اليوم العالميّ للبلاستيك

جورج كرم

«اللبنانياذا»، على وزن الإلياذة، أو عظمة لبنان بالنسبة إلى محيطه، بدعة غير موجودة إلاّ في عقول بعض «الشوفينيين» اللبنانيين من الكتّاب مثل مي المر وسعيد عقل، الذين تحتل أسماؤهم وكتاباتهم الموقع الرسمي الإلكتروني لـ«اللبنانيين المقيمين في «إسرائيل» … » ولا عجب في ذلك. زد على الطين بلّة «الأسطورة اللبنانية» التي تربينا في المدارس والبيوت أيضاً في معظم الأحيان على فصولها في كتب التاريخ، وفي كتب الجغرافيا في ما يتعلق بموضوع المياه، ومنها أن «لبنان» بلد غني بمياهه، والأصح القول إن لبنان يعتبر من «البلدان» الوحيدة بين جيرانه الذي لا يعاني نقصاً في موازنة المياه. وهذا العرش الوهمي الذي «يعنطز» عليه «لبنان» سوف يزول بعد عشر سنين أو أكثر قليلاً، بحسب دراسات قامت بها شركات خاصة، نتيجة ازدياد عدد السكان، لينضم «لبنان» بذلك إلى قافلة الدول المتصارعة على هذا المورد الحيوي والاستراتيجي في المنطقة. والواقع أن «لبنان بلد الماء»، مثلما أفهمونا، لا مياه شفة فيه توفرها الدولة لنا، والمقيم في الخارج ، الغرب خاصة، يعرف تماماً أن الناس هناك يعتمدون على أيّ مياه تخرج من الصنبور أو «الحنفية» كمصدر أساسي لمياه الشفة، ولا تتوافر لدى سكان الدول المتطورة في معظم الأحوال مياه للاستعمال وأخرى للشرب كما اعتدنا نحن في بلادنا، مع الإشارة إلى أن أسواق البلاد المتطورة لا تخلو من وجود قناني مياه معدنية وما إلى ذلك لمن أراد إنفاق ماله كي يتمتع بمنظر قنينة مياه ما غريبة الشكل تشبه عادم السيارة الأشكمان مثلاً وغيرها من أشكال وغرائب وألوان على مائدة الطعام في منزله.

في بلادنا اعتاد الناس شرب الماء حصرياً من القناني البلاستيكية من إنتاج الشركات الخاصة، وما أدراك ما في داخل القناني البلاستيكية تلك؟ خاصة من المواد المسرطنة التي تدخل المياه المعبّأة من البلاستيك نفسه حين تتعرض لعوامل الحرارة الخارجية وأشعة الشمس. إنّه زمن «وزير المراقبة الصحية والرقابة» النشيط، ورغم أن الطلّة تنقصه، يطلّ علينا يومياً بصور ومشاهد متلفزة لأكل معفن وديدان وغيرها في مصانع حلويات وهررة وجرذان في مزارع دجاج ومستودعات لحوم، وعلينا أن نشاهد هذه الصور المقززة على التلفزيون بالتزامن مع تناولنا طعام العشاء والغداء! كأن الوزير المذكور أول من أقفل مؤسسة لعدم احترامها المعايير الصحية في العالم كلّه، علماً أن المؤسسات تقفل في الغرب من قبل أجهزة الرقابة الصحية بلا هرج ومرج إعلامي، ولم نسمع شيئاً من الوزير المذكور عن قناني المياه وما في داخلها وما يطابق المعايير الصحية وما يخالفها، خاصة مادة BPA المسرطنة الموجودة في البلاستيك عادة. من البديهي أن تكون مياه الشرب أول ما يتطرق إليه الوزير بين المواد الغذائية، هذا إن لم تكن هناك قطبة مخفية تمنعه من ذلك في بلاد القطب المخفية، وخاصة في زمن اعتاد فيه المستهلك أن يثق بالسلعة تبعاً لروعة الصورة الدعائية الملصقة عليها، أو الإسم الخلاب أو الـ«Cool» الذي أضفاه معبّئها. و«الكنيسة القريبة لا تشفي»، على ما يقول المثل، كذلك بالمياه الآتية في قناني تحمل صور ثلوج جبال الألب الفرنسية أو التي أضيف على ملصقها الخلفي شرح طويل مسهب عن طبقة المياه الجوفية «اللذيذة» حيث تعبأ في جزيرة فيدجي، وعرف لاحقاً، رغم شاعرية النص، أنها تحتوي على نسبة قليلة من مادة الزرنيخ السامة وإن بكميات غير مؤذية! في حين أن مياه الشفة الموزعة مجاناً في بعض مدن الولايات المتحدة مثلاً تخلو من ذلك تماماً، وسكان جزيرة فيدجي مثل سكان «لبنان الأخضر» لا يسعهم الوصول إلى مياه الشفة من الحنفية معظم الأحيان، رغم أنهم يصدّرون الماء للعالم كله في قناني! وماذا لو علم سكان «لبنان» أنهم هم الأضحوكة وليسوا أبناء «اللبنانياذا» كما أرادونا أن نصدق في دولة الجنرال غورو. والحديث الظريف بين صديقين لي في كندا يعبر أفضل تعبير عن ذلك. كان صديق لي ناصع القلب يتأفف ويشكو أمره يوماً ويقول إنه لا يدري لِمَ ترفض زوجته الكندية الأصل والمنشأ مرافقته لزيارة البلاد صيفاً فأجابه الصديق الآخر: «ولِمَ العجب واللوم، القوم في كندا لو شربوا يوماً من باب الخطأ من حنفياتنا يقعون جثة هامدة ورأسهم في «المجلى» حالما يفرغون من إفراغ مياهنا الجوفية من جوفهم؟». الخبث والمبالغة في الإجابة ضروريان لإيصال الفكرة بالدرجة المطلوبة من الظرف. وصديق آخر زار ألمانيا حديثاً أيضاً لا تخلو مأساته الصغيرة من الفكاهة «السوداء»، فصاحبنا شعر بالعطش في ألمانيا وطلب ماء في الفندق فأتوا إليه بزجاجة مياه غازية شائعة في تلك البلاد ومفضلة لدى سكانها، ولم يستسغها صديقنا البتة لسوء حظه وأخذ يبحث عن مياه يسميها هو «طبيعية» ويقصد بذلك غير غازية، علماً أن معظم المياه الغازية في ألمانيا طبيعية ولم اللوم؟ والمثل يقول «كل على ذوقك والبس على ذوق الناس» وفات صائغي المثل إضافة كلمة «إشرب» إلى المثل في زمن كانت فيه المياه كلها نظيفة وصالحة للشرب. أخذ صاحبنا على عاتقه خطوة إنسانية عابرة للحدود للبحث عن الماء «الطبيعي» وهو لا يجيد اللغة، ووجد نفسه يصرف اليورو تلو اليورو في تاكسيات ميونيخ بحثاً عن زجاجة ماء يروي بها عطشه، بلغة «الإيماء والإشارة» يهتدي إلى الزجاجة تلو الزجاجة من المياه الغازية فحسب على اختلاف ألوانها، حتى وصل الفندق منهكاً عطشاً وهاتف قريباً له في بلاد الألمان طالباً العون فأرشده الأخير بعدما آلمته خاصرته من القهقهة إلى أقرب حنفية في غرفة الفندق ليملأ فيها كوبه وعلى حساب الفندق! أنا أيضاً عطشت في زيارة أو اثنتين إلى الوطن نسي خلالهما الأهل تخزين مياه البلاستيك في منزلي، ورحت أتأمل مياه «السيفون» بفم متصحّر عطشاً وبحنان تلك الليلة، ولم أجرؤ على الشرب فاستعضت عن المياه بالبيرة التي رفض البراد أن يتخلّى عنها بين زيارة وأخرى، ما زاد من ظمأي.

مع الشكر الجزيل للوزير النجيب على إقفال محلات للشاورما والكبة النية الفاسدة واستيراد شحنة جديدة من الشمع الأحمر أسبوعياً، حتى كاد ثمنه يرتفع عالمياً لازدياد الطلب عليه. وأرجو من الوزير في اليوم العالمي للمياه، أو بنسخته اللبنانية «اليوم العالمي للبلاستيك»، أن يكف عن هذه العراضة الإعلامية ويعمل صامتاً لتزويدنا ماء الحياة في بلاد المجارير الجارية.

أبو أليسار، كاتب سوري من جبل لبنان،

موقعه على الإنترنت www.gkaram.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى