الناقد الإنكليزيّ بيتر أكرويد يرصد الحقائق والوقائع في سيرة شكسبير
صدرت حديثاً الطبعة العربية الثانية من كتاب «شكسبير السيرة» لمؤلفه الشاعر والروائي والناقد الإنكليزي بيتر أكرويد، ترجمة عارف حديقة منشورات «جرّوس برس» بيروت . وفي هذه السيرة يخوض أكرويد تفاصيل شتى عن حياة شكسبير الاجتماعية، ورؤيته الفكرية والسياسية والدينية، ووضعه الاقتصادي، وإنتاجاته الدرامية والشعرية، ومكانته الإبداعية بين معاصريه.
يتعرض أكرويد في كتابه للاحتمال الذي بحث فيه ستيفن جرينبلات، وبارك هونان، وآخرون، وهو أن شكسبير ربما كان مسيحياً كاثوليكياً، أسوة بأهل مدينته ستراتفورد، ويتوصل أكرويد في تأملاته إلى أنه لم يكن على الأرجح مؤمناً البتّة، وبقي متجرّداً على نحو متعمد حتى في المسائل الخاصة به أو السرية. ويبدو أن اهتمامه الأساسي، خارج الإبداع، كان منصباً على إدامة موارده المالية. ويستنتج أكرويد من ذلك أن شكسبير ربما كان بخيلاً جداً إلى حد أن جيرانه في ستراتفورد كانوا يتذمرون منه، ويعيبون عليه ادّخاره الشعير. ومن علامات بخله أنه أورث في وصيته بعشرة باوندات فحسب لأحد فقراء المدينة، رغم من كونه ثرياً.
يفترض أكرويد أن أسرة شكسبير سلالة قديمة من أصول نورماندية، وأن أول ظهور لهذه الكنية في السجلات الإنكليزية كان عام 1248 لشخص يحمل الاسم نفسه قدم من قرية كلوبتون، معرفاً القارئ بأسرته، ومبيناً الظروف التي عاشها مع والديه، مستعرضاً المراحل التي مرّ بها منذ طفولته والمدارس التي التحق بها، والعروض المسرحية التي نشأ عليها حين كانت الفرق التي تؤديها تزور ستراتفورد، كذلك الدقة والصرامة التي خضعت لها مدارس ذلك العصر لإدراك دورها في تدريب المجتمع ذاته، ودورها في حياة الشعر من خلال العلوم المختلفة التي كانت تقدمها من خلال مضامين النحو واللغات إلى فن الخطابة والثقافة الشفوية، إذ كان لزاماً على كل شخص أن تكون له حيويته الخاصة به لناحية الإلقاء واللفظ، والحوار.
يؤكد أكرويد أن شكسبير كائن جنسي على نحو مفرط، ففي مسرحياته من البذاءة أكثر مما في مسرحيات معاصريه. ويقارن بين هذا الإفراط الجنسي في التأليف، والشحّ أو البخل في حياته الاجتماعية، مؤكداً على أن مثل هذه التناقضات تزخر بها شخصيته في صورة شاعر غامض. لكن أكرويد يتجنب اتخاذ سونيتات شكسبير مرجعاً يحيل على حياته الشخصية، منبهاً القارئ إلى أن مؤلفي السونيتات غالباً ما عبروا عن حالات، أو قدموا صوراً ذات علاقة ضعيفة بتجاربهم الحياتية. ويصف شكسبير بأنه كان ذا نزعة محافظة في معتقداته السياسية، وبأنه الكاتب المسرحي الوحيد في عصره الذي نجا من مشكلة التفويضات
رغم أن شكسبير، حسب مؤلف السيرة، ربما لم يكن يرى أسرته الخاصة أكثر من مرة في السنة، خلال حياته العملية، فإن نصوصه المسرحية تدور حول الأسرة أكثر من نصوص معاصريه. ويصف أكرويد شكسبير بأنه كان ذا نزعة محافظة في معتقداته السياسية، وبأنه الكاتب المسرحي الوحيد في عصره الذي نجا من مشكلة التفويضات، فشريعته تكشف عن أنه استمدّ الرؤية المعتمة للدهماء متعددي الرأس، كما أنه كان، بوصفه فناناً، مبدعاً مجدداً، فهو الكاتب المسرحي الإنكليزي الأول الذي جعل من الغناء جزءاً لا يتجزأ من المسرحية. وهكذا فإنه يعدّ خالق المسرح الموسيقي. ويضيف بأن شكسبير كان حكيماً، وبارعاً في تجسيد الاتجاه الشعبي، فلم يكن يقتبس ممّا يقرأه إلاّ ما يحتاج إليه فحسب. إن مخياله كان استيعابياً واسع الأفق، ما جعل فنه يفيد، على نحو مؤكد، من تجربته ممثلاً، وعضواً في فرقة مسرحية أمدته بنماذج الممثل لشخوصه الدرامية، والتغذية الاسترجاعية الدائرة في حواره. منحه العمل المغلق مع محترفي المسرح حدة ومضاء أكثر من الكتاب المسرحيين الذين لم يكونوا ممثلين مثله، ويفتقرون إلى براعته المشهدية.
يقارن أكرويد شكسبير مع ديكينز ويجد تقاطعات مثيرة للفضول بينهما، فكلاهما حقق نجاحاً كبيراً وكتب بلا انقطاع، ولم يحظ أي منهما بتعليم جامعي، ما يوحي نوعاً من التناقض الظاهري، ذلك أن كبار الكتاب الذين ساهموا في اللغة الإنكليزية ينحدرون من أوساط وبيئات متواضعة ويفتقرون إلى التعليم العالي.
يعتبر بيتر أكرويد من أشهر كتّاب السيرة المعاصرين في بريطانيا. ارتبط اسمه بسير أبرز الأدباء الإنكليز مثل ديكنز، وليم بليك، ت. س. إليوت، توماس مور وشكسبير. ومن أبرز رواياته: «أوراق أفلاطون: النبوءة»، «شاترتون»، «الضوء الأول»، «منزل الدكتور دي»، «أضواء لندن»، و«الخرّاط». ويجمع في أسلوبه الروائي بين تقنيات متعددة أكثرها أهمية النوع الذي يلغي الحدود بين كتابة السرد التخييلي وكتابة السيرة.