ضعف واستضعاف بلا حدود
عصام نعمان
استضعفوك فوصفوك.
هذه هي حال العرب اليوم. الضعف في كل مكان، تقريباً، وعلى جميع المستويات. ولعل أخطر أنواع الضعف انعدام الإرادة إذ يفضي إلى انعدام الوزن.
أجل، العرب اليوم في حال انعدام الوزن. وعندما يكونون كذلك يوفّرون للأعداء والخصوم والمتربصين بهم فرصاً شتى للنيل منهم بكل الوسائل المتاحة.
استضعفوك فوصفوك.
هذه هي حالنا اليوم: لا حدود لضعفنا، ولا حدود لما يمكن أن يفعله أعداؤنا بنا.
كنا نشكو، غالب الأحيان، من أننا لا نمارس حيال أفعال الأعداء والخصوم إلا رد الفعل. اليوم لا نمارس حتى أبسط أنواع ردّ الفعل.
لا فعل ولا رد فعل. أليس هو الضعف الساطع بأجلى حدّته وفظاظته؟
هذا الحكم القاسي لا ينطبق على المقاومة والمقاومين. إنهم الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. لا «قاعدة» أسامه بن لادن والظواهري والبغدادي بل قاعدة الضعف السادر، الشامل، الطاغي، الكثيف المخيّم علينا من المحيط الفاتر إلى الخليج الفائر.
لأننا على هذا القدر من الضعف، لا يتوانى الأعداء عن استضعافنا في كل آن ولأي سبب أو دافع أو غرض.
إن المرء ليعجب كيف لا يستضعفنا أعداؤنا اكثر مما يفعلون! لعل مردّ ذلك إلى أسباب وعوامل واعتبارات تتعلق بالأعداء والأغيار وليس بأصحاب الدار.
قلنا إن حال الضعف لا تنطبق على المقاومة والمقاومين. هؤلاء انتصروا على الضعف في نفوسهم فأصبح في إمكانهم أن يقتنصوا العدو في مواطن ضعفه. فالمقاومة، في التحليل الأخير، هي صراع أرادت ميدانها الأساس مكامن الضعف في أوضاع الأطراف المتصارعة. كل طرف يحاول اقتناص الطرف الآخر في مواطن ضعفه. بهذا المعنى تبدو المقاومة في جوهرها فعل ذكاء وتدبير أكثر مما هي فعل قوة وتدمير. غير أنها تبقى، في كل الأحوال، مشروطة بتوّفر الإرادة… إرادة الفعل والتصميم على ممارسة مزيد من الفعل.
كان ثمة سياسي لبناني يعتقد أن قوة لبنان في ضعفه. ترتّب على اعتماد هذه السياسة أن ضعفت الدولة حتى استقوت عليها الأطراف المحلية المتنازعة، ثم ما لبثت الأطراف الخارجية أن حضرت أو استحضرت، كلٌ لمأرب في نفسه أو في نفس من استدعاه، إلى ساحة الصراع وتصفية الحسابات حتى أصبح لبنان، سحابة خمس عشرة سنة، ميداناً لـِ»حرب الآخرين» على أرضه.
اليوم يبدو حكام العرب، في غالبيتهم، وكأنهم اعتمدوا، اختياراً أو اضطراراً، سياسة «قوة العرب في ضعفهم»!
معنى هذه السياسة التوقف عن التماس أسباب القوة والإمعان في التزام قواعد السكون والحيطة، والإقلاع عن التصدّي للمعتدي، والحرص على معاملته بالحسنى ليقلع من تلقاء نفسه عن غيه، والاحتماء بالقوي لرد كيد الضعفاء الذين يتنافسون على طلب رضاه.
أمّا مؤدّى هذه السياسة فاستسلام مريح بغبطة واستكانة للقدر الذي أصبح له، عند بعض الناس، اسم عَلَم يُدعى أميركا.
أمَا لضعفِ العُربِ آخر؟
بلى، شريطة أن نعترف بأن ضعفنا ليس حال حكامنا فحسب بل هو أيضاً واقع شعوبنا.
صحيح أن مسؤولية الحكام أكبر لأن قدرتهم على التصحيح أفعل، لكن صرخة الألم ودق ناقوس الخطر وإيقاظ النيام وهتك الأوهام تأتي دائماً من «تحت» وترتقي لتدوّي على مستوى «فوق» حيث أهل الحل والعقد.
الانتفاضة من «تحت» لتحريك من هم «فوق» لم تحدث ربما لأن النخبة أو الطليعة الملتزمة والمتصدية لم تتكوّن، أو لم تختمر، أو لم تتحرك على نحوٍ فاعل بعد.
النتيجة تبقى هي هي: ركود واستكانة تحاكي الاستسلام الكامل.
ليس أدل على أن الانتفاضة ممكنة سوى ما حدث في الجزائر إبّان الاحتلال الفرنسي وفي لبنان إبّان الاحتلال «الإسرائيلي» عام 1982. فقد نهضت الطليعة الملتزمةُ والمتصدية بمسؤوليتها وتجاوب معها الجمهور، أو معظمه، فأمكن قيام مقاومة منظّمة، طويلة النَفَس، شجاعة وحكيمة في آن، وحققت في الجزائر ولبنان انتصارات مدوّية.
الأمر نفسه حدث في فلسطين جزئياً، لكن الصعوبات والتحديات كانت أكبر وأكثر تعقيداً فما استطاعت الانتفاضة أن تحقق النصر المشتهى.
لعل العامل الأساس في كبح الانتفاضة الفلسطينية هو هجمات أيلول 2001 في نيويورك وواشنطن التي دفعت إدارة بوش الابن إلى الانتقال من موقف دعم «إسرائيل» إلى موقف إشراكها في الهجوم الشامل الذي شنته على الوجود العربي، شعوباً وحكومات وثقافة.
لقد أصبحنا هدف حرب شاملة من طرف الولايات المتحدة و«إسرائيل» في آن. غير أن ردة فعلنا على صعيدي الوعي والحركة لم ترتقِ بعد إلى مستوى فهم المعركة على هذا الأساس.
القصور في الوعي والحركة وبالتالي المواجهة العربية للهجوم الأميركي الصهيوني مكّن «إسرائيل» التوسعية، مدعومةً بإدارة بوش الإمبراطورية، من تصعيد هجمتها الوحشية على الانتفاضة الفلسطينية التي كانت بلغت إحدى ذراها. هذا مع العلم أن الهجمة «الإسرائيلية» هي جزء من المخطط الإمبراطوري الأميركي الشامل الرامي إلى إعادة تشكيل المنطقة على نحوٍ يخدم المصالح الأميركية في الحاضر والمستقبل.
ما لم يرتقِ فهمنا للأحداث إلى مستوى الربط بين الهجمة «الإسرائيلية» والهجوم الأميركي الشامل ومواجهتهما معاً، فإن وعينا سيبقى قاصراً وقدرتنا على الرد والمواجهة ستبقى خجولة ومحدودة.
مهما يكن من أمر، فإن الشارع العربي، على الأقل، مدعو إلى الانفعال بالحدث الفلسطيني الجلل وبالتالي التأجج والتحرك بفعالية لمجابهة الهجوم الأميركي الصهيوني بجدارٍ عال من الممانعة والرفض والتعبئة الوطنية والفعالية الشعبية ضد المصالح الأميركية الصهيونية في المنطقة.
العرب مدعوون لسلوك هذا النهج، أقلّه عرب دول الطوق مصر والأردن وسورية والعراق ولبنان وذلك لضمان حالة من الغليان والحركة الفاعلة، السياسية والميدانية، تمنع نتنياهو وحلفاءه من افتراس الشعب الفلسطيني وشلّ مقاومته الباسلة وتمنع التنظيمات الإسلاموية الإرهابية من السيطرة على العراق وسورية ولبنان وليبيا واليمن.
ومع أننا لا نأمل خيراً من مؤتمر القمة في شرم الشيخ، فإنه لا يسعنا إلاّ مصارحة أركانه بأن عدم ارتقائهم إلى مستوى خطورة المرحلة والأخطار التي تهدد الأمة بممارسات التحدي الإسلاموي الإرهابي والشعب الفلسطيني بالهجمة الأميركية – الصهيونية المتجددة، سيعمق فجوة الثقة بين الشعوب والحكام ويوسّع رقعة السخط والكراهية والعداء. فهل يعقل أن يعالج القادة، أو بعضهم، تحديات بالغة الخطورة ومصيرية الطابع بعقلية الحضيض وهم في مرتبة القمة؟
الحكمة مطلوبة دائماً في سلوك الحكام. لكنها إذا لم تكن مقرونة بالشجاعة في ظروف تتطلب الكثير منها، فإنها تغدو تعبيراً فظاً عن الخنوع والهوان.
كمْ من أندلس وفلسطين، بل كم من أجيال وأزمان، نحتاجها كي نصبح أمة لا تضحك من جهلها – وخنوعها الأمم؟
وزير سابق