عن إشكالية العلاقة بين الثقافيّ والسياسيّ… و«هأنذا ثالثنا» لزاهر بولس
أحمد أشقر
بدايةً، عليّ أن أعترف أن زاهر صديقي، وشهادتي به تبقى مجروحة. الأمر الذي من شأنه أن يضع صدق ما أقوله ومصداقيته ومعقوليته، احتفاء بصدور ديوانه الأول على المِحك. لذا، أضع اليوم مقالي أمامكم وعلى مشرحة نقدكم.
عندما قرّر زاهر إصدار ما نشره من قصائد في صحيفة «الاتحاد» وبعض المواقع الإلكترونية في ديوان، دفع بالمخطوط لي، طالباً منّي إبداء رأيي فيه ـ كما أفعل أنا وغيري من الكتّاب والباحثين عندما ندفع بمخطوطات كُتُبنا للأصدقاء وذوي الاختصاص بالموضوع، لجمع الملاحظات والإضاءات المختلفة. بعد قراءتي المخطوط، اقترحت عليه تجاوز عدد من القصائد وعدم نشرها، والتي تبلغ حوالى ثلث الديوان، لأنها، وكما سوّغتُ الأمر لزاهر، قصائد مكتوبة بلغة سياسية مباشرة ولا ترتقي إلى مستوى باقي القصائد الفنّي. زاهر المثقف، والتشديد على مثقف ليس من باب المديح أو الإطراء، إنما من باب الالتزام بالحرّية والجمال كقيمتين يجب على الفرد أن يحياهما دوماً ويدعو إليهما دائماً. وعدني بدراسة الأمر، وقرّر بالتالي عدم نشر القصائد التي نصحته بتجاوزها. نتيجةً لما تقدّم، قرّرت أن يكون مقالي عن الإشكالية التي أعتقد بأنها ستبقى أبدية بين الثقافة والسياسة، وبين المثقف والسياسيّ تحديداً.
علّمتنا التجربتان العربية والفلسطينية أنه عندما يكون المثقف أو الأديب على علاقة بالسياسة، تكون الغلبة للسياسة. والسؤال المطروح هنا: هل هذه العلاقة سيئة؟ دعونا نستمع للجواب من الشاعر محمود درويش 1941 ـ 2008 ، كيف يصف هذه العلاقة وأهميتها، كما أكّد عليها في كلمة تأبينه إميل حبيبي 1921 ـ 1996 في الناصرة. قال درويش: «لقد شاءت طبيعة التطور التاريخي في تقاطع المصائر الإنسانية أن تجعل هذه الأرض المقدسة بلداً لشعبين وكنت أنت منذ البداية وحتى هذه اللحظة، أحد المنابر المتحركة الأقوى والأعلى، الداعية إلى سلام الشعوب. السلام القائم على العدل والمساواة ونفي احتكار الله والأرض، للوصول إلى المصالحة التاريخية بين الشعبين، مع قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس إذا كنا نلعب، فتلك هي شروط اللعبة، لساناً بلسان، لا طائرة ضد طائر. وفي هذه المنطقة أيضاً يتبطن المعنى ثانياً، ويلجأ إلى ذاته ساخراً من عبء رسالتها فيخفّ الحمل الثقيل من أجل الانتقال إلى حمل أثقل، في صحراء الإيقاع الذي لا يتوتر إلا لينسجم السياسي مع الأدبي». انسجام الأدبي مع السياسي دفع كل من حبيبي ودرويش أن يُنظّرا أدبياً لضرورة المصالحة مع الاحتلال أي التنازل عن 78 في المئة من وطننا مقابل دولة لن نراها على ما أعتقد على 22 في المئة من أرض وطننا. والسؤال هو: هل انسجام أدب حبيبي ودرويش مع السياسي انسجاماً سليماً أم لا؟ سيبقى السؤال مطروحاً ليس على أمثالي الذين يرفضون هذا الانسجام، بل على الذين يقبلون بشدة أو على مضض هذا الانسجام، لأن سلامة الانسجام تتعدّى ساحات السياسة لتلج فضاءات الحرّية والأخلاق والمستويات الفنّية للنصوص التي ينسجم فيها الأدبي مع السياسي، والتي أعتقد جازماً أن الأدب خسِرَ فيها ولم تربح السياسة أيضاً .
ما دمنا نتحدّث عن الانسجام أو الإشكالية بين المثقف والسياسي، وبين الأدب والسياسة، دعونا نقرأ قصيدة: «اروِ لي»، التي استهلّ بها زاهر بولس ديوانه، لنفهم مدى الإشكالية التي تطرحها بشدّة هذه القصيدة عن الثقافة والسياسة، والأديب والسياسي:
ما أنتَ؟! قُلْ لي… اِرْوِ لي
ما أنتَ..؟
حَتَى تَهِبَ كنعانَ آبائي لنسْلِ البَابِليّ…
قُلْ لي… اِرْوِ لي…
مَنْ أنتَ..؟
حتّى تُتَوِّجَ نَفْسَكَ إلهًا على مُلْكٍ سَليب
يا لستُ بَعْضَكَ ولَسْتَ كُلّي… قُلْ لي… اِرْوِ لي!
سَأمْحُوَ ما وَرَدَ في سِفْرِ التّكوينِ وسِفْرِ الخُروجِ والّلاوي
وأكتُبُ…
عِوَضًا عنكَ:
كِنعَانُ لي.
القصيدة التي يبلغ عدد كلماتها 57 كلمة فقط، تفجّر بين يدي قارئها إشكالية العلاقة بين الثقافة والسياسة لتتحوّل إلى ألف قضية وقضية في الحقول المعرفية المختلفة. مثلاً: في الجغرافيا ـ حدود كنعان أهي فلسطين الانتداب، أو تتجاوزها إلى بعض الأقطار العربية؟ في التاريخ ـ هل صراع كنعان مع نسل البابلي لا يزال مستمراً منذ القدم، أم هو صراع حديث؟ في الأديان ـ إلى متى سيبقى ما ورد في التناخ جزءاً من وعينا الديني كعرب مسيحيين ومسلمين ؟ وما هو الموقف والبرنامج الثقافي ـ السياسي الذي يتوجب علينا تبنّيه كي ينسجم الأدبي كِنعان لي مع السياسي في مشروعنا الوطني/القومي؟ هذه ليست مجرد أسئلة. وعلينا أن نذكر أيضاً أن زاهر ينتسب إلى الحزب الذي انتمى إليه كلّ من حبيبي ودرويش. والفرق بين الانتساب والانتماء، كالفرق بين رام الله ورام يهوه.
نعود إلى زاهر وديوانه كما أشرت في بداية المقال، حسم زاهر موقفه بانتصار الثقافي على السياسي. ليس فقط لأنه قبل اقتراحي بتجاوز بعض القصائد، بل لأنه يخرج دوماً من القوالب التي ورثها ـ وورثناها نحن كذلك ـ وتحوّلت إلى أيقونات في الشعر العربي المعاصر كما هي في العقيدة والمفهوم الدينيين، لينطلق إلى فضاءات تدعونا إلى قراءة ما ورثناه قراءة جديدة ومتجددة. في هذا السياق، يمكن مراجعة كتاب علي عشري زايد: استدعاء الرموز التراثية في الشعر العربي المعاصر ـ 1997، وكتابي: التوراتيات ـ 2005 .
نقرأ في قصيدته «مجرّد إنسان»:
سَيّدي
بالخُبز وحده
يحيا الإنسان.
سَيِّدي
كلام فيك
لا يشبع جوعان.
سَيّدي!
أنتَ لستَ سَيّدي،
وذو طبيعة واحدة…
سَيِّدي أنت…
مجرّد إنسان…
قراءته شخصية المسيح في هذه القصيدة إشكالية. فهي لا تحاول إعادة إنتاج المسيح كمخلّص وفادي ـ كما فعل غالبية الشعراء العرب المعاصرين ـ بل تعيده إلى ذاته فقط: مجرّد إنسان، مشتبك مع المؤمنين بالمسيح والسياسيين الذين يتودّدونهم ومع الشعراء العرب الذين أعادوا إنتاج صورة المسيح كما ترد في العقيدة المسيحية. بالمناسبة، لا يزال الخلاف حول طبيعة المسيح قائماً، ليس بين المؤمنين المسيحيين والآخرين، بل بين اللاهوتيين المسيحيين أنفسهم. يعتقد اللاهوتيان الكاثوليكيان «كونغ» و«فان إس»، أن المسيح: مجرّد إنسان.
ونقرأ في قصيدته «تمّوز… عائدٌ إلى حيفا» ما يلي:
«سيظلّ تمّوزكِ
يا كنعان
مالِك هذا الطين،
من سرمدٍ،
عبر الآن،
حتى يملّ هذا الزمان».
في هذا المقطع من القصيدة، يتحوّل الشاهد الشهيد غسّان كنفاني إلى الإله تموز، الإله المشرقي، مالك هذه الأرض مُلكاً سرمدياً من دون حدود زمنية لا يمكن التسوية عليها، الأمر الذي يتعارض مع الطروحات السياسية لتجاوز نكبة كنعان ـ فلسطين.
ويضيف أيضاً:
«فهو الذي مات سنابل،
وهو الذي بُعث قنابل،
وشبّه لكم ما عداه،
وهو الذي كالحيتان،
سيبتلع عِداه».
وفي هذا المقطع يستحضر المسيح، ليس الذي صدّرته لنا المسيحية والإسلام، بل المسيح الذي يُبعث ليقاتل قتالاً عنيفاً ويقضي على أعدائه. علينا أن نذكر هنا أنّ الرسالتين المسيحية والإسلامية صدّرتا لنا المسيح كشخصية مسالمة إلى درجة «إذا ضربك على خدك الأيمن أعطه خدك الأيسر» ولم تكترثا بحادثة طرده الصيارفة من الهيكل كما ورد في إنجيل متّى: «ودخل يسوع إلى هيكل الله وأخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام. وقال لهم: مكتوب بيت أبي بيت الصلاة وأنتم جعلتموه مغارة لصوص». وقراءة زاهر شخصية المسيح، حاولت استعادته من كاتدرائيات روما وبرلين ومدريد إلى بساتين كفر كنّا والقدس ليطرد الصيارفة منها.
ويضيف أيضاً:
«تموز…
عائدٌ إلى يبوس،
إلى شكمونة حيفا… وإلى يافا،
لا يستجدي أيّ قرار.
ليس في هذا الزمان..!
ربما..!
ولكن… إلى هذا المكان.
فالقداسة… دوماً للمكان».
تمّوز الإله المشرقي ـ غسّان كنفاني، الفلسطيني اللاجئ، سيعود إلى القدس، ليس إلى الجزء الشرقي منها، بل إلى القدس كلّها، وحيفا ويافا وترمز إلى كل فلسطين لا ينتظر القرارات الدولية المختلفة التي يتغنى بها سياسيونا من اليمين إلى اليسار، بل سيعود إلى أرض كنعان ـ فلسطين، المكان المقدّس ليس بقداسة دينية، بل بقداسة تحرّم أيّ تسوية عليها.
عندما نتحدث عن الإشكالية بين الثقافي والسياسي، فالحديث عن إمكانية التوفيق وكيفيته ـ إذا أمكن ـ بين موقفنا الثقافي والوجداني تجاه وطننا وتاريخه في هذا السياق على الأقل ومستقبله السياسي، أي موقفنا من أفق حلّ الصراع «العربي ـ الإسرائيلي» ـ كما يحلو للبعض وصفه. ومن خلال تجربتي البسيطة في العمل السياسي، كان السياسي ينتصر دائما بألف حجّة وحجّة واهية لم تُثمر أي حجّة منها. لذا بقيت حياتنا السياسية تفتقر إلى الأسس والقواعد الثقافية، أي بقي السياسي من دون مرجعية صلبة، ينطلق منها ويستند إليها في برامجه السياسية المختلفة. لذا، تغلّب العبث السياسيّ على الثقافيّ.
ويجب القول أيضاً: إذا كانت السياسة علم إدارة شؤون الدولة ـ كما يراها أحفاد الإغريق ـ أو سياسة الخيل وتطويعها ـ كما هي الحال عند العرب. فإن الثقافة هي حدود وجودنا وعلوّ هاماتنا من كنعان الأول إلى الفتى الغزاوي الذي يرفض أن يصدّق أن نوافذ القاهرة والرياض والدوحة تطلّ على بيادر حمامة وبيارات يافا وبساتين صفورية. والثقافة هي الدرب الذي سارت عليه جاهة إبن ملك أوغاريت إلى بئر السبع لخطبة ابنة ملكها زوجة له. والثقافة هي قوافل السادة تباركها آلهة البعل متوجهة من الجنوب إلى الجنوب. والثقافة هي ميثاق الشرف القومي الذي لا يمكن صرفه في 181 أو194 أو أوسلو أو اتفاق وقف العدوان الأخير على غزّة.
وأخيراً، يلزم أن نشير إلى نقطتين: الأولى: إن ديوان زاهر ديوان مثقف يقرأ السياسة بلغة الثقافة وأدواتها، منتصراً لها ويقرأ الثقافة بلغة الشعر العميق، منتصراً له. لذا، يحتاج الديوان إلى قرّاء يجيدون الغوص في بحور السياسة والثقافة والشعر معاً، من دون أن يغرقوا في أيّ منها. وشعر زاهر شعر رقيق ـ على رغم صعوبة أفكاره ومفرداته ـ لأنه يلامس شغاف الروح التي لن ترضخ أبداً للعبث السياسي. والثانية: إن ما قلته ليس دعوة للتخلّي عن السياسة والعمل السياسي، بل هو دعوة لتحويل السياسة إلى أداة ورافعة من أدوات الثقافة وروافعها في حقولها المختلفة.
كنت قد بحثت هذا الانسجام في كتابي «التوارتيات في شعر محمود درويش ـ من المقاومة إلى التسوية» الصادر عن «دار قدمس» عام 2005.