أفكار متقاطعة نيتشه ناقداً الميتافيزيك والأخلاق ونازعاً عن العالم صفات الكمال

جورج كعدي

أتابع هنا قراءة شائقة، فائقة الإمتاع فكريّاً، بدأتها السبت الفائت حول مقولة «موت الإنسان» التي درسها الدكتور عبد الرزّاق الدَوَاي في الخطاب الفلسفيّ المعاصر، من هايدغر إلى فوكو، مع عودة مرجعيّة وإسناديّة إلى خطاب فلسفيّ سابق متّصل بالنزعة الإنسانيّة Humanisme والأخلاق والميتافيزيك، ربطاً ومقارنة وبحثاً.

يرى الأكاديميّ المغربيّ أنّ النقد النيتشويّ للنزعة الإنسانيّة ينهض على فكرة أنّها ميتافيزيكية، وأن الميتافيزيك أو الماوراء هو بدوره عبارة عن أخلاق ويصطنع قيماً «زائفة» للواقع، متعالية عليه، قيماً مثاليّة تهدف إلى إخفاء مظاهر حقيقة الوجود القاسية وطمسها، إذ تذهل الإنسان وتفزعه وتتحطّم عندها أحلامه وأوهامه. ويمكن القول عن هذا النقد إنّه يسير في الاتجاه المعاكس تماماً للتقليد الفلسفيّ الكانطيّ. ففيما دعا كانط إلى ضرورة اعتبار أفكار الميتافيزيك مجرّد قيم لتأسيس الأخلاق ومسلّمات للفكر العلميّ، يرى نيتشه أنّ النقد الجذريّ للفكر الميتافيزيكيّ برمّته لا يتحقّق إلاّ بفضح حقيقته التي يتكمن في أنّه مجرّد أخلاق. ينتقد نيتشه الميتافيزيك ومفاهيمه الأساسيّة من زاوية أنّه تزييف صارخ ومتعمّد للوجود، فهو يحبك تصوّرات زائفة عن العالم، والحياة، وطبيعة الواقع، إذ يضفي على هذا الواقع أوهام الذات واستيهاماتها.

بنفاذه إلى عمق الفكر الميتافيزيكيّ، لا يكاد النقد النيتشويّ يختلف كثيراً، من حيث حوافزه ومراميه، عن صيغ النقد الكلاسيكيّ الذي يوجّه في المألوف إلى الميتافيزيك بمعناه المتداول في تاريخ الفلسفة، مذ ظهرت هذه العبارة أو المصطلح لدى شارحي أرسطو، ويتلخّص هذا المعنى في التأكيد على أنّ الميتافيزيك هو في جوهره تجاهل وابتعاد عن الواقع الحقيقي وتسامٍ إلى واقع آخر مختلف ووهميّ. يركّز الخطاب النقد النيتشويّ على هذا المضمون تحديداً عندما يحاول الكشف عن بنية الفكر الميتافيزيكيّ التي يماثلها في النهاية بالنموذج الفلسفيّ الأفلاطونيّ. فالميتافيزيك يتأسّس كلّه على نظريّة العالمين، عالم الظواهر وعالم الحقائق في ذاتها. بالنسبة إلى نيتشه، يتجاهل الميتافيزيك العالم الواقعيّ، الطبيعيّ، المحسوس، فيشيّد للإنسان عالماً آخر، مثاليّاً ووهميّاً تُخلع عليه جميع صفات الكمال، كالثبات والخير والخلود. ومن منظار هذا النقد، يبدو الميتافيزيك مجرّد هراء وهذيان فلسفيّ، والعالم الذي تتحدّث عنه عبارة عن عالم سرابيّ مليء بالأشباح.

الهدف من نقد الميتافيزيك، بحسب ما يُستشفّ من كتابات نيتشه الفلسفيّة، نزع الهالات الأسطوريّة عن صورة الإنسان مثلما رسمتها قرون عديدة من «الأكاذيب والأضاليل»، في تعبيره، وتبديد الأوهام حول طبيعة الوجود. فتلك الأساطير الفلسفيّة التي ساهمت في تثبيت أفكار إنكار الحياة وقتل الذات باسم قيم عليا مزعومة، أُعطيت أصولاً سماويّة أحياناً وأصولاً أرضيّة أحياناً أخرى، وحوّلت الفلسفة إلى تاريخ لخضوع الإنسان. ونقرأ في ثنايا رفض نيتشه لها، ضمناً أو صراحةً، دعوة إلى تطابق الفكر من جديد مع الحياة في جبروتها وتناقضاتها ولاأخلاقيّاتها، بعيداً عن الأوهام الميتافيزيكيّة. وقد لا نقع في خطاب نقد الميتافيزيك لدى نيتشه على ما هو أبلغ من عبارته عن «موت الله» للإيفاء بالدلالة الجذريّة التي يروم إعطاءها لمشروعه النقديّ: إسقاط جميع «الأخرويّات» الأفكار حول «الما بعد» وجميع العوالم الماورائية، ونسف جميع القيم والمثل العليا، خاصة تلك نشأت في فلسفة الأزمنة الحديثة: المنطق، العقل، الموضوعيّة، الفكر العلميّ، العلم ذاته، الثقافة، الاشتراكيّة، الديمقراطيّة… إلخ. يُعلن نقده عن تصدّع جميع الضمانات لإمكان تعقّل العالم ولمعقوليّته، وتشظّي جميع الحقائق، وتداعي سائر الهويّات وبينها بالطبع هويّة الإنسان التي أضحت مجرّد تعدّد وتشتّت واختلافات تختفي وراء وحدة وهميّة. وما عالمنا البشريّ، بثقافاته ومعارفه وعلومه، بتناقضاته وأحلامه وأوهامه، إلاّ نتاج للتأويلات التي تراكمت عبر تاريخ الفلسفة، والتي تخفي وراءها دوماً إرادة القوّة. عالمنا الإنسانيّ هذا محض تأويلات تطفو فوق خضمّ الوجود البلا قرار. وحده الوقوف عند هذه الحقيقة والاعتراف بها يمكن أن يساعدنا في نزع غشاوة التأويلات الميتافيزيكيّة في أعيننا، وييسّر علينا أن نكتشف في نهاية المطاف أنّنا تائهون في عالم لا تناسق فيه ولا انسجام بل هو «كلّه بشاعة وفوضى وعبث» على ما نقرأ في الفقرة 109 من كتاب نيتشه «العلم المرح».

هل يمكن العثور في هذه الآفاق العدمية التي تفتحها فلسفة نيتشه على مكان ما للنزعة الإنسانيّة؟ إنّ فلسفة نيتشه تعارض النزعة الإنسانيّة مثلما نفهمها، ليس لأنّها تشكّك في الأفكار والمبادئ التي تقوم عليها وتحرّكها فحسب، بل لأنها تعدّ أيضاً، وهذا أساسيّ، مصدراً لبثّ الفكر العدميّ، ومن غير المستغرب أنّها أضحت مرجعاً رئيسيّاً لأبرز تيّارات فلسفة «موت الإنسان» في الفكر المعاصر.

بيد أنّ نيتشه فشل، بحسب تأويل هايدغر لفلسفته، في القطع النهائيّ مع الجذور الميتافيزيكيّة، إذ لم يتحرّر تماماً من عادات التفكير في القيم، بل توهّم أنّ في الإمكان إنقاذ بعض القيم في النزعة العدميّة، فبعدما اعتبر قائمة القيم القديمة والحديثة لاغية، لم يلبث أن اقترح، ضمناً وبديلاً منها، قيماً أخرى لا تخرج مهما قيل عنها على دائرة فلسفة القيم، أي على ميدان الميتافيزيك. بقي نيتشه يعيّن الوجود في كلّيته ويفهمه من خلال «إرادة القوة»، كما حاول صوغ تصوّرات أخرى عن الحياة والعالم والحريّة والحقيقة، مقترحاً بالتالي تصوّراً جديداً لماهيّة الإنسان يُضاف إلى باقي التصوّرات التي أبدعتها النزعة الإنسانيّة. تظلّ فلسفة نيتشه إذن في نطاق الميتافيزيك، وإن كانت تعبّر عن «لحظة الانتقال من ميتافيزيك الفكر إلى ميتافيزيك الحياة»، في تعبير هايدغر أيضاً… يتبع .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى