فورد و«الموساد» وفرق الموت في الداخل الأوكراني
محمد أحمد الروسان
أبت جميع المعطيات إلاّ أن تقول إن خريطة طريق تغيير التوازنات الاستراتيجية الشرق أوسطية وبالتالي الدولية، يبدأ بالضرورة من دمشق، وينتهي بالضرورة في دمشق أيضاً، وهذا قاد ويقود الى وجود مشروع روسي مشترك مع دول البريكس اسمه عالم متعدد القطب، في مواجهة مشروع أميركي ودول أخرى اسمه الغطرسة والهيمنة الأميركية، عبر حذاء روسي مرفوع في الوجه الأميركي، ان بسبب المسألة السورية، أو بسبب المسألة الأوكرانية، أو بسبب الانحياز الأميركي الصارخ والحاد إلى الكيان الصهيوني في مواجهة الفلسطينيين والعرب.
سورية بديكتاتورية جغرافيتها السياسية، وموردها البشري ونسقها السياسي وجوهره «توليفة» حكمها السياسي، تعد بالنسبة إلى الغرب، بما فيه الولايات المتحدة الأميركية وعبر حلف الناتو الحربي، المدخل الاستراتيجي للسيطرة وبتفوق على المنظومة العسكرية الأممية الجديدة المتشكّلة بفعل المسألة السورية، ولاحتواء الصعود المتفاقم للنفوذ الروسي الأممي، والساعي الى عالم متعدد القطب عبر فعل الحدث الدمشقي ومفاعليه، وصلابة مؤسسات نواة الدولة الفدرالية الروسية إزاء ما يحصل في الشام من صراع فيها وعليها وحولها، فالروس يصحون وينامون ويتسامرون على وقع أوتار ما يجري في سورية.
آمال أميركية معلّقة على الحدث الأوكراني
تبني واشنطن، بتوجيه من البلدربيرغ الأميركي وعبر المجمّع الصناعي الحربي الأميركي، آمالاً كبيرة مع «تعويلاتها» الأفقية والرأسية على حليفها في الشرق الأوروبي، أوكرانيا، بسلطاتها الانقلابية الجديدة، ودورها الكبير في تهديد كينونة الفدرالية الروسيّة، وإعاقة صعودها الهادئ والثابت والمتواصل، عبر نشر القدرات العسكرية الأميركية المختلفة وقدرات حلفائها في الناتو، وتوظيفها وتوليفها في إشعالات للثورات الملونة من جديد، وعلى طريقة ما سمّي بـ»الربيع العربي» كي تجعل من الجغرافيا الأوكرانية وعبر حكّامها الانقلابيين، كحاجز رئيسي في الفصل بين الفدرالية الروسية وشرق أوروبا القارة العجوز، ما بعد ضم القرم الى روسيّا عبر استفتاء شعبوي ديمقراطي نزيه، عقب خسارة واشنطن والناتو من مزايا استخدام السواحل الأوكرانية في السيطرة والنفوذ على منطقة البحر الأسود، بسبب تداعيات الضم الروسي لقرمه باستفتاء شعبوي عميق.
تعمل الولايات المتحدة الأميركية الآن بشكل صريح وواضح مع «إسرائيل» في أوكرانيا إثر ضم القرم، ومن تجليات عملها العسكري والاستخباريّ والسياسي والدبلوماسي، زيارة رئيس وكالة الاستخبارات الأميركية جون برينان قبل أسبوعين الى كييف، برفقة ضبّاط من الموساد «الإسرائيلي» ومن أصول روسية وأوكرانية وخبراء من شعبة الاستخبارات العسكرية «الإسرائيلية»، تبعه جون بايدن نائب الرئيس الأميركي في خطوة استفزازية لموسكو وحواضن النفوذ الروسي في الداخل الأوكراني الساخن، فظهر التصعيد في مناطق شرق أوكرانيا مع امتدادات لهذا التصعيد في جنوب شرق أوكرانيا، وعبر استخدامات لبعض قطاعات الجيش الأوكراني المتحالف مع سلطات الانقلاب في كييف ضد المدنيين الموالين للروس في أقاليم شرق أوكرانيا وجنوبها. «إسرائيل» الكيان الصهيوني، تقوم الآن بدور خطير في أوكرانيا وهو دورها نفسه في الحدث الجورجي الروسي عام 2008، ففي الحدث الجورجي الأخير، قامت هذه الدولة الطارئة على الجغرافيا والتاريخ في منطقة الشرق الأوسط والعالم، بدور البروكسي الأميركي الذي نقل وينقل الدعم والمعونات الأميركية لنظام الرئيس ساكاشفيلي، حيث تم توقيع اتفاقية تعاون عسكري أمني بين «تل أبيب» وتبليسي حينذاك، خصصت جورجيا مطارين عسكريين في جنوب جورجيا لاستخدام القوّات «الإسرائيلية»، ووقعت أيضاً على المزيد من العقود مع الأطراف «الإسرائيلية» المعنية لجهة تأمين الحصول على المزيد من الأسلحة والعتاد والتدريب العسكري والأمني.
الدور «الإسرائيلي»
الآن، وكما أسلفنا، تقوم «اسرائيل» بالدور نفسه في الحدث الأوكراني، فوقّعت اتفاقيات عسكرية «إسرائيلية» مع سلطات الانقلاب في كييف، وبإشراف جون برينان مدير «سي أي إيه» وبوجود الخبراء «الإسرائيليين» وضبّاط الموساد المرافقين له، وأعدّ قادة وسلطات الانقلاب في كييف قائمة باحتياجات الجيش الأوكراني من الأسلحة والعتاد العسكري، مع وضع مجموعات اليمين المتطرف الأوكراني الموالي للغرب في الغرب الأوكراني تحت وأوامر محطة الموساد «الإسرائيلي» في الداخل الأوكراني، وتقول المعلومات إنّ مجتمعات لاستخبارات الأميركية و«الإسرائيلية»، تعمل على إعادة خلق وتخليق مجموعات من تنظيم «القاعدة» الإرهابي، عمودها الفقري من مقاتلين من القوقاز من شيشان وتتر وبعض شركس، الذين قاتلوا في سورية وعلى مدى ثلاث سنوات واكتسبوا مهارات قتالية، وسمعنا جميعاً تصريحات روبرت فورد الأخيرة صانع فرق الموت في العراق وفي سورية عندما قال بوقاحة سياسية تامة: على روسيّا أن تكون مستعدة للتعامل مع الشيشان وبعض أقرانهم من التتر والشركس لدى العودة الى مناطق عيشهم الأصلية حيث اكتسبوا مهارات كبيرة ومهمة في القتال.
التساؤل هنا، وعبر هذا القول المحفّز للتفكير على دقة الوصف: من المعروف للجميع أنّ «العاهرة»، أي عاهرة، لا تعلن توبتها الاّ بعد أن تلفظها الحياة بتمظهراتها المختلفة، وعبر الكبر والهرم نحو فتاة أخرى تصغرها وأجمل منها، وأكثر أنوثة وإثارة، بل تضجّ بالأنوثة فيسيل اللعاب الذكوري وأحياناً الأنثوي إن كانت العاهرة سحاقية، في هذه اللحظة التاريخية فحسب تعلن توبتها، فهل «العاهرة» روبرت فورد لم يعلن توبته بعد، رغم دمويته وأستاذه جون نغروبونتي في صناعة فرق الموت في السلفادور والعراق وسورية، والآن يقدّم أوراق اعتماد جديدة لجنين الحكومة الأممية «البلدربيرغ» عبر تصريحاته الأخيرة، ليصار إلى استدعائه لإنشاء فرق الموت في الداخل الأوكراني، من اليمين المتطرف في الغرب الأوكراني، وممن اكتسبوا مهارات القتال في الداخل السوري من بعض شيشان وبعض شركس وبعض تتر وبعض عرب، عبر منظومات الجهاد العالمي إزاء الفدرالية الروسية؟
موسكو تمدّ الجسور مع أوروبا
تدرك نواة الدولة الروسية القومية والوطنية، أنّ خيار التصعيد في أوكرانيا هو خيار أميركي «إسرائيلي» صرف وليس أوروبياً بامتياز، لذلك تمد موسكو الجسور مع أوروبا وترسل عدّة رسائل، في حين نجد أميركا تدفع أوروبا القارة العجوز نحو التصعيد مع روسيّا عبر الملف الأوكراني، لتبقى القارة الأوروبية تحت دائرة النفوذ الأميركي ولإبعاد روسيّا عنها. والدولة الأوروبية الوحيدة التي تحاول حفر قناة مستقلة بعيداً عن شقيقاتها الأوروبيات مع الفدرالية الروسية هي ألمانيا، أقوى اقتصاديات الدول الأوروبية وذات العلاقات الاقتصادية ألمانيا تعتمد تماماً على الغاز الروسي والاستخبارية مع موسكو، حيث التعاون الاستخباري المشترك والمتساوق في أكثر من ملف دولي وإقليمي وفي الشرق الأوسط، وكيف استطاع بوتين بسبب عمق خبرته بألمانيا ومجتمع استخباراتها أن يجعل خطوط التنسيق الأمني الروسي ـ الألماني «أوتوستراداً» واسعاً للقواسم الاستخبارية المشتركة والمتعددة، وخير مثال على ذلك: التحالف الاستخباري الروسي ـ الألماني مقابل تركيا وأدوارها في آسيا الوسطى والشرق الأوسط وفي الداخل الأوروبي.
يستخدم الغرب وأميركا أوكرانيا كدمية في اللعب الجيوسياسيّ مع روسيّا، كما يدفعان سلطات كييف الانقلابية إلى خوض حرب بالوكالة عنهما ضدّ روسيّا وأمنها القومي، تماماً مثلما يفعلان في الحدث السوري عبر دفع الأتراك وبعض مملكات القلق الخليجي وبعض العرب و«زومبياتهم» الإرهابية لتدمير الدولة الوطنية السورية. وأميركا والغرب هما اللذان دمّرا اتفاق جنيف الأخير حول أوكرانيا، في حين تمسّكت به روسيا. وروسيا تعتبر أوكرانيا – كييف بسلطاتها الانقلابية الجديدة ودول شرق أوروبا الأخرى بمثابة القاعدة الأميركية «الإسرائيلية» المتقدمة لاستهداف موسكو، كما تؤمّن هذه القاعدة الأميركية «الإسرائيلية» سيطرة واشنطن على الموارد النفطية في منطقة بحر قزوين وآسيا الوسطى.
رأى العالم كلّه المناورات العسكرية الروسية المفاجئة حديثاً في بحر قزوين بحر الخزر، بحسب التسمية الإيرانية ، وأثناء اجتماعات للدول الخمس المطلة عليه لبحث اتفاقيات إطار قانوني حوله، وهل هو بحر مغلق أم بحيرة؟ فتحديد وصفه هذا يبيّن الأساس القانوني البحري لتقاسم الثروات وتبعاً لمقتضيات القانون البحري الدولي والاتفاقيات بين الدول، كي يصار في النهاية إلى تقسيم الثروات الطبيعية الزاخره في عمقه، وكانت إيران حاضرة بقوّة بوصفها دولة مطلة على هذا البحر الذي تفوق جودة نفطه وغازه جودة نفط الخليج وغازه في المنطقة العربية.
واشنطن قلقة
إنّ ما يقلق واشنطن قدرة روسيا وإمكاناتها الكبيرة، في توفير خيارات استراتيجية بديلة لمجمل قطاعات المجتمع الدولي وقطاعات المجتمعات العربية ومشاكلها مع الآخر، ومن شأن ذلك مثلما يتحدث معظم الخبراء إضعاف الدور الأميركي على العالم وفي الشرق الأوسط، بعبارة أخرى وعلى ما أحسب وأعتقد، أن يضعف ويقلّل من الدور الرعوي الديكتاتوري المغلّف بغلاف الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والحاكمية الرشيدة، لواشنطن على العالم وقلبه الشرق الأوسط، وقلب الأخير سورية بنسقها السياسي وديكتاتورية جغرافيتها. وهذا القدر الروسي المتصاعد من شأنه أيضاً من الزاوية الأميركية أن يدفع الكثير من الدول والساحات، خاصةً في العالم العربي، الى العلاقات القوية والمتينة مع موسكو، وعلى قاعدة التنويع في العلاقات الدولية المتوازنة.
ما يقلق الأميركيين أيضاً، أيّ تحالف ألماني ـ روسي، فواشنطن على ما ذكرنا تسعى الى إبعاد أوروبا مجتمعةً عن روسيا، والعكس أيضاً، وبأي طريقة، ولهذا الموقف الأميركي أبعاد استراتيجية مركبة، فنلحظ ونرى ونلمس دفعاً أمريكيّاً لألمانيا للتورط في الحدث الأوكراني سياسيّاً واقتصادياً وأمنياً وعسكرياً، رغم مقاومة ألمانيا هذا الدفع الأميركي الجنوني، واجتراحها وحفرها قناة مستقلة مع موسكو بعيداً عن شقيقاتها الأوروبيات. ويثير مخاوف الولايات المتحدة الأميركية في الفدرالية الروسية ترجمة موسكو لصعودها العالمي مجدداً عبر تشكيل روسيّا تكتلاً عالمياً مع بكين والهند والبرازيل عام 2009 عبر إنشاء مجموعة البريكس، ثم انضمام دولة جنوب أفريقيا إليها لاحقاً عام 2010، وأظهر هذا التجمّع الدولي والتكتل فاعليته عبر ثلاثة استخدامات للفيتو الصيني الروسي المزدوج في المسألة السورية، وهي أكبر أزمة تحدث ما بعد انتهاء الحرب الباردة، الأزمة الأوكرانية والآن في عقابيلها المختلفة.
بلى، بتحالف موسكو مع إيران والصين وباقي دول البريكس، منعت المحور الأميركي الأوروبي التركي الخليجي وبعض العرب من تحقيق أجنداته عبر الصراع السوري، والأخير تحوّل ساحات مكثفة للمجابهات الدولية الإقليمية وعبر حطب سوري متعدّد، والأزمة الأوكرانية إنتاج طبيعي لحالات الكباش الروسي الأميركي المتصاعد والحاد والعرضي في المسألة السورية.
انّ روسيّا الصاعدة وذات الشعور القومي المتصاعد بزعامة الزعيم فلاديمير بوتين، تنال الدعم المطلق من قاعدة اجتماعية روسية واسعة، فالقوميون الروس والشيوعيون والكنيسة الأرثوذوكسية في كتلة واحدة داعمة ومؤيدة له وكحاضنة شعبوية ودينية وسياسية، إذ استطاع الرئيس الروسي أن يعيد بناء النزعة القومية الروسية والمدعّمة والمدرّعة بنزعة سلافية تشجعها وتدعمها الكنيسة الدينية الأرثوذوكسية، حيث انفتاح بوتين على الأخيرة واستدعائه الروح القومية الروسية في مواجهة الغطرسة الأميركية، ومواجهة هذا الجنون المرتبك نتيجةً متاهات العاصمة الأميركية واشنطن.
بات الروس أكثر توقاً وشوقاً الى تأسيس لبنات نظام عالمي جديد متعدد القطب، يولد من رحم الأزمات، عبر ما وفّره ويوفّره الحدثان السوري والأوكراني، والأخير ومثلما ذكرنا هو نتاج طبيعي لحالة الكباش الروسي ـ الأميركي الحاد في سورية، بل أنّ شكل العالم الحديث بدأ يتشكل في من سورية، والأزمة الأوكرانية ما هي الاّ داعم آخر على طريق تعدّد القطب.
محامٍ عضو المكتب السياسي للحركة الشعبية الأردنية
Mohd ahamd2003 yahoo.com
www.roussanlegal.0pi.com