبل السيسي أو لتشكيل قوة دولية لهذا الغرض… وهذه الرعاية غير المباشرة ستشكل بالتدريج قوة ضاغطة معنوية كمية لخلق تغيّرات نوعية في جسم «الإخوان المسلمين» المثخن بالجراح والإخفاقات، مما يفيد السعودية في وضع يدها على حركة «الإخوان المسلمين» المصرية من الداخل لتمارس السياسة لاحقاً على طريقة تيار المستقبل اللبناني… وتتحرك بإشارات سعودية… ويصبح السيسي من بعد ذلك مشلولاً سياسياً ومسيّراً مثلما كان ميشال سليمان رهينة لتيار المستقبل… وهذا التغيير في جسم «الإخوان المصريين» تطبيق للمبدأ الماركسي القديم ترافق التغيّرات الكمية بتغيّرات نوعية … اي تحوّل الجسم «الإخواني» الى جسم وهابي…
وهذه التجربة مرّ بها «إخوان» سورية الذين بعد تشتيتهم اثر معركة حماة فإنّ كثيرين منهم لاقوا ملاذاً آمناً في السعودية التي قامت بإعادة تأهيلهم عقائدياً، وإعادة انتاجهم كقوة وهابية في تيار «الإخوان المسلمين» السوري، وهو ما حصل ونجده في النزعة الوهابية القوية جداً لدى «الإخوان السوريين» الذين ذابوا بسرعة بين «الجيش الحرّ» و«جبهة النصرة» و«القاعدة» و«داعش»… وهي عملية سهلة جداً لأنّ الجذور المشتركة للحركتين الإخوانية والوهابية كثيرة… وانْ وجدت بعض التفاصيل الصغيرة الخلافية…
لا أحد يستطيع أن يتوقع كيف ستنتهي اللعبة بين السيسي وبين السعوديين الذين يريدون دخول بيت السيسي وغرفة نومه والإمساك به وبعنقه، فيما هو يريد أن يلاعب اللصوص بذكاء على طاولة قمارهم وعبثهم يضعون فيها أموالهم التي مثل الرز على الطاولة ويثملون بالوعود والأناشيد ويعدهم فيها بأطايب الكلام والتصريحات و«مسافة السكة» دون أن يتحرك في اية سكة… فهو يدرك انّ السعودية غير مغرمة بالمصريين وبمصر… وهو يدرك أنّ المراد أن يستجيب للضغط والمشاركة في حروب السعودية البعيدة عن اسرائيل … ولكن السعودية تدرك انه أيضاً غير مغرم بها مثل معظم المصريين الذين لم ينسوا طعنات السعوديين لهم… وكلّ المؤتمر الاقتصادي المقدّم إلى مصر مشروط ظاهرياً بشرط واحد فقط هو ابتعاد مصر عن إيران وسورية والعراق وتيار المقاومة وهو شرط إسرائيلي أيضاً… لكن هذا الابتعاد كلما طال زاد من حدة الورطة المصرية… لأنه إذا كان هناك من خطر على مصر خارجياً فهو «إسرائيل» وليس إيران… ولكن الخطر الداخلي على مصر هو خطر سعودي باستيلاء مبرمج ومدروس وبتنسيق أميريكي إسرائيلي على حركة «الإخوان المسلمين» كي لا تتلقفهم جهة أخرى… وهذا سهل جداً على السعودية وصعب جداً على ايران… وعندها ستتمّ تربيتهم وهابياً بسرعة ولن يمكن لجمهم لأنه سيتمّ حقنهم بالمذهبية والإقصاء والكراهية للآخر الى حدّ الإفناء والذبح ولن يمكن التحكم بسلوكهم واندفاعتهم… وقد يستفيق المصريون قريباً ليجدوا أنه انبثق منها سعد الحريري بنسخة مصرية وتيار مستقبل مصري يشبه تيار المستقبل اللبناني الذي يتحرك بإشارات سعودية، والذي يسبّب فشل ايّ نهضة في مصر، ويكون مستعداً لخلق اية ازمة وحتى لإعلان إماراته… يقول لهم:
وما أنا إلا من غزية ان غوت… غويت وان ترشد غزية أرشد.
واذا كانت النظريات والقوانين الماركسية لا تزال قابلة للتطبيق ولو جزئياً فإنّ على المصريين الاستفادة من قانون نفي النفي الذي وضعه ماركس… حيث المشاعية تنفيها العبودية… والإقطاعية تنفي العبودية… والرأسمالية تنفي الإقطاعية… والرأسمالية ستنفيها الاشتراكية كما اعتقد … لأنّ قانون نفي النفي الذي يجب ان يكون في العقيدة السياسية المصرية هو أنّ المذهبية تنفيها الوطنية… ولكن الوهابية تنفي الوطنية… ولا يمكن إنقاذ الوطنية الا بخلق نفي للنفي الوهابي… وهذا يترك في يد النخب المصرية… والقيادة المصرية… وخاصة… الرئيس السيسي… لإنقاذ مصر قبل فوات الآوان…