لغز العقوبات في نووي إيران… من زوايا استراتيجية أبعد

حسن شقير

سواء كان الدخان النووي الخارج من لوزان، أبيض ناصعاً، أو حتى رمادياً، فإنّ المنشود من البيان السياسي غير الموقّع، أو حتى من الاتفاق الكلي لاحقاً، سيبقي لغز العقوبات الدولية المفروضة على إيران بسبب برنامجها النووي وآلية رفعها – والتي جرى التفاوض حولها في مدّ وجزرٍ شديدين في اليومين الماضيين ـ محط متابعة أوسع مما قد يعتقده البعض، وذلك من زوايا استراتيجية عدة، تفوق كلّ ما حُكي، ويُحكى عنه على الدوام.

استكمالاً لما ذهبت إليه في مقالتي السابقة، حول اختلاف النظرتين الأميركية والإيرانية في آليات وزمن مواجهة الإرهاب في المنطقة، وعلاقة ذلك في كونها العقدة الأساس في الرفض الإيراني للاتفاق المتتالي، والإصرار الحتمي على مسألة التزامن ما بين التوقيع والرفع، والذي يبدو أنّ مفاوضات لوزان بالأمس، قد ثبتت إلى حدّ كبير مبدأ التزامن في الاتفاق، وبالتالي فإنّ هذا الانتصار الثاني لإيران، بعد فصل سلال التفاوض، يفرض على المتابع أن يستشرف الزاوية الاستراتيجية لانعكاس هذا الرضوخ الأميركي الثاني.

في اليوم التالي لتثبيت الاتفاق المتزامن ستبدأ التحليلات والقراءات التي تُعنى بموقع ودور إيران الإقليمي، وكيف سينعكس هذا الاتفاق على الملفات الشائكة في المنطقة، سلباً أم إيجاباً، وستنقسم الآراء ضمن فسطاطين اثنين، أحدهما يذهب إلى أنّ عقد المنطقة قد وُضعت على طريق الحلّ، أما الآخر، واستناداً إلى ما يدور اليوم من أحداث كبرى في المنطقة، وتكوّن أحلاف جديدة، وقيام نواة لقوات عسكرية ضاربة… إنما يؤشر إلى أنّ ميدان الصراع سيغلق في النووي، ليفتح على مصراعيه في ما وراء النووي، وأمامه أيضاً.

في 2 كانون الأول من العام 2013، توصلتُ – ضمن مقالة على صفحات «البناء» – إلى أنّ نووي إيران، بعد توقيع الاتفاق المرحلي، قد فضح الخلاف الصهيو ـ أمريكي تماماً، وذلك في مجالات ثلاثة: العقوبات، البيئة الجغرافية العربية المستجدة، والإرهاب ومسار محاربته ومكوثه في المنطقة.

بعد الذي حدث بالأمس، يبدو أنّ رؤية أوباما في نظرته إلى هذه المجالات الثلاثة، هي التي فُرضت في لوزان – وذلك ضمن حساباته – فرفع العقوبات، وفقاً للمطلب الإيراني في التزامن، سيُستثمر – كتحقيقٍ لرؤية نتنياهو مع المفارقة – لدى أطراف الممانعة مجتمعين في تعزيز عرى التكامل بين الرأس الممانع والأذرع المحيطة بالكيان الصهيوني من جهة، وفي محاربة الإرهاب من جهة ثانية، والذي سيكرّر نموذج تكريت، سواء في العراق، أو حتى لاحقاً في سورية، فضلاً عن أنّ الدول العربية وتحديداً الخليجية منها، لا بدّ أنها ستخضع لمنطق الانكشاف المتزايد أمام النفوذ الإيراني – المتفلّت من قيود الملف النووي – في المنطقة، هذا فضلاً عن إمكانية بدء زمن مكوثها – أيّ هذه الدول – تحت مقصلة التساؤلات الداخلية، أو حتى الخارجية، وذلك تأسيساً على فقدانها لورقة ضغطٍ نووية، كانت تراهن عليها في يوم من الأيام.

بهذه النتائج الأولية، يكون الاتفاق المتزامن قد حقق لإيران قفزة طويلة في استعادة بوصلة الصراع مع الكيان الصهيوني، والذي جهد، وعلى مدى السنوات الخمس الماضية في حرفها عنه… الأمر الذي سيفتح الباب واسعاً أمام استحقاقات كبرى في المنطقة، كانت تقف حتى الأمس القريب، في ما وراء النووي.

إذا خرجنا قليلاً من هذه الزاوية، إلى زاوية استراتيجية أبعد من ذلك، والتي تندرج في سياق العلاقة الوثيقة في ما بين تطوّر نظرة الرأي العام في الداخل الإيراني إلى السياسة النووية في كلّ هذه السنوات التي خلت، فإننا نجد أنّ هذا التفاهم النووي الأوّلي، وهذا الإذعان الأميركي لمبدأ التزامن، سيحقق بدقة ما ذهبتُ إليه في مقالة سابقة، حول معركة الرأي العام في الملف النووي، بحيث أنّ أوباما يكون اليوم قد أحيا – دون أن يقصد – الرأي العام الثوري في إيران خلف قيادته المحافظة في تبنّيها للمرونة البطولية، وذلك بعدما كان يأمل أن يجهضه في اللعب على التتالي، وذلك وفقاً لعقيدة الحرب الناعمة التي يديرها منذ وصوله إلى البيت الأبيض، الأمر الذي سيجعل من إيران – الثورة أنموذجاً يُحتذى، أو على الأقلّ يُتوقف عنده، ولدى الكثير من النخب السياسية في العالم العربي، عاجلا ً كان ذلك أم أجلاً.

زاوية استراتيجية ثانية لا بدّ من الإضاءة عليها أيضاً، وهي جدلية العلاقة حول موقع الاتفاق النووي بحلته الإيرانية، في منظومة النظام العالمي الجديد، والذي يعيش العالم والمنطقة تحديداً مخاض ولادته العسيرة هذه الأيام، وذلك بفضل التحايل والاستماتة الأميركية بالتربّع في أحاديته السابقة، لذلك فإنّ الاتفاق المتزامن سيكون بلا شك عاملاً رافداً ومهماً في الولوج إلى عتبة النظام العالمي الجديد، وهذا مردّه إلى أن إيران المتحرّرة من سيف التتالي بين التوقيع والرفع، سيجعلها تدخل في هذه المنظومة الدولية الجديدة، كدولة قوية وقيمة مضافة لمن ينتظرها ويشاركها في ضرورة وأد النظام الدولي الأحادي، سواء منظمة شنغهاي، أو مجموعة «بريكس»، وغيرها من التكتلات الدولية والإقليمية الأخرى، والتي عانت الأمرّين من تلك الأحادية… وهذه الزاوية لا نعتقد أنها تغيب لحظة عن الفكر الاستراتيجي للعقل النووي المفاوض في لوزان.

خلاصة القول، وبعد ولوج عتبة الاتفاق الإيراني – الغربي في ما خصّ ملف العقوبات بأعمّها الأغلب، فإنّ ذلك ستكون له تداعيات كبرى على مسار العلاقات البينية، الدولية منها، فضلاً عن الإقليمية، لا بل انّ نماذج الحكم السياسي وآليات العمل الديبلوماسي فيها، ستكون محط نظر وتأمّل في المدى المنظور.

باحث وكاتب سياسي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى