منصور عازار: المناضل حتى الرمق الأخير

فادي عبّود

يؤلمني أن ينتقل خالي الأمين منصور عازار إلى دنيا الحق وأنا خارج البلاد، وتزدحم الذكريات في رأسي والحنين إلى أيام تتلمذت فيها على يد «الخال»، المناضل العريق الذي عشق الحياة وعاشها بملئها مستفيداً من كلّ لحظة لينتج ويعمل ويناضل ويكتب.

لقد كنت شاباً يافعاً عندما طُبعت شخصيتي بأفكار الأمين منصور عازار، فكنت ألتهم أفكاره التهاماً مكوّناً تفكيري القومي، والأفكار التي لم تفارقني في محطات حياتي، تعلّمت منه حبّ الزعيم، وقدسية الأمة، تعلمت منه أنّ العقل هو أساس كلّ الأفكار، وجّهني نحو اقتصاد الإنتاج والصناعة، دفعني الى أحضان الأستاذ جورج مصروعة لاكتساب ذخيرة فكرية رسّخت كياني، شهدت نضاله العنيد ومنه تعلّمت كيف نكون أبناء للحياة.

كنت أنتظر كلماته بشغف، بخاصة أنّ والدتي كانت الأكثر قرباً منه كونه يكبرها بسنتين وتربطهما علاقة مميّزة، كانت تصرّ على اللحاق به إلى قبرص والأردن حين كان مطلوباً في مرحلة ملاحقة أعضاء الحزب، فكنا نقضي أوقاتاً مميّزة مع الخال الذي كان ينشر الحيوية حوله أينما حلّ.

وكانت والدتي دائمة القلق على أخيها المناضل العنيد، فهي لم تتوانَ عن حمايته في كلّ الظروف، وأذكر قلقها الكبير عليه في عام 1961، فهي لم تنم لحظة ولم تهدأ حتى نجحت في تدبير تواريه عن الاعتقالات التي طاولت كلّ القوميين، ونجحت في تأمين ملجأ له، إلى حين هروبه، في أحد الأديرة بحكم صداقتها مع الأمّ المسؤولة، لقد كانا توأمين بالروح.

كم هو غنيّ منصور عازار في شخصيته، لقد ترجم مبادئه القومية في محطات حياته، فنقل المبادئ الكبرى الى المستوى العملي، مشدّداً على خلق مدخل إلى الاقتصاد القومي والاجتماعي، الذي اعتبره الأساس في بناء الأمة القوية، جاهد في سبيل إعلاء حركة قومية آمن بها، فانخرط في صفوفها في مستهلّ الشباب، وبقي مناضلاً حتى الرمق الأخير، ولم يتعب، حمل أفكاره الى أفريقيا التي هاجر إليها مؤسّساً مملكة صناعية، كتب ونشر الأفكار في مجلة «المنبر» ولم يتعب قلمه حتى بعد كتابه «التحية الأخيرة» والذي اختصر فيه قصة حياة ونضال، وعلاقة عشق بالزعيم وبالأمة.

أسطورة الاغتراب اللبناني في أفريقيا، الصناعي والمفكّر والإنسان «منصور مخايل عازار»، من القلة التي جعلت مبادئ سعاده خبزاً يومياً، في الاقتصاد والأعمال، في السياسة والنضال، وفي ترشحه للانتخابات في المتن في عام 1972 التي خاضها منفرداً وكان الوجه الجديد في المتن وحاز على أكثر من 6000 صوت، وكنت أعمل في ماكينته الانتخابية بكلّ شغف.

كان طيف منصور عازار مسيطراً على كلّ العائلة، فمن الصعب ان تتواجد قربه وأن لا يأسرك، فهو كان يسحرني عندما يقصّ عليّ مغامراته الحزبية، وكيف جاء من أفريقيا في رأس سنة 1961 وهو يعرف أنّ الحزب كان يخطط لانقلاب ولكنه لم يشارك في التخطيط ووصل قبل الانقلاب بعدة أيام وصار يللي صار…

مسيرة طويلة لم يتعب فيها ولم ييأس، فهو يعمل لأجيال لم تولد بعد.

اختار الخال ان يرحل في أسبوع الآلام وفي أسبوع استشهاد السيد المسيح كان يسمّيه استشهاداً وليس صلباً أو موتاً ، والذي كانت تربطه به علاقة روحية فريدة ومميّزة، فهو يعتبره المقاوم الأول والثائر الأول في سبيل الحق ضدّ كلّ الأفكار البائدة والمتحجّرة، الذي خلق أعظم ثورة في فلسطين، وهو علّمني أنّ الكاهن في طقسنا الماروني يُرسم على رتبة ملكي صادق رئيس الكهنة الكنعانيين، فكان المسيح بالنسبة إليه ابن أمته البار القومي الأول في هلاله الخصيب الذي أحبّه حتى الموت.

منصور عازار، المناضل الحزبي، الصناعي، رجل الأعمال، المفكر، المهاجر، الأب، الخال، الصديق، صفات تجتمع في شخص واحد، ولكن الأحبّ إلى قلبه يبقى أنه «ابن الزعيم» فحين تمّ سؤاله انه بالرغم من الاغتراب ما سرّ ارتباطه العميق بلبنان فأجاب: «نحن أبناء الزعيم، ودَمُنا يجري ويتدفق إقداماً ونضالاً من أجل سورية، دولة في كيان موحّد، قويّ، ثابت، مستمرّ، وضّاء، واعد».

أتقدّم بالعزاء، أولاً إلى والدتي التي سبقت أخاها الى دنيا الحق، لقد التقيتما أخيراً بالروح، ربما نفترق في الحياة المادية وتأخذنا الحياة إلى طرقات مختلفة، إلا أنّ اللقاء الأقوى يبقى اللقاء بالروح…

وأتقدّم بالتعزية إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي وإلى كل القوميين في الوطن والمغتربات… وأتقدم بأحرّ التعازي الى العائلة الكريمة معرباً عن حزني العميق للتواجد خارج لبنان في هذا الوقت الأليم بفقدان كبير عائلتنا الأستاذ منصور عازار.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى