اتجاهات

نظام مارديني

كلما يعود المراقب إلى الحديث السياسي والثقافي العراقي يكتشف أنه في المنطقة الساخنة ذاتها، وأن كثيراً من السياسيين يصرون على البقاء خارج أدبيات الدولة، وبعيداً عن مرجعيات الديمقراطية التي تحدد آليات التعاطي مع مفهوم الدولة، بوصفه مفهوماً صيانياً، وليس مرجعية للعصاب كما كان يرى «ابن خلدون» لأن الدولة الحديثة عابرة لهذا العصاب، وداخلة ضمن أطر بنيوية تقوم على أساس المزيج بين الجماعات، وليست خاضعة لجماعة معينة.

والنظر إلى ثقافة ما وسياسة ما تختلف من حال إلى حال، ومن جهة إلى أخرى، لأن طبيعة هذا النظر يعكس الوعي الخلافي إزاء ما تحمله السياسة والثقافة من معطيات وتمظهرات، وهو ما يمكن ملاحظته قبل الانتخابات التشريعية العراقية التي أجريت في الثلاثين من الشهر المنصرم.

ثمة كثير من المفارقات تستوقف المراقب لهذه الانتخابات في مقدمها تلك الفوضى العارمة بالشعارات الطائفية والعرقية، وفي التزاحم على أعمدة الكهرباء والساحات والجدران، وهو أمر أضفى مزيداً من الإرباك عند العراقيين، والتشويه في وجه بغداد الذي تربكه أساساً العوازل الكونكريتية التي وضعت لمواجهة مفخخات «داعش» وأخواتها الإرهابية.

وربما كان حُلم العراقيين واندفاعهم لصناديق الاقتراع هو ضرورة محو جرح الذاكرة العراقية المنغمسة بسواد الأمس المظلم، ومحاولة صنع الغد بيد الأمل الذي بدأ يشيخُ بعد انتظار جديد يبدو شبه مستحيل، وقد مرت 11 سنة من السنوات العجاف إلا من ارتكاب الفظائع والفضائح السياسية، خصوصاً بعدما تكشفت الأقنعة التي غطّت الوجوه الكالحة التي شاركت في العملية السياسية، والتي مدّت يدها لتقف مع الإرهاب، خلال السنوات الماضية، تحت ذريعة الدفاع عن حقوق الإنسان، وتحت مظلة مجلس النواب، ومن خلال اللعب على الوتر العرقي والطائفي بل المذهبي البغيض، ما دفع قائمقام قضاء الخالص، عدي الخدران، إلى القول، إن «هناك نواباً في ديالى أخطر من داعش على وحدة المحافظة».

لا شك في أن العلاقة بين الطائفية والعرقية من جهة، والمواطنة من جهة ثانية عكسية. أي كلما ارتفع منسوب مياه إحداهما انخفض منسوب مياه الأخرى. فإذا تصاعدت حدة الطائفية في بلد، ضعفت المواطنة، والعكس بالعكس. إذا خفتت الطائفية، تعززت المواطنة. أيهما أولاً؟ لا يهم فالعلاقة بينهما جدلية. إحداهما تؤثر بالأخرى. في بلد تصعد فيه قيمة المواطنة تتعزز وتتراجع الطائفية وربما تختفي، وفي بلد تضعف فيه المواطنة وتتراجع، تتقدم الطائفية وتسود.

وإذا كانت الطائفية من مخلفات عصور ما قبل الدولة الحديثة، فإن المواطنة من شروط الدولة الحديثة، بالإضافة إلى الديمقراطية والمؤسسات والقانون والعلم الحديث. بوجود الطائفية لا يمكن بناء الدولة الديمقراطية. تتعطل كل اشتراطات بناء الدولة المدنية الحديثة إذا سادت الطائفية.

نقول هذا الكلام لنعيد النقاشات إلى واقعيتها بعدما أسفرت الانتخابات عن تقدم رئيس الوزراء نوري المالكي في معظم المحافظات ما سيدفعه إلى قيادة حكومة غالبية تطبيقاً لمفهوم الديمقراطية الصحيحة ورفضاً للديمقراطية التوافقية كما أكد على ذلك المالكي.

كانت الانتخابات مفصلية في تاريخ العراق الحديث، ويعول عليها كثير في حصول تغيير جذري في المشهد السياسي وتحقيق نقلة نوعية في الأداء الحكومي الذي امتاز خلال السنوات الماضية بكونه أداءً متدنياً بسبب التأثير الخارجي، وتحديداً السعودي والقطري والتركي، وتعامل بعض الكيانات الداخلية مع هذا الخارج كحصان طروادة، تقود التنظيمات الإرهابية وتوجهها ضد قيام الدولة، فالحاقدون على اختلاف أصنافهم يلتقون بهدف واحد شرير هو تعطيل الدولة عبر تكريس التخندقات الطائفية والعرقية. وفي ضوء هذا الواقع اندفع العراقيون نحو الإدلاء بأصواتهم في سعي منهم إلى التخلص من هذه الكيانات المرتبطة بالخارج من جهة، وللتضييق على التنظيمات الإرهابية وإغلاق بوابات الريح أمام إجرامهم الدموي، وذلك ما كان ليتم إلا بالأصابع البنفسجية وصناديق الاقتراع!.

إذا كان الماضي خلافاً وصراعاً وخصومات، فإن الحاضر عند تشكيل الحكومة العراقية الجديدة يجب ألا يكون مصالح وأموالاً ومنافع متبادلة. لأن المستقبل لن يكون إلا وريثاً شرعياً لفكرة المواطنة التي يتوق إليها العراقيون!

من شأن العراق أن يهبَ العطاء منذ الأزل، فما زال الحرف الأول للكتابة تشهد له الأمم جميعاً منذ عهد سومر حين عُرفت الكتابة أولاً ثم انتشر عطاؤها إلى أرجاء الكون.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى