التعافي الاقتصادي… وسباق المسافات الطويلة
لمياء عاصي
ينتظر السوريون بفارغ الصبر، انتهاء الحرب القذرة التي فرضت عليهم، والتي دخلت عامها الخامس، وكبّدتهم خسائر هائلة في الأوراح والبنى التحتية والممتلكات، كما سبّبت الكثير من التداعيات الاقتصادية التي تجلت في: انكماش غير مسبوق في الناتج المحلي الإجمالي، وتدهور سعر الصرف للعملة السورية، وارتفاع معدل البطالة، حيث بات المستوى المعيشي المتدنّي أو الفقر هو أصعب التحديات التي تواجه السوريين، والحديث اليوم، هو عن رؤية وأهداف وشروط لازمة للبدء بتحقيق التعافي الاقتصادي… ضمن منظومة قيم وأولويات… لا البحث عن أرقام جافة لا تقدّم أيّ أفكار للخروج من عنق الزجاجة.
تعاني سورية اليوم، من قصور واضح في تلبية متطلبات التنمية، بسبب الحرب التي تؤدّي عادة إلى البؤس والفقر بتأثير توقف الكثير من المؤسسات والأنشطة الاقتصادية، وخروج رأس المال السوري من البلد، فالاحصائيات تتحدّث عن نسبة للفقراء بلغت 75 في المئة من مجموع الشعب السوري، ونتيجة لذلك حصلت تغيّرات سلبية كبيرة في نمط حياة الأسرة السورية، التي باتت بين مطرقة الحرب وسندان الفقر، السؤال الذي يطرح نفسه اليوم بجدية: ولكن هل يمكن الحديث عن التعافي الاقتصادي في أجواء ما زالت الحرب ترخي بظلالها السوداء على البلد وأهلها؟ هل يجب أن تنتظر الحكومة انتهاء حالة الحرب حتى تقرّر خطواتها الضرورية باتجاه التنمية والتعافي الاقتصادي؟ ألا تفاقِم حالة الفقر الصعوبات الهائلة التي يواجهها الناس بسبب الحرب في البلد؟ هل نملك الوقت الكافي للانتظار، والاكتفاء بما اصطلح على تسميته بالحلول الإسعافية؟
في حالة الأزمات والحروب في الدول الأخرى، تقوم الحكومات بالتفكير، في إيجاد مخارج اقتصادية لمواطنيها ليتمكنوا من مواجهة الظروف الصعبة، ماذا عن الحياة الاقتصادية في سورية؟ حيث تسيطر ثلاث ظواهر رئيسية:
ـ الأولى: الفقر الذي شمل أكثر من 80 في المئة من السوريين. ـ الثانية: التفاوت الشديد في مستويات الدخل، بين نسبة قليلة جداً من الناس يحصلون على دخول عالية بسبب استغلال أوضاع الأزمة وهم من سُمّوا بتجار ومستغلي الأزمة الذين تمكنوا من استغلال ظروف الناس وفاقموا مأساتهم لتكوين ثروات، ستؤدّي إلى تعميق التفاوت في مستويات الدخول والثروات.
ـ الثالثة: انتشار الفساد في الكثير من مفاصل القرار الحكومي وفي كلّ المستويات، انّ تلك الظواهر الثلاث، ترفع درجة البؤس الاقتصادي والإنساني إلى حدود تكاد تطال معظم السوريين، وتجعل مهمة البحث عن مخارج أو نقاط ارتكاز للبدء بعملية التعافي الاقتصادي أمراً غاية في الأهمية والصعوبة.
إنّ بدء المسار الصعب والمعقد للتعافي الاقتصادي… يحتاج إلى الكثير من الجهود في المراحل التحضيرية، وأولى الخطوات الضرورية هي بناء المؤسسات العامة الكفوءة القادرة على استنباط الحلول اللازمة لمشاكل جديدة، وبالتعاون والشراكة مع أطراف وشركاء جدد، حتى لو كانت تلك المؤسسات على شكل بؤر إيجابية، المهم أن تتمكن من إحداث فرق في مفاصل اتخاذ القرار الحكومي، لصالح التعافي الاقتصادي.
تتميّز فترة التعافي بشكل عام، بمستويات عالية من النمو في الناتج المحلي الإجمالي وارتفاع في معدلات التشغيل وانخفاض البطالة، يتبع ذلك انخفاض في مستوى العجز المالي وغيرها من حسابات الاقتصاد الكلي، وبما أنّ الناتج الإجمالي المحلي، يعبّر عن إجمالي السلع والخدمات المنتجة في بلد ما خلال فترة معينة، معنى ذلك أنّ رفع حجم هذا الناتج يستلزم إعادة تأهيل وتشغيل المؤسسات الإنتاجية إضافة إلى سلاسل الإنتاج وعمليات التصدير والاستيراد والنقل والتوزيع، فهل يمكن القيام برفع الناتج المحلي الإجمالي، بدون تحسين بنية المؤسسات العامة والخاصة وترابطها، وتغيير آليات عملها؟ على الأقلّ للمؤسسات الأكثر تأثيراً على العملية الإنتاجية، حيث أنه من خلال ملاحظة الأداء العام للمؤسسات الاقتصادية، نجد أنها لم تحرز أيّ تقدّم مع ذهاب وزير أو مدير عام وقدوم آخرين، بدون تغيير عميق وجذري في البنية المؤسساتية، بل أحيانا يحصل تراجع… ويردّد بعض الناس «سقى الله ع أيامك… يا جورية»، السبب ليس أنّ الحكومة السابقة كانت أفضل أو أنّ اللاحقة أسوأ…! بل يكمن السرّ في أنّ التحدّيات الاقتصادية تزداد صعوبة… بينما تبقى آليات العمل كما هي… بالتالي يزداد إحساس الناس بالإحباط، وكأنهم حقل تجارب كلّ قادم جديد سيجرّب عليهم وصفة غير مضمونة النتائج، بعيداً عن المؤسسات.
تعاني البنية المؤسساتية الحالية من نقاط ضعف مركبة، نستطيع تلخيصها كما يلي:
أولاً: ضعف الكوادر البشرية سواء من حيث المستويات التعليمية أو في ما يتعلق بالتدريب والخبرات العملية.
ثانياً: عدم وضوح المهام والوظائف المناطة بالمؤسسات، واختلاط الوظائف والمهام وهشاشة الارتباط في ما بينها.
ثالثاً: ضعف آليات المحاسبة والرقابة، وعدم وجود الحوافز المناسبة لتنمية القدرات على التطوير والابتكار وإيجاد الحلول غير النمطية، ويفاقم نقاط الضعف المذكورة، الاستمرار في استخدام الأدوات والوسائل التقليدية القديمة، إذ تعتمد على المراسلات والسجلات الورقية مما يعيق رفع كفاءة العنصر البشري والمؤسسة معاً، مثال: مسؤولية الرقابة على الأسواق، تقوم بها عدة جهات، وزارة التجارة الداخلية التموين سابقاً ووزارة الصحة والمحافظة وكلّ من هذه الجهات لديها مخابرها الخاصة وموظفيها الذين يقومون بجولات مشتركة أو خاصة، ومع ذلك تبقى الأسواق تعجّ بالسلع المخالفة للأسعار والمواصفات وأغلبها مجهول المصدر، هذا يظهر أنّ نفس المهمة تقوم بها عدة جهات دون فاعلية تذكر.
درجت الحكومة في الآونة الأخيرة، على اتخاذ قرارات اسمتها بــ الحلول الإسعافية ، حيث يتمّ التركيز على إيجاد حلّ آني لمشكلة ضاغطة حالياً، ويظهر بعد وقت قليل، أنّ الحلول المتخذة سبّبت مشاكل أخرى أشدّ سوءاً، مثال، تفشل الحكومة في تأمين المازوت للناس، ويتسبّب ذلك النقص في مشاكل سواء للصناعة والإنتاج أو للجمهور الذي يعاني البرد ويريد استخدام مشتقات البترول للتدفئة، الأمر الذي يجعل الحكومة تتخذ قراراً بالسماح للقطاع الخاص باستيراد المادة وتوفيرها في الأسواق، يقوم القطاع الخاص بتأمين المادة ويبيع للمواطنين بالسعر الذي يتوازن عنده العرض والطلب، وفي ظلّ محدودية عدد من حصلوا على إجازات استيراد المازوت وبالتالي غياب المنافسة الحقيقية، يتمكن المستوردون من البيع بسعر أعلى من السعر الرسمي المعلن عنه، لسببين:
الأول: ضعف عملية الرقابة على الأسواق التي يجب أن تقوم بها، وزارة التجارة الداخلية.
الثاني: هو أنّ الموافقات لاستيراد المازوت مُنحت لعدد محدّد من التجار مما جعل العرض في السوق أقلّ من الطلب، وهذا يترجم إلى رفع الأسعار، بعد ذلك يصحو الجميع على ارتفاع كبير في سعر صرف الدولار أمام الليرة السورية، ويقدم المصرف المركزي تفسيره لارتفاع أسعار الصرف، ويلقي باللائمة على مستوردي المازوت وبيعهم للمادة بأسعار عالية مما أتاح لهم السيولة الكافية للمضاربة في سعر الصرف، ويدعو وزارة المالية إلى اقتطاع الضرائب من أولئك التجار، وبغضّ النظر عن دقة تفسيرات المصرف المركزي وصدقيتها في تفسير ارتفاع سعر الصرف، ولكن مثل هذه الأحداث، تطرح عدد من الأسئلة، عن قرارات الحكومة التي تسمّى «إسعافية»، وهي في الغالب غير مدروسة، تنجم عنها آثار ارتدادية سلبية، الكلّ يتنصّل من المسؤولية ويلقى باللائمة على الآخر.
أخيراً، لا بدّ من التأكيد بأنّ دراسة المشاكل بعمق، والتطوير الحقيقي والعميق للبنية المؤسساتية، والجرأة في مقاربة الملفات الشائكة والصعبة، بدءاً من موضوع التهرّب الضريبي، وملفات الفساد، والنزيف الحادّ الذي تسبّبه شركات القطاع العام من خلال الهدر وتعطيل الموارد… إضافة إلى التفكير من خارج الصنوق… هو ما نحتاجه لبدء سباق المسافات الطويلة… نحو التعافي الاقتصادي.