«حكايات الحبّ الأوّل» لعمار علي حسن… نصوص تغوص في أعماق الروح
ما زال الكاتب عمار علي حسن قابضاً بأنامل إبداعه على عناصر الدهشة، إذ يعزف لحناً شجيّاً في أحدث كتبه «حكايات الحبّ الأوّل» الصادر عن «الدار المصرية ـ اللبنانية»، مقدّماً فيه مئة معزوفة تلتقي في لحن واحد هو لحن الغرام الضائع، أو الحبّ الأوّل الذي يفلت من قبضة القلب، فتظلّ الروح مشتعلة إلى الأبد!
وفي عمله الجديد، كتابة خاصة ونصوص تبحث في أعماق الروح، محورها الوحيد الحبّ الأوّل ومراوغاته الأسطورية وقهره السنين التي تمضي غير قادرة على إزاحته في روح الذاكرة، وذاكرة الروح، في مئة أقصوصة يستعيد فيها لحظات الدهشة الأولى التي تكبر بمرور الأيام وتتشكَّل، في القلب فلا يعرف إلى نسيانها سبيلاً.
تتميّز نغمات «حكايات الحبّ الأوّل» بتكثيفها الشديد، إذ لا تزيد بعض الحكايات على الأسطر الأربعة، بينما ثمة حكاية واحدة تشغل سطرين فحسب، هي الحكاية رقم 38 ويقول فيها: «كلما ذهبت إلى الصيد، يرتسم وجهها الساحر أمامي على صفحة الماء، فأُلملم شصّي وأعود بلا زاد». فيما تشغل الحكاية الأولى سبعة أسطر، وكان ممكناً أن تكون أقل من ذلك لو لم تُكتب الجمل الحوارية على نحو منفصل: «رنَّ الهاتف ذات صباحٍ، رفعتُ السماعة، فجاءني من بعيدٍ صوتها الذي لم أسمعه منذ عشرين سنة. صرخت في فرحٍ بِاسمها، فقالت صاحبة الصوت: نعم أنا. تهلّلت أساريري لأنني أخيراً وجدتها. وسألتها في لهفة: من أيِّ مكانٍ تتحدثين؟ ضحكت وقالت: من داخل نفسك التي لم أفارقها».
بهذين الأداء والإيقاع، ينتقل عمار علي حسن من زهرة إلى أخرى، بل من نغمة إلى أخرى. قد تقصر إحداها إلى درجة فلا تمسّ دورها وأهميتها، وقد تطول إحداها إلى درجة لا يملّ سامعها من اقتناص متعتها، وتتعانق النغمات كلّها لتُكوّن لحناً واحداً ندر أن ينجو منه قلب، أو تبرأ منه نفس: «الحبّ الأوّل».
ومثلما يظلّ هذا الحبّ صانع الدهشة الأولى، مرافقاً المحبّ طوال حياته إلى مماته، حتى وإن لم يشغل حيّزاً ظاهراً في مرايا الروح ومتاهات القلب، هكذا يعزف عمار علي حسن نغمات حبِّه الأوّل، ليس حبّه وحده، بل حب مئة محبّ فاتهم اقتناص متعة الوقت وتجميده تجاوز مِحن الحياة بما يمنحه الحبّ الأوّل للقلب والروح من سعادة تقاوم إحباطات الحياة وسخافاتها. لذا لم يتوقف القلب النابض ولا الروح الوثّابة عن البحث والتقصّي واستعادة تلك اللحظات المتأرّجة، أملاً في استرداد السعادة الغائبة وراء غابة التفاصيل اليومية للحياة القاسية، وفي رحلة بحثه لا يترك شيئاً: «ليست متواجدة على فايسبوك، لا اسماً ولا صورة ولا خبراً. لا شيء أبداً. أبحث عنها بحروف اسمها الرّباعي، فيأتي الاسم الأول مكرّراً مئات المرّات، أحياناً يتكرَّر الثاني بضع مرّاتٍ، أما الاسم الثالث فيتهادى مرّة أو اثنتين، والرابع لا أجده إطلاقاً. غابت عن العالم الافتراضي. في عالم الواقع لم أقابلها منذ افتراقنا. لا بدّ أنها حاضرة ولا ينقطع وجودها أبداً، لكن في عالمٍ لا أعرف عنه شيئاً. أغلق الكمبيوتر وأنسى الشوارع المفتوحة على غربتي، وأجلس وحيداً، أغمض عينيّ، وأبحث عنها في أعماق روحي». لكن الكاتب لا يغلق الكمبيوتر، ولا ينسى الشوارع المفتوحة على غربته، بل يستمر في رحلة البحث في أعماق الروح، بحروف لازوردية ناعمة تطارد الحبّ الأوّل كذكرى مخملية مقاومة جفاء الواقع، وتتجاوزه حتى لو استحال إلى صدمة مربكة بعد مرور السنين وقسوة الزمن.
«سمع امرأةً تنادي عليه بصوتٍ واهنٍ. توقَّف ونظر إليها، وصافحها بامتنانٍ وترك يده في يدها زمناً أطول ممّا فعل مع كلّ مصافحيه. لم يكن يعرف لماذا؟ ولِمَ وضع عينيه في عينيها مليّاً وابتسم لها وهو يهزّ رأسه؟ مضى في طريقه، وبعد خطواتٍ سأل صديقه القديم: من هذه السيدة؟ ابتسم عن أسنانٍ سوداء مثرمةٍ، وداس بيده على أحد منكبيه، وقال له: ألا تعرف من هذه؟ فأجاب: لا. قهقه وقال: يا لغرابة القدر! ثم مال على أذنه وهمس: حبّك الأوّل الذي هجرتنا كلّ هذه السنين حين ضاع منك. فارتجف كما كان في الزمن البعيد. توقّف والناس حوله، ثم استدار إليها ليراها وهي تبتعد في حارةٍ جانبية متوكئة على عصاها، وتمنّى لو كان وحده ليجري وراءها بكلّ ما تسعفه ساقان أضناهما زمن الغربة والفراق».
لا يتوقف الكاتب عن عزفه المتواصل للحبّ الأوّل، سوى في الحكاية رقم مئة، حيث الإغماضة الأخيرة حين يأتي النور «أصفر ناعساً أو فضيّاً جليّاً، ثم يسيل في فجاجٍ عميقةٍ نحو النهاية التي لا مفرّ منها. في الهالات السابحة بلا انقطاع تطلّ الوجوه التي راقت لنا، فيزيد النور نوراً، ثم تمتد أكفّ طرية، وتأخذنا على مهلٍ إلى بقعتنا الغنَاء في الفردوس، فننادي من أعماقنا السحيقة: أيتها الحبيبات. ثم نلملم أطراف النور ونتدثّر بها متنعّمين بالدفء والسكينة إلى الأبد».
عمار علي حسن، عضو اتحاد الكتاب ونادي القصّة في مصر، صدرت له ستّ روايات هي: «السلفي» و«سقوط الصمت» و«شجرة العابد» و«زهر الخريف» و«جدران المدى» و«حكاية شمردل»، وثلاث مجموعات قصصية هي: «التي هي أحزن» و«أحلام منسيّة» و«عرب العطيّات»، إلى كتابين في النقد الأدبي: «النصّ والسلطة والمجتمع: القيم السياسية في الرواية العربية» و«بهجة الحكايا: على خطى نجيب محفوظ»، وله تحت الطبع رواية «جبل الطير» ومجموعة «أخت روحي».